قراءة في -عيد ميلاد ميت- لأحمد طايل: حين يتحوّل الموت إلى
حين وقع بين يديّ عمل بعنوان “عيد ميلاد ميت”، والذي نبهني إلى قراءته الكاتب جواد العوالي، اعتراني فضول غريب. العنوان وحده كفيل بأن يخلخل الطمأنينة الزائفة التي تسكن القارئ الكسول. لم يكن ذلك النوع من العناوين التي تسعى للاستفزاز الرخيص، بل هو عنوان يمسك بتلابيب الوجود ويطرحه على طاولة المساءلة: ما الذي يعنيه أن نحتفل بميلاد من رحل؟ وما الذي يبقى في الإنسان حين يموت، سوى صوته في ذاكرتنا؟
بهذا التوتر الأول، دخلت إلى الرواية لا كقارئ، بل كمتهم يبحث عن خيوط التهمة في دهاليز اللغة. وإذا بي أجدني أمام نص لا يعرض سردًا بقدر ما يفتح جرحًا. جرحًا ممتدًا بين الحياة والموت، بين القرية كجغرافيا والقرية كذاكرة، بين الإنسان ككائن يمشي على قدمين وبين الإنسان كحطام يتنفس بلا رغبة.
في قلب الريف المصري، يقف “الباشا” كشبح مهيب يُجسّد السلطة المتوارثة والهيبة المتآكلة، وتدور من حوله عجلة السرد في رواية عيد ميلاد ميت. ليس الباشا مجرد شخصية، بل مرآة تعكس انكسارات الأعراف القديمة وتفسخ القيم التي طالما شكّلت بنية العلاقات داخل القرية. وعبر هذا الكائن المتضخم بحكاياته وسلطته، يرسم أحمد طايل خريطة التحول المؤلم في نسيج المجتمع الريفي.
يمدّ الكاتب جسور السرد بين زمنين: زمن الآباء الذي يحاول أن يُمسك بالماء المتسرّب من بين أصابعه، وزمن الأبناء الذين يجدون أنفسهم في مواجهة ماضٍ يتقلّدهم كثقل لا يفهمونه تمامًا. في هذا السياق، يصبح الاحتفال بعيد ميلاد من رحل فعلًا عبثيًا بالغ الرمزية، يفتح الباب على مصراعيه لتأملات في معنى البقاء، وجدوى الحنين، ومرارة الخسارة. فـ”الميلاد” هنا ليس بداية، بل استدعاء ميتافيزيقي لزمن انقضى، ومحاولة يائسة لنفخ الروح في أطلال قيم اندثرت.
في “عيد ميلاد ميت” لا يُراد من القارئ أن يتعاطف، بل أن يتيقظ. الرواية لا تُغري، بل تُوقظ الغفلة. كل مشهد، كل تفصيلة، كل صمت، يُدَبّ بعناية في جسد الحكاية لتصنع نسيجًا هو أقرب إلى الكفن منه إلى السرد. ومع ذلك، لا تمارس الرواية أي شكل من أشكال الاستعطاف أو الرثاء. على العكس، فهي تمضي ببرودة جراحٍ مخضرم، تعرف كيف تفتح الجرح، لا لكي تُشفيه، بل لكي تفضحه.
لا تُبنى الرواية على حدث مركزي، بل على شعور مركزي: الحداد. وليس الحداد على ميت محدد، بل على زمن، على جيل، على مكانٍ فقد ذاته ولم يجد بديلاً سوى إعادة تمثيل جنازته مرارًا. الشخصيات في الرواية لا تعيش بقدر ما تُستهلك. تتحرك داخل النص كأشباح تعرف مصيرها، لكنها رغم ذلك تمارس طقوس الحياة اليومية كما لو كانت تُمثّل دورًا في مسرحية عبثية لا جمهور لها.
اللغة في هذا العمل ليست مجرد أداة نقل، بل هي كائن حيّ، يُفكر ويشعر ويقاوم. أحمد طايل لا يكتفي بالسرد، بل يُراوغ، يُباغت، يُشعل الجملة بما يشبه الشعور الخام. تأتي اللغة حافّة، كأنها على وشك السقوط، أو كأنها تتعمد ذلك لتجرّ القارئ معها إلى هوة النص العميقة. الجمل قصيرة، مشحونة، لا تترك للقارئ لحظة لالتقاط الأنفاس، كأنها تصفعه بذاكرته الخاصة كلما حاول أن يتنصل من تبعات الحكاية.
القرية، التي عادةً ما تُقدم في الأدب العربي كرمز للبراءة، للماضي الطفولي، تتحوّل هنا إلى مسرح جرائمي معلن. كل شيء فيها مألوف وخانق. العائلة، الجيران، المسجد، الحقول، المدرسة، كلها تمثل دائرة مغلقة من الضجر، من السقوط البطيء، من التواطؤ الجماعي مع النسيان. في هذه القرية، لا توجد ج#ريم*ة صريحة، لأن الج#ريم*ة الأكبر هي العيش نفسه تحت سقف القيم المنهارة.
الزمن في الرواية متشظٍّ، لا يتبع خطًا تصاعديًا، بل يرتد، يتكرر، يتداخل، كما تتداخل الذكريات في ذهن من عاش طويلًا بين المآسي. وهذا التلاعب بالزمن لا يأتي كتقنية فنية باردة، بل كضرورة وجودية. فالماضي لا يُروى لأنه مضى، بل لأنه ما زال يحدث. والمستقبل لا يُنتظر لأنه لن يأتي. وحده الحاضر المستهلك، القاسي، هو ما يُعاد تدويره بشكل متواصل، كأننا أمام دورة موت مستمرة يُعاد فيها الاحتفال بالغياب بدلًا من الحضور.
ما يميز هذه الرواية أنها لا تدّعي شيئًا. لا تطلب من القارئ أن يُصدق، أو أن يتعاطف، أو أن يستمتع. بل تُلزمه بالمشاركة: المشاركة في الإحساس باللاجدوى، بالخذلان، بالانتماء إلى مكان لا يتسع للنجاة. أحمد طايل كاتب لا يهمه أن يعجبك ما كتبه، بل أن يُصيبك بما كتب. وهذا ما يجعل من “عيد ميلاد ميت” نصًا غير مريح، لكنه لا يُنسى.
وفي خضمّ كل ذلك، تبرز المفارقة الكبرى: أن هذه الرواية، بكل ما فيها من موت، ومن خيبات، ومن ظلال، هي في جوهرها إعلان ولادة. ولادة كاتب يرى، ويُسائل، ويكتب كما لو كان يحمل مرآة مكسورة لكل ما أردنا نسيانه. إنها ولادة نصّ يصرّ أن يسكن القارئ لا بصفته رواية، بل بصفته ندبة.
“عيد ميلاد ميت” ليست مجرد حكاية تُروى، إنها شهادة مكتوبة بحبر الوعي، موقعة بدم الحنين، ومختومة بختم السؤال الذي لا ينتهي: هل يمكن أن نحتفل حقًا، في زمنٍ لم يعد فيه للفرح موطئ قدم؟
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.