آراء متنوعة

قراءة للدكتور علي اليدري علمي “المغرب في قصيدة “من منا

ترجمة”نسرين محمد غلام

القصيدة”

نحن واقفون أمام محكمة بلا قاض
من منّا المتهم أمام الآخر
أنتَ كنتَ الرئيس للقافلة
ولم تكنْ على علمٍ بالطرق
تلك الطرق المؤدية
إلى صميم القلب
وأنا حلابة للأغنام
ولم أستطعْ أن أبلل فمكَ الجاف
بقطرةِ من الحليب
أنتَ كنتَ السبب!!
فى أنك لم تتعلمْ لغة النّهر
لكى يُعلمك
كيف تسيس الأمواج وتعبرُ البحار
وتوصلك إلىَّ
وأنا السبب!!
فى أنى أسأتُ إلى العصافير
وغضبتُ منّهم
بسبب أكلهم لسنابل القمح.

ماذا أفعل أنا
إن كنت أنت غير قادرٍ على
أن توقف علو الأمواج عند الشّاطئ
وعلمت أن النوم تحت شجرة عاريةٍ
من الأوراق فى ظهيرة الصّيف احتراق
وعلمتَ أن لا أحد
يستطيع منع حبات الثّلج من التّساقط
ولا منع انتثار متّك الأزهار
تعال وغنى لى
الأناشيد التى كتبتها بعد غروبِ الشّمسِ.

عزيزى قد وصلتَ متُاخرًا
لم تستطعْ أن تشمَ رائحة شعْرى ويدىّ
ولا أن ترجع روح وأنفاسى المسكوبة إلى منبعها
ولا أن تُعزى براعم آزهار قلبى
ولا أن تصبحَ ضيفًا فى وقتٍ غير مناسبٍ
ولم تستطع أن تشربَ على صدرى
كأسا من النبيذِ لأمنياتى المجنونة

قلْ لى
كيف أُفَهِمُ ذلك القاضى بأنّنى بريئة
كيف أراضى ذلك الطفل
الذى يطلبُ منّى أن ارضعه
وملتصق بصدرى ولم يتركنى بحالى
كيف أبوح لوالدتى بتلك الحقيقة
فى وقت هى لا علم لها بأحلامى البنفسجية

ماذا أفعل بأحلامى السّابقة
لا يستطعن أن يرفرفنَّ بأجنحتهنَّ
ويصلن إلى البستانِ
دموع الطفولة لا تتغير إلى ضحكات
ماذا أفعل بعشر أنامل لم تكتبْ
كونى خطيبتى
ماذا أفعل بشفتىّ
اللتين لم يتجرؤا على قول
كونى حبيبتى

آه.. أنتَ حبٌ كبيرُ يسكن وجدانى
مصدر من روحك
أو قطرة ماء أشرب منه
دخلتَ حياتى فى وقتٍ مجهولٍ
ليس باليد حيلةٍ..
أنا لم أكنْ قادرًا على أن أكون لك
لكنى أموت من أجلك.
++++++++++

سياق العمل

أصبح اسم كزال ابراهيم خدر منحوتا في ذاكرتي، مذ قرات لها قصيدة ” كلمات بعد الوداع ” وانجزت فيها قراءة. عطفا على قراءة الشاعر والناقد صلاح المغربي، الذي اتاح لي هذا الاكتشاف. وسيرتدي استكشافي غصة، عندما علمت من طرف ابنتها، والمستمرة في ادارة حسابها، أن الشاعرة كزال قد انتقلت الى دار البقاء. فلا أملك سوى الترحم عليها، تلطيفا للوقع.
في نفس الآن. وتحت تأثر الوقع الجميل للقصيدة سالفة الذكر. وغصة الفقد. قطعت على نفسي عهدا بأن انقب عن مأثور ما تركته الراحلة، وانجز فيه قراءة، تكريما لها. متوسما أنه لن يخلو من روعة، قياسا بما فاحت به القصيدة التي كانت جسر أول تواصل.

قراءة وتحليل

مفعما بعشق قبلي. مسلحا ببعض أدوات الحرفة، انتهت بي عملية التنقيب إلى اصطفاء قصيدة ” من منا المتهم!؟”، موضوعا للقراءة والتماهي. وكان العنوان كافيا لتعزيز هذا الاصطفاء. فهو بصيغة سؤال يتوخى كشف المتهم الحقيقي. فيضعنا على عتبة زخم من الافتراضات، تشي بقيمة شاعرية عالية.
إنه لمن سمو الحس الشاعري هنا إرجاء الإفصاح عن مضمون هذه التهمة، بغاية تأجيج شوق القارئ لاستكشافها. ناهيك عن كون السؤال تشاكس به الشاعرة طرفا ما. قد يكون في منطلقها شخص بعينه. لكننا، على بغتة، نجد انفسنا شركاء في طرح ذا السؤال. وطيه تمحيص حدود تورطنا في التهمة. كما أن السؤال بهذه الصيغة يعبر عن درجة عالية من الوعي. من خلال طرح الموضوع في مختبر التحقيق التشاركي، في تجاوز لنرجسية تبرئة الذات.
في هذه المساحة الفسيحة من الاحتمالات، المستضيئة بحكمة المقاربة. نستطيب، لا شك، مرافقة الشاعرة وهي تدلنا على تفاصيل القضية.
تقف الشاعرة، وتستوقفنا استنباطيا، قبالة ظنين، في محكمة ليس بها قاضي. لكنا سننتهي إلى أننا أمام قاضي القضاة، المالك لجوهر الحقيقة، ألا وهو ضميرنا. بكل طهره ونقائه وموضوعيته. نستفتيه في المتهم الحقيقي. هكذا تدعونا الشاعرة إلى التخلص من الشوائب والملوثات التي اعتلقت بذواتنا، ونحن نتحايل لامتلاك ما ليس لنا فيه حق. ونضلل المحيطين بنا حتى لا يكتشفوا عوراتنا. فنتلذذ وقوفا مزيفا على ركح الحياة.
تعالوا نقف عراة في محكمة الشاعرة. نعترف أمام ضمائرنا، بمسؤوليتنا سواء، في المطبة القائمة. هكذا، تبادر تبادر الشاعرة بتذكير الظنين تورطه، حين انيطت به مهمة قيادة القافلة. لكن كشف عن ضعف خبرة بالطريق. ذاك الطريق المودي الى نصفه الثاني، وهو قلبها. هكذا تبدو مسؤوليته ثابتة في كبوة الوصول إلى النبع المستطاب. وفي ذلك إشارة إلى ما يحمله الرجل من أفكار خاطئة في موضوع فهم المرأة، والتواصل معها. كأنما تدعونا إلى ضرورة اعادة النظر في المحمول المتوارث من أفكارنا. والتخلص من الشوائب التي تعتريها. في نفس الآن، لا تنأى بنفسها عن التهمة. بل بكل جرأة وشجاعة، تبرز حدود تورطها، حين عجزت، وهي حلابة للاغنام، عن تبليل فمه الجاف بقطرة حليب. في تعبير مجازي مدهش عن ورطة تقصيرها في تعهد الناشئ حتى يكبر ويثمر. انها درجة عالية من الوعي، والموضوعية والديمقراطية، تعبر عنها الشاعرة بتقاسم التهمة بينها. عندما غضبت من العصافير لأكلهم سنابل القمح. وبين الظنين لما قصر في تعلم لغة النهر، ليتعلم منه كيف يسيس الموج. وضمنيا، ثمة ايماء الى تقاسم التهمة بين الرجل والمرأة حول ما يعتري علائقهم الرجل من لبس، وتراشق. وتعتلي الفكرة بحصافتها أرقى درج، عندما ترتدي زيا شاعريا، من خلال جمالية اللغة، وبديع اساليب التعبير، وبهاء الصور.
وتواصل بنفس الإيقاع الجمالي مقاربة الموضوع. فتواجه ظنينها بحالة مكشوفة، مفاذها ان العجز منها وارد بثبوت، اذا ما كان التقصير منه واردا. كأن يقف عاجزا عن كبح أمواج البحر عند الشاطئ. ويتهور بالنوم وسط الظهيرة تحت شجرة عارية من الأوراق. إنه بذلك يفقد اية حجة ليشكو الاحتراق، أو هطول الثلج على جسده. وبمجاز مدهش، تدعوه ليغني لها الأناشيد التي كتبها بعد الغروب. ولعل التعبير هنا حمال لمعنيين على الأقل. أولهما مطالبته أن يصرح بالمشاريع التي شيدها سرا كلما ابتعد عنها. وثاني المعنيين، الكشف عن صدق حقيقته بعد ما أصبح البعد حدا بينهما. وبذلك تتيح للقارئ رفاها شاعريا ممتد الضفاف.
وبمنسوب أعلى من الثقة، كأنما تقلص هامش تورطها. ترمي ظنينها بكثير من قرائن تورطه. بدء بتأخره في الوصول. وتضييعه فرصة شم رائحة شعرها ويدها. وتقاعسه في تقديم العزاء لزهيرات قلبها. ولم يكن صادقا في تعهد أحلامها الباسقة. ليحضر هكذا ضيفا ثقيلا. إنها مؤشرات دالة بوضوخ على تورطه.
وتستبد بالشاعرة الحيرة وهي تحاول أن تقنع القاضي ببراءتها. ومراضاة طفل بالارضاع، وهو يلتصق بصدرها. والبوح لأمها بحقيقة أحلامها البنفسجية. إنها حيرة شاعرية في الصدع بحقيقة العشق في واقع يخلو من الشعراء.
وتواصل الحيرة الفتك بها أمام أحلامها السابقة. واستحالة تحول دموع طفولتها الى ضحكات. وقلم لا يجرؤ على كتابة: خطيبتي. وشفتين ترتبكان في نطق: حبيبتي. ويحتار القارئ كيف يفلت من هذه الحيرة. لكنه لن يحتار في تعبئة جرابه من متعة الشاعرية.
ثم تنتهي المقارعة إلى آهة استراحة للشاعرة وحشد قرائها. لتقر أن الظنين حب كبير يسكنها. وقطرة ماء تشرب منها. رغم دخوله لحياتها في وقت مجهول. فيما يقر هو أنه لم يكن قادرا على استيعابها. الا أنه مستعد للموت من أجلها. في اشارة الى أن الحب ربما يأتي صدفة. او هو هكذا قدر مقدر. لكنه في حاجة الى التعهد بالصدق، كي يكبر ويثمر.

خاتمة

أن تحضر معنا كزال ابراهيم خدر بكل هذه الثراء من الافكار، وبديع الصناعة، لهو مؤشر على سموقها كشاعرة فذة. يسعدنا أن نحتفي بها مع ذويها. وقرائها المخلصين.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!