آراء متنوعة

في حضرة الثقافة الحقيقة لا تحتاج صراخا بل عقل لا

بقلم: ملكة الحداد

في زمن يفترض أن يكون الأدب فيه مساحة للارتقاء بالحوار، وبناء الجسور لا الحواجز، نشهد – بكل أسف – انحدارًا مقلقًا في مستوى الخطاب داخل بعض المجموعات الثقافية، وعلى رأسها ما يحدث في أحد كروبات اتحاد الأدباء والكتاب؛ مكانٌ يُفترض أن يحتضن الكلمة الحرة، ويتبنّى قيم التنوير والانفتاح، تحوّل إلى ساحة تصفية حسابات أيديولوجية ومذهبية، ولغة ذكورية فجّة، تمارس الوصاية لا الحوار، والتسلط لا النقد البنّاء

وفي خضمّ ما يمر به العراق من تحديات ثقافية، واجتماعية، وسياسية، يبقى الحقل الثقافي هو الأمل الأخير للحفاظ على جوهر هذا الوطن وهويته الجامعة. لكن ما نعيشه اليوم في بعض زوايا هذا الوسط، وخصوصًا في كروب حوارات اتحاد الأدباء في النجف الأشرف، يدعو إلى وقفة مراجعة حقيقية، بل إلى دق ناقوس الخطر.

ما حدث مؤخرًا من إساءة متعمدة لأديبة عراقية نجفية معروفة، أكاديمية ومثقفة لها باع طويل في العمل الثقافي، ليس مجرد “سوء تفاهم” أو “احتداد في النقاش”. ما جرى هو نموذج واضح لانحدار الخطاب داخل فضاء يُفترض أنه الأرقى، وتحول بعض المنصات الثقافية إلى منابر لاستعراض الغطرسة المذهبية والذكورية دون حسيب أو رقيب.

فمن غير المقبول أن يتجرأ أحد الأعضاء – الأصغر سنًا وتاريخًا وتجربة – على مخاطبة أديبة تكبره مقامًا وعطاءً، وسيرة اكاديمية بهذا الكمّ من التهكم والانحدار، لا لشيء سوى أنها عبرت عن رأي مستقل، لا ينسجم مع “ولاء احدهم الأيديولوجي” الذي أعلنه بصراحة لافتة، بل بعبارات لا تخلو من المبالغة، حين جهر بعبوديته للإمام الخميني، وكأن عضويته في اتحاد الأدباء تستمد شرعيتها من الانتماء العقائدي العابر للحدود، لا من انتمائه للوطن أو مساهماته في الأدب.

أن يجاهر أحدهم بولائه المطلق لرمز ديني خارجي، فهذا خيار شخصي لا جدال فيه. وليس لنا فيه شأن لكن أن يُسقِط هذا الولاء على سلوكٍ إقصائي داخل فضاء ثقافي عراقي، ويستخدمه أداةً للتهكم على آراء الآخرين والتقليل من شأنهم، فهذه مشكلة بنيوية في فهم دور المثقف وحدود الخطاب.
الأكثر استغرابًا هو أن من تجاوز بحقها لم يكتفِ بالتطاول، بل أعلن جهارًا افتخاره بـ”عبوديته” وولائه المطلق للإمام الخميني، متناسياً أن الانتماء للوطن يجب أن يسمو فوق الولاءات العابرة للحدود، وأننا حين نُخضع الكلمة لسلطة المذهب، فإننا نُفرغ العمل الثقافي من روحه ورسالته.
والأدهى، أن المستهدفة لم تكن مجرد اسم عابر في الساحة الثقافية. هي امرأة نجفية كرّست جزءً من حياتها للعمل الاكاديمي والمجتمعي. ومصادر التاريخ النجفي تشهد ببطولات أجدادها النجفيين ودوهم البطولي في حماية الروضة الحيدرية، إبان الاحتلال العثماني والإنكليزي ورجال عائلتها كان لهم دور تاريخي بطولي في لحظات مفصلية لحماية الإرث النجفي من التهديدات الوهابية انذاك، إلى جانب مساهماتها الأكاديمية والأدبية التي يشهد لها كثيرون في جامعة الكوفة، فضلا عن تمثيل الصوت العراقي والثقافة العراقية في بلد المهجر؛ هذا كله لم يشفع أمام سطوة خطاب طائفي وذكوري مقيت، جاء محمّلاً باحتقار مبطّن للمرأة، وللمواطنة العراقية ولكل من يرفض الاصطفاف العقائدي في الثقافة.

المسألة هنا لا تتعلق بحرية الرأي – فهذه نؤمن بها جميعًا – بل تتعلق بمستوى الخطاب، وبكيفية استخدام “المنابر الثقافية” لتصفية الحسابات الطائفية والنيل من الآخر المختلف. وعندما يسكت الباقون عن هذه السلوكيات، لا يمكن اعتبار الأمر مجرد حالة فردية، بل يصبح تعبيرًا عن خلل جماعي: سكوتٌ يشبه التواطؤ، أو على الأقل العجز.

والمؤسف أن مثل هذه الحوادث تُعيدنا إلى أسئلة كان يجب أن تُحسم قبل سنوات:
من يملك سلطة الكلمة داخل اتحاد الأدباء؟
هل تحوّل هذا الفضاء إلى نادٍ مغلق للولاءات الطائفية والجندرية؟
أم لا يزال هناك أمل في استعادة مكانة الاتحاد كمؤسسة وطنية تتسع لكل الأطياف والتوجهات؟

الثقافة ليست ساحة للتباهي بالمرجعيات، وليست ساحة لإهانة النساء ولا التقليل من شأن الأكاديميين. الثقافة موقف ومسؤولية، وليست مجرد لعبة نفوذ إلكترونية في كروب مغلق.
وإذا كان هذا هو حال بعض النخب الثقافية، فماذا نترك للشارع المفتوح؟

ختامًا، من العار أن يُهان مثقف في عقر دار الثقافة، وأن تُقصى أديبة عراقية لأن انتماءها لا ينسجم مع “الخط المذهبي والعقائدي” لبعض من يدّعون القيادة في هذا الفضاء.
علينا أن نعيد بناء خطابنا من الصفر، قبل أن نفقد البقية الباقية من هيبة الكلمة وحرمة الاختلاف

الثقافة موقف قبل أن تكون كلمات، وهي انتماء للأرض والناس، لا لشخوص وسياقات غريبة عن نسيجنا الوطني.

الثقافة ليست ساحة للتباهي بالمرجعيات الخارجة عن حدود الوطن، وليست ساحة لإهانة النساء العراقيات ولا التقليل من شأن الأكاديميين. الثقافة موقف ومسؤولية، وليست مجرد لعبة نفوذ طائفي في كروب يطلق على نفسه اتحاد الادباء والكتاب.
وإذا كان هذا هو حال بعض النخب الثقافية، التي يفترض ان تكون انموذجا يحتذى للخطاب الثقافي والأدبي ؛ فماذا نترك لمن ليس لهم وعي بالخطاب الثقافي؟

نرفض أن يُهان الكبار باسم الولاء، وأن تُقصى النساء تحت عباءة الرجولة المصطنعة

نقولها بوضوح:
لن نسمح أن يتحوّل اتحاد الأدباء، أو أي فضاء ثقافي، إلى منصة للتعصب، أو لحروب الهوية. لن نقبل أن يُهمّش من قدّم عمره وموهبته للثقافة العراقية فقط لأن صوته لا يُعجب البعض.

ندعوكم جميعًا، مثقفين ومثقفات، للوقوف أمام هذه الظواهر المسيئة للنسيج العراقي الواحد والثقافة العراقية بصوت عالٍ.
فكرامة المبدعين والمبدعات ليست محل مساومة،
وصوت العراق، لا صوت غيره، هو ما يجب أن يسمعه اتحاد الأدباء أولاً

وعليهم أن يعلموا: إن إقصاء الصوت النسوي المستقل من بعض منصاتهم، لن يُخمد هذه الأصوات الحرة، ولن يُقصيها عن المنابر العامة، ولا عن جمهور الثقافة الذي يزداد وعيًا يومًا بعد يوم.
فالصوت الحر لا يموت، والصوت النسوي حين يُقصى من الداخل، يعود أقوى في فضاء أرحب… بين الناس، وبين قرّاء يعرفون من يكتب بضمير، ومن يصرخ من خواء
واخيرا، حين يتحول الخطاب في كروبات اتحاد الأدباء: إلى غطرسة مذهبية وذكورية فانه إهَانَةً للثقافة قبل الإنسان

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!