مقالات عامة

ــ في المتاهة ــ قصة قصيرة

 ــ في المتَاهة ــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ قِصَّة قَصِيرَة ــ

بِقلَم : شذى توما مرقوس

الخميس 17 / أيلول / 2020 م ــ 18 / حزيران / 2025 م .

 

في طرِيقهِ إِلى مسْكنِهِ حاولَ أَنْ يَفْتَحَ قنِينَةَ الكولا لِيأْخُذَ مِنْها جُرْعة فزَالَتْ عنْ يَدِهِ ووقَعتْ أَرْضاً ، وتَبِعها كيسُ الخُبْرِ ثُمَّ كيسُ البُرْتُقال ، تَفرَقَتِ البُرْتُقالات مُتَدحْرِّجةً هُنا وهُناك ، ثَارَتْ ثَائرَتهُ ولَمْ يَجدْ بُدَّاً مِنْ أَنْ يَنْحني لِلَمِّها ، ورَفع كيسَ الخُبْزِ وضَمَّهُ تَحْتَ إِبْطهِ ، ثٌمَّ اسْتَعجلَ خُطواتِهِ مُلاحِقاً قنِينةَ الكولا الَّتِي كانَتْ تَتَدحرَّجُ مُسْرِعةً فالتَقَطها ، وكانَ ما بِداخِلِها يَفُورُ ويَمُورُ لكِنَّ فاتَهُ الانْتِباه لِذلِك فحاولَ ثَانيةً فتْحها فصارَ السَائلُ كرَشاشِ ماءٍ  دوارٍ يَتَناثَرُ في كُلِّ الاتِجاهاتِ حتَّى تَندَّى وَجْههُ وابْتَلَّتْ ملابِسَهُ بِبَعْضِ الرَشَّاتِ فأَكلَهُ غَضَبهُ وأَمْسَكَ قنِينةَ الكولا وقَذَفَها أَرْضاً وهو يَشْتُمُ ويَلْعنُ الأَحْوال ، أَصابَ أَحد أَطرافِ القنِينة شرخٌ  وصارَتْ تَدورُ وتَتَدحرَّجُ وتَنْفُثُ ما تَبقَّى مِنْ عصِيرِها كنَافورَةٍ تَسْقي ما حواليها …. ثُمَّ رَمى بِالبُرْتُقالاتِ واحِدةً تُلْوَ الأُخْرَى في الشَارعِ ، وقَذَفَ بِكيسِ الخُبْزِ  بَعيداً ……

دخلَ مسْكنَهُ ورُوحهُ تَلُوبُ لَوْباً في متَاهةِ العذابِ والوحْدَة ، وَقَفَ أَمامَ المِرْآةِ وصارَ يُحدِّثُ نَفْسَهُ ويَرْجوها :

ــ إِهدئي أَيَّتُها الروح ، إِنَّها الصُعوبَات الَّتِي لا تَنْتَهي ، صُعوبَاتٍ فَقَطْ ، لَيْسَ أَكْثَر ، لَيْسَ أَكْثَر

ثُمَّ اسْتَلْقَى على الاريكةِ بِأَملِ أَنْ يَهْدأ ، وفي خِضَمِ صراعِهِ هذَا سرَقَهُ الحُلُم ، فوجدَ زَوْجتَهُ تُعِدُّ لَهُ الشَاي ، وتَضعُ الكعك في صَحْنِهِ وهي تُمازِحهُ قَائلةً :

ــ يَا رَجُلْ …. لَقَدْ كبرتَ ، ومَزَاجكَ بَقيَ على حالِهِ صبِيَّاً يُعانِدُ حتَّى الهواء ….
فيَرُدُّ علَيْها :

ــ أَنْتِ الَّتِي كبُرْتِ ، أَنا لا زلْتُ شَاباً ….

وتَبادلا الضَحِك طويلاً ، واسْتَيْقظ َعلى صَوْتِ ضَحْكتِهِ العالية الَّتِي اسْتَمَّرَتْ لِما بَعدَ الحُلُم وأَعادتْهُ إِلى أَرْضِ الحقيقَةِ حيْثُ لا مكانَ لِلحُلُم  ، فنَهضَ مِنْ الاريكةِ وسياطُ الأَلَم تَجْلُدُ رُوحهُ ….

كُلّ حيَاتِهِ كانَتْ صُراعاً مَع المَوْجِ العاتي ، يُحاوِلُ السِبَاحةَ لِيَنْجو فتَتلَقَّفهُ مَوْجةٌ غاضِبَةٌ عالِية وتَبْتَلِعُ كُلَّ آمالِهِ …..

نَظرَ إِلى جُدْرانِ مَخْدعِهِ ورُوحهُ تَصيح : ” أَكرَهُ هذِهِ الجُدْران ، أَكرَهُ هذَا العِشّ الخالي الَّذِي يَبْدو لي كسجْنٍ ، آهٍ ، لَمْ أَعُدْ أَتَحمَّلُ الوَحدَة ، لِماذَا عليّ أَنْ أَعيش والآخرون مَوْتى ؟  أَيَّة حِكْمَةٍ تَرْتَجيها مِنْ كُلِّ هذَا أَيُّها الجالِسُ في علْيائك غيْر مُبَالٍ بِمُعاناتي ؟ لِماذَا هذَا العِقاب … لِماذَا ؟ أَلَمْ أَكُنْ زَوْجاً صَالِحاً ؟ أَلَمْ أَكُنْ أَباً مَسْؤولاً ؟ أَلَمْ أَعمَلْ مِنْ أَجْلِ عائلتي وأَهلي سنِيني كُلَّها ؟ أَمَا كددْتُ لِأَجْلِها ؟  لِماذَا تَسْرُقُ الحيَاةُ مِني كُلَّ شَيْءٍ ؟ لِماذَا أَصْفو وحِيداً هكذا ، لِماذَا ؟ “

اغْرورِقَتْ عيْنَاهُ بِالدموع ، وصَوْتٌ في داخِلِهِ يَشْتَعلُ لَهيباً ويَهيبُ بِهِ : ” إِهْرَبْ ، إِهْرَبْ مِنْ هذَا الجحيم ، أَتْرُكْ هذِهِ الجُدْران تَحْتَضِنُ نَفْسَها دُوْنَك ، أُخْرُجْ إِلى الطرِيق وإِفْتَحْ صَدْرَكَ ليَعُبَّ الهواءُ رِئتيك ويَطْرُدُ عنْكَ أَحْزَانك ، شَارِكْ النَّاسَ أَوْضَاعهُم  ” ……

فَصرَخَ ردَّاً على هذا الصَوْت : ” لكِنَّ النَّاس يَرْفضونَ مُشَارَكتي أَوْضَاعهُم ، وكُلَّما حاولْتُ معهُم يُعِّدونَهُ تَدخُّلاً في شؤْونِهِم ، لَمْ تَعُدْ النَّاس كما كانَتْ ، لَقَدْ تَغيَّرَتْ …. أَصْبَحتْ شرِيرة  ….. اصْمتْ ولا تُثِرْ مَواجعي  ” …..

وشَعرَ بِأَنَّ أَنْفَاسَهُ قَدْ بَلَغتْ قُمَّةَ رَأْسِهِ حتَّى كادَتْ تَخْرُجُ عنْهُ احْتِراقاً وقَفزَتْ دقَّاتُ قَلْبِهِ فَوْقَ شَفتيهِ فارْتَجفتَا ارْتِجافاً مِنْ وطأَةِ الوَجع ، وفي انْتِفاضَةِ روحِهِ رَأَى وَجْههُ مُعلَّقاً فَوقَ سَطْحِ المِرْآة فنَظرَ مُتَفحِصاً ملامِح َهذِهِ الروح المُعذَّبَة ، وفي غَفْلَةِ انْغِماسِهِ انْبَثقَ إِلى جانِبِهِ وقُوفاً أَفْراد عائلتِهِ الكبيرَة ، وعلى وَجْهِ كُلٍّ مِنْهم ابْتِسَامة ، ثُمَّ في لَحْظَةٍ تَالِيَة صارَتْ الوجوه تَنْطفئُ واحِدةً تِلْوَ الأُخْرَى ، ولَمْ يَبْقَ غيْرَ وَجْههُ مُعلَّقاً فَوْقَها ، ونجومٌ مِنْ الدموعِ تَتَماوجُ عليْهِ ، وفكَّرَ في نَفْسِهِ بِحُزْنٍ مرير : ” تِلكَ العائلةُ الكبيرَة …. بَيْنَما هذِهِ هي النِهايَة ، كُلَّهُم ذَهبوا لِمصيرِهِم ، البَعْض أَكلتْهُم الحروب ، البَعْض هرَبوا وهاجروا ، البَعْض انْقَطعوا عنْهُ ، والبَعْض انْقَطعتْ بِهِم الأَيَّام ”

وإِذْ طوَّقَتْهُ الهمومُ والأَحْزَان وأَحاطَتْ بِهِ مِنْ كُلِّ جانِبٍ داهمَه الشعور ككُلِّ مَرَّة بِأَنَّ القَذارَةَ والوَسَاخةَ قَدْ تَوَغلا حفْرَاً في مسَاماتِ جسَدِهِ المُتْعب ، وغالَبَتْهُ الحاجةُ الشَديدَة لِلاسْتِحْمامِ لِيُزيح عنْهُ كُلَّ قَذَاراتِ الدَهْرِ وهمُومِهِ ، ومِنْ دُوْنِ أَنْ يَشْعُر وَجدَ نَفْسَهُ واقِفاً في الحمَّام والماءُ يَنْسَابُ بِغزَارَةٍ فَوْقَ رَأْسِهِ ويَغسِلُ كُلَّ جِسْمِهِ فيُزِيحُ عنْهُ كُلَّ أَدْرانِ الهمومِ وكأَنَّها أَدْرانُ خَطايا ، وخامَرَهُ الشَكُّ بِأَنَّ  ذَلِك لَمْ يُعْطِ الأَمْرَ حقَّهُ فعادَ واغْتَسَلَ ثَانيةً لِيَقْشِطَ الأَحْزَانَ والهمومَ عنْ رُوحِهِ المُتْعبَة قَشْطاً ، وحينَ انْتَهى كانَت الهمومُ والأَحْزانُ قَدْ هدأَتْ عنْهُ وأَطْلقَتْ سَرَاحهُ لِحينٍ آخَر ، وقَبْلَ أَنْ تَقْبِضَ عليْهِ ثَانيةً ارْتَدى مَلابِسَهُ على عجلٍ وهرَبَ مِنْ جحيمِ المَنْزِلِ الفارِغ إِلى الشَارِع حيْثُ النَّاس والضَجيج ، لا أَسْوأَ مِنْ الهدوءِ القَاتِل الَّذي يُمزِّقُ الروح ويُشْعِلُها أَحْزاناً ويَمْلأُ البَيْتَ رذاذ آلام ، فتَضيقُ الجُدْران وتَدوسُ على الروحِ دَوْساً وتَسْحلُها سَحْلاً  .

رَكِبَ دَرَاجتِهِ ، وأَطْلَقَ صَوْتُ المَذْياعِ الَّذِي في سَلَّةِ دَرَاجتِهِ فَصَدحَ عالياَ بِأَحدِ الأَغاني ، وكانَ يَضعهُ في دَرَاجتِهِ ليُبْعِدَ عنْهُ المَللْ ولِيَجذبَ انْتِباه النَّاسِ إِلَيْهِ ويَقولُ لَهُم :  ”  أَنا هُنا ، أَنا مَوْجُود ، لا تَشحوا انْتِباهكم عني ” ……

 كُلَّ ما كانَ يَبْغيهِ مِنْهُم هو أَنْ يُفْطِنوا لِوجودهِ ، أَنْ يُدْرِكوا إِنَّهُ حيٌّ يَتنَفس ويُعامِلونَهُ بِهذهِ الحقيقَة ، لا أَنْ يُقَابِلونَهُ بِالتَجاهُلِ كما لَوْ أَنَّهُ في طيَّاتِ الموْت .

افْتِقادِهِ لِدَوْرٍ ما ، أَيَّ دَوْر ، في حيَاةِ الآخَرين ولَوْ بَعْضَهُم ، كانَ بِمثَابةِ المَوْت وهو لا زَالَ حيَّاً ، وبِمثَابةِ لَفْظِهِ خارِج دائرَةِ الحيَاةِ والوجود ، وهذَا الإِحسَاس كوْنَهُ حيَّاً ، لكِنَّهُ في الوَقْتِ ذاتَه ميتاً عنْدَ الآخَرين دَفَعهُ لِيَقْتَحِم حيَاتَهُم في كُلِّ مُنَاسَبَةٍ تُتيحُها لَهُ الظروف ، ويَعْتَرِضَ طرِيقَهُم لِيُذكِّرهُم بِوجودِهِ ، وبَيْنَما يَقْتَحمُ حيَاةَ الآخَرين بِسَفَاهةٍ وصلافَة كانَتْ المرارَةُ تُبَدِّدُ الحقيقَة وتَعجِنُ الحالَ في ذِهْنِهِ  بِالوَهْمِ فيَرى النَّاس هُم المُقْتَحمين لِحيَاتِهِ والمُعْتَرضينَ لِطرِيقِهِ …..

كمْ كانَتْ لهَُ في أَوْقاتِهِ أَدْواراً مُهِمَّة أَنْجزَ فيها الكثِير خِلال حيَاتِهِ ، كانَ وجودَهُ مُهمَّاً  لِوالديهِ ، لِأَشِقائهِ وشَقيقَاتِهِ ، لِأَقَارِبِهِ ، لِزَوْجتِهِ ، لأَوْلادِهِ ، لأَصْدِقائهِ ، لأَصْحابِهِ ومعارِفهِ ، ولِكُلِّ منْ حوْلِهِ ، في البَيْت ، في العمَل ، في مَحلَّتِهِ ……..

لا شَيءْ  بَقِيَ مِنْ ذَلِك كُلّه ، الآن لَمْ يَعُدْ أَحداً يَهْتَّمُ لِكُلِّ ما أَنْجزَهُ في حيَاتِهِ ، لَمْ يَعُدْ أَحداً يَسْأَلَهُ عنْهُ أَوْ يَهمَّهُ ذَلِك ، أَوْ يُبْدي تَقْديراً لِجهودِهِ الَّتي سَخى بِها طيلَة حيَاتِهِ ، وكأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ الماضي كانَ وَهْماً ، أَوْ حُلُماً ، أَوْ حكايَةً منْ الخيال ، لَمْ يَعُدْ في نَظِرِ الآخَرين أَكْثَرَ مِنْ إِنْسَانٍ عجوز ، عالَة على المُجْتَمعِ ووحِيد ، لا يُؤْدي شَيْئاً في يَوْمِهِ ، ولا أَهميَّةَ لِوجودِهِ في حيَاةِ أَحد …..

أَيْنَ هُم هؤلاءِ المَخْبولين الَّذين يُريدون أَنْ يَمْتَدَ بِهم العُمر ويَطُول ، لِيَعْرِفوا حالَهُ رُبَّما تَرْتَدُ لَهُم عقولَهُم ….

ناحَ فَوْقَ أَيَّامِهِ الَّتي فارَقتْهُ بِلا عوْدَة ، فرَّ بِها الزَمَن مُتَشفيَّاً بِهِ قَاذِفاً إِيَّاها في سَلَّةِ الذِكْريَات ، ومُعلِناً خسَارَةَ الإِنْسَان في مَعرَكتِهِ الأَزليَّة ضِدَّهُ  ……

 جرَّهُ شعُورَهُ القَاتِل بِالوَحْدَةِ لِيَحْسِد الآخَرِين في مُجْرَياتِ حيَاتِهِم ويَغارُ مِنْهُم ، لكِنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ يَوْماً لِنَفْسِهِ بِذَلِك ، فكبْرِياء نَفْسِهِ  مَنَعهُ مِن البَوْحِ بِذَلِك ولَوْ حتَّى ما بَيْنَهُ وبَيْنها ، وكانَ دائماً يُفَسِّرُ عدَمَ انْتِباهِ النَّاسِ إِلَيْهِ واسْتِحْواذهِ على لُبِّ اهْتِمامِهِم ، بَلْ وأَحْياناً عدَم أَخْذِ وجُودِهِ على مَحْمَلِ الجدِّ إِنَّما عائدٌ في أَسَاسِهِ إِلى هبُوطِ أَخْلاقِ النَّاسِ في هذَا الزَمَانِ وقِلَّةِ احْتِرامِهِم لِلمُسِّنين مِنْ أَمْثَالِهِ .                                                                                     

إِذن ؛ لِمَاذا علَيْهِ أَنْ يَتَسَامح مع الآخَرين في أَخْطائهِم وزَلاتِهِم وما يَقْتَرِفون ،   وهُم مَنْ كانوا ، ولا زَالوا ، دائماً يَعْتَرِضُونَ طرِيقَهُ ويَجْعلونَ أَيَّامَهُ أَصْعبُ وَقْعاً علَيْهِ ……. علَيْهِ أَنْ يَطْرِقَ رؤوسَهُم طرْقاً بِكلماتِهِ ومَواعِظِهِ الثَمينَة سَمَحوا بِذَلِك أَمْ أَبُوا ، وهذَا في النِهايةِ كُلَّهُ خِدْمَةً لِلمُجْتَمعِ الَّذي بَذَلَ لَهُ عُمُرَهُ تَفانياً  دُوْنَ كلَلٍ وكانَ فيه فَرْداً عامِلاً ، هذَا المُجْتَمعُ الجاحِد هو نَفْسَهُ الَّذي كانَ فيما مضَى يَدُقُّ لَهُ الطُبولُ إكْراماً وتَقْديراً لِجهودِهِ ، فقَطْ مع اخْتِلافِ الزَمن ، هذَا المُجْتَمعُ الخائن  تَحالَفَ مع الزَمن ضِدَّه فحوَّلَهُ مِنْ عامِلٍ إِلى اعْتِبارِهِ عالة مُتَأَهِباً كُلّ لَحْظة لِيَجودَ بهِ لِلمقْبَرَة والتَخلُصِ مِنْهُ دُوْنَ أَنْ يَخْتَلِج مِنْهُ الجِفْن   …

…………

وقَبْلَ أَنْ يَنْتَهي إِلى مَنْفذِ الطرِيقِ الفَرْعيّ الَّذِي كانَ يُريدُ أن يَسْلُكهُ لَمحَ بِضْعَ حمامَاتٍ تَرْكُنُ تَحْتَ شَجرَةٍ تُحاوِلُ الْتِقَاط بَعْضِ الحبُوبِ المُلْقَاةِ على الأَرْضِ بِمنَاقيرِها ، وكانَتْ إِحْدَى الشَابَّات تَبْذرُ لَها حفْنَةً مِنْها بِهدوءٍ وحنَان …….

وحينَ رَأَى العمُّ غريب ذَلِك انْزَعج كثِيراً ، فأَوْقفَ عجلَتَهُ وصاحَ بِها :

ــ هلْ تَظُنين إِنَّكِ بعملكِ هذا تُسَاعدين الحمَام ، أَنْتِ تَضُرِّينَهُ كثِيراً ، أَنْتِ تَتَدخَّلين في طرِيقَةِ حيَاتِهِ ، على الحمَام أَنْ يَبْحثَ عن قُوتِ يَوْمِهِ بِنَفْسِهِ ، هو لا يَحْتَاجُ مُسَاعدَتَكِ

فردَّتْ علَيْهِ الشَابَّة وقَدْ أَزْعجها أُسْلوبَهُ جِدَّاً :

ــ  ابْتَعِدْ عني أَرْجوك ……  

ردَّ غَاضِباً :

ــ بِالتَأْكيد لا يُعْجبُكِ سَماع ذَلِك ، ولا تَرْغبين في تَصْحيحِ الآخَرِين لأَخْطائكِ ، أَمْثالُكِ كثيرون ، جارَتُنا أَيْضاً علَّقَتْ على حائطِ مَنْزِلِها مَحطةَ تَغْذِيَة لِلعصافيرِ ، وكُلّ يَوْمٍ تَأْتي العصافيرُ لالْتِقاطِ الح*بو-ب ، ولكِنْ أَيْضاً جذَبَتْ إِلَيْها الفِئران فصرْنا نُعاني مِنْها بِسَبَبِها .

اسْتَشَاطَتْ الشَابَّةُ غَضَباً وصاحَتْ فيه :

ــ ثَانِيةً أَقُولُ لكَ ابْتَعِدْ مِنْ هُنا ودَعْ النَّاسَ لِشُؤونِهِم …….

فأَدارَ عجلَتَهُ وانْطلَقَ بِها لاعِناً :

ــ تَبَّاً لكُم ، أَجْيالٌ فاسِدَة  لا تَحْتَرِمون مُسِنّاً  ولا تَتَقبَّلُون نَصِيحةً …….

 ومَرَّ بِخاطِرِهِ ما لاقَاهُ البَارِحة مِنْ عِتَابٍ مُبطَّنٍ كانَ في حقِيقتِهِ زَجْراً مِنْ جارِهِ الَّذي جاءَ إِليْهِ مُطالِباً إِيَّاهُ الكفَّ عنْ تَقْدِيم نَصائحِهِ الثَمينَة لِحفيدتِهِ الَّتي بَدأَتْ تَشْكو مِنْ مُضايَقاتِهِ لَها بِمَواعِظِهِ كُلَّما الْتَقَاها ، وأَكَّدَ لِجارِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعل ما يَدْعو لِلانْزِعاج ، إِنَّما فَقَطْ نَصَح الصبيَّة بِدافِعِ الحرْصِ علَيْها حينَ رآها مَع إِحْدَى صدِيقاتِها بِأَنْ تُحْسِنَ اخْتِيارَ الأَصْدِقاءِ والصدِيقات في زَمَنٍ كُلّ ما فيه هو شَرُّ وخَطر …..

وانْقطعَ حبْلَ خواطِرِهِ وهو يُحاوِلُ الخرُوج مِنْ ذَلِك الطرِيقِ الفَرْعيّ حيْثُ اعْتَرَضتْهُ سَيَّارة تَودُّ الدخُولَ إِلَيْهِ …..

تَمْتَمَ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ قَائلاً :              

ــ آه …. مُغفلٌ آخَر في طريقي  

لكِنَّهُ وكمَا هو ديْدنَهُ لَمْ يَتَمكَّنْ مِنْ تَرْويضِ مشَاعِرِهِ المُنْفلتَة كجيوشٍ بَرْبريَّة تَسْحقُ كُلَّ ما في طريقِها ، فانْفَلتَ صارِخاً في وَجْهِ السَائق :

ــ هَلْ أَنْتَ أَعْمَى ، أَلا تَرَى الدرَّاجة ، أَمَا علَيْكَ الوقُوف والانْتِظار ؟

رَدَّ علَيْهِ السَائق وكانَ شَابَّاً يَافعاً :

ــ يا سَيّدي ، لَمْ أُخْطِأ في حقِّكَ ، أَنا بِانْتِظارِ أَنْ تَمُرَّ وتَعْبُر ، والسَيَّارَة سَاكنَة ، فمِمَّا تَشْكو ؟

تَفاقَمَ غَضَبُ العمِّ غريب ورَدَّ على الشَّابِ :

ــ شَبَابٌ مُتَهوِّرون ، لا تَحْتَرِمُونَ أَحْداً ، لا  شَعْراً آل لِلمَشِيب ، ولا لِحيةٍ بَيْضَاء

….

رَدَّ علَيْهِ الشَابُّ :

ــ سَامَحكَ اللهُ يا سَيِّدي ….. إِذْهبْ في طرِيقِكَ لا أُرِيدُ شِجاراً وليُبارِكُ اللهُ يَوْمَك …

 هزَّ العمُّ غريب رَأْسَهُ ، وردَّ مُتأَفِفاً :

ــ شَبَابٌ طائش ……

وتَمْتَمَ مَع نَفْسِهِ بِصَوْتٍ مُنْخفِضٍ جِدَّاً لاعِناً الشَابّ :

ــ لا بَاركَ الله يَوْمَك ، تَدْفعونَنا كُرْهاً لِحلِّ اللَعْنةِ علَيْكُم

ثُمَّ واصَلَ طرِيقَهُ وقَدْ تَحوَّلَ يَلْعنُ الزَمنَ الغادِر …

تَعجَّبَ الشَابُّ مِنْ تَصَرُّفِ هذا الرَجُلِ العجُوز الَّذِي يُحاوِلُ بِشَتَّى الطُرُق اعْتِراضَ النَّاسِ والشِجارِ مَعهُم ، لكِنَّهُ قَالَ في نَفْسِهِ :

”  رُبَّما كانَ يًوْمهُ ثقِيلاً ومُتْعِباً ومُلوَّناً بِهمُومٍ لا أَعْرِفُها ، فمَا أَدْرَانا بِهمُومِ النَّاسِ ومُعاناتِهِم  ”

ثُمَّ اتْجه بِسَيَّارتِهِ إِلى المَكانِ المُخصَّصِ لِوقُوفِ السَيَّارات ، فرَكنَها في زَاويَةٍ مِنْهُ  وغادرَها قَاصِداً إِحْدَى المَحلات المُتَراصة هُناك لِلتَبَضُّعِ مِنْها ، وبَيْنَما كانَ يَهُمُّ بِالدخُولِ إِليْها ، لَفتَ انْتِباههُ ظهُورَ العمّ غريب على بُعدٍ مِنْهُ ، فاسْتَيقظَ فضُولهُ لِمُراقبَةِ هذا الرَجُلِ الغرِيبِ الأَطْوار ، فوَقفَ في إِحْدَى الزَوايا مُراقِباً إِيَّاهُ بِفضُولٍ ، وازْدادَ تَعجُّبهُ حِيْنَ رَأْى الرَجُلَ العجُوز وهو يَتْرُكُ خطَّ السَيْرِ المُخصَّصِ لِلدرَّاجاتِ لِيَحيدَ بِدرَّاجتِهِ خلْفَ إمْرَأَةٍ تَتَجِهُ بِرِفْقَةِ كلْبِها نَحْوَ المُتَنزَّهِ المَوْجُودِ في نِهايَةِ الشَارِع ويَتَملْملُ مِنْ سَدِّها الطرِيقِ علَيْهِ ، حيْثُ تَسِيرُ بِبُطءٍ شَديدٍ وتَأْخذُ الطرِيقَ مِنْ يَسَارِهِ إِلى يَمِينِهِ وكأَنَّهُ مِلْكُها وَحْدها ، ودقَّ جرَسَ درَّاجتِهِ صارِخاً في المَرْأَة :

ــ افْسحي بَعْضاً مِنْ الطرِيقِ للآخرين  فهو لَيْسَ مُلْكاً لكِ وَحْدكِ

ذُهِلَتْ المَرْأَة مِنْ كلامِهِ وهي تَنْظرُ إِلى الرَصيفِ العرِيضِ ، والَّذِي كانَ خالياً في جُزْءٍ  كبيرٍ مِنْهُ ، فردَّتْ علَيْهِ قَائلَةً :

ــ ما أَمْرُك ؟ أَمَامكَ بَقِيَّة الرَصيفِ فأَيْنَ المُشْكِلَة ؟ ثُمَّ أَنَّ الخطَّ المُخصَّص لِسَيْرِ الدرَّاجاتِ مَكانهُ هُناك ( وأَشَارَتْ بِأُصْبُعِها إِلى المَكان ) ، ولَيْسَ هُنا …

أَجابَها مُتَملْمِلاً :

ــ لكِنَّ طرِيقي مِنْ هُنا حيْثُ تَقْطعينَهُ عليّ أَنْتِ وكلْبَكِ

أَخذَها هي أَيْضاً الغضَب فرَدَّتْ إِلَيْهِ كلِماتَهُ :

ــ إِذَنْ انْتظِرْ وسِرْ بِتأنٍ حتَّى يَخْلو مِنَّا الرَصيف ، وسَنأْخُذُ في ذَلِك ما شئْنا مِنْ الوَقْتَ  ….

قالَ مُحْتَّداً  :

ــ سَأَتصِلُ بِالشُرْطة

صَاحتْ بِهِ :

ــ يَبْدو إِنَّكَ مِمَّنْ يُحِبّونَ اخْتِلاقَ المشَاكِل والشِجارَات ، ونَسِيتَ أَيْضاً إِنَّكَ تُخالِفُ التَعْلِيمات المرُورِيَّة ، لَقَدْ رَأْيتُكَ قَبْلَ قَلِيلٍ مِنْ الجانِبِ الآخَرِ على الطرِيق وأَنْتَ تَتَشَاجرُ مَع سَائقِ سَيَّارَة ، وهو لَمْ يَرْتكِبْ خَطأً بِحقِّك فاعْتَديْتَ علَيْهِ بِأَلْفاظٍ غيْر مُحبَّبَة ، ما بِكَ أَيُّها الرَجُل ، إِنْ كُنْتَ لا تَتَحمَّلُ النَّاسَ فأرْكنْ في بَيْتِكَ وأَغْلِقْ بَابَ غُرْفتِكَ علَيْك ، ولا تَكُنْ سَبباً في تَعْكيرِ صَفْوِ يَوْمِ الآخَرِين لِمُجرَّدِ إِنَّ مَزَاجكَ غيْر رَائق ، إِذْهبْ ، إِذْهبْ ، ولا تَعْتَرِض طرِيقَ الآخَرين …….

فرَدَّ غَاضباَ مُحْتَجاً :

ــ أَنا لَمْ اعْتَرِضْ يَوْماً طرِيق أَحد ، أَمْثَالكِ يَفعلونَ ذَلِك كما الآن وأَنتِ تَأْخُذين الطَرِيق مِنْ يَمينهِ لِشِمالِهِ حِكراً لكِ فتَعْتَرضينَ طرِيقي ، وإِنْ لَمْ تَكُفِّي لِسَانكِ عني فَسأَتَصِلُ بِالشُرْطةِ ، سأُقِيمُ دعْوَى قضائيَّة ضِدَّكِ  

رَدَّتْ علَيْهِ المَرْأَة :

ــ إِفْعلْها ، فأَنا أَيْضاً أُرِيدُ أَنْ أُخبِرَهُم بِالكثِير ، وأَقُولُ لَهُم كيْفَ إِنَّكَ تَفْتَعِلُ الشِجارَات مَع الآخَرِين وتُضايقَهُم وتَعْتَدِي علَيْهم بِأَلْفاظٍ لا تَليق ، وإِزْعاج النَّاس  بِصَوْتِ مِذْياعِك ، وأَيْضاً اسْتِعْمالكَ الجانِب الغيْر المُخَصَّصِ لِلدرَّاجات .

وحيْنَ رَأْى العمُّ غريب إِنَّهُ لَنْ يفْلح في خلْقِ الشعورِ بِالذَنْبِ في نَفْسِ هذِهِ المَرْأَة وتَحْميلِها الخطأ ، وعدَمِ قبُولِها اللَوْم والتَقْرِيع ولَوْ مِنْ رَجُلٍ مُسِّنٍ ووقُورٍ مِثْله ، وخابَتْ كُلَّ مُحاولاتِهِ ،  ابْتَعدَ عنْها قَائلاً :

ــ سأُسَامِحكِ على سَلاطةِ لِسَانكِ عسَى أَنْ تُراجعي نَفْسَكِ …

وحاوَلَ الإِسْراع في الابْتِعادِ عنْ طرِيقِها وصَوْتُ مِذْياعِهِ يُلاحِقهُ ، لكِنَّ المَرْأَة انْزَعجتْ جِدَّاً مِنْ تَعْكيرِهِ لِصَفْوِ يَوْمِها وكلامِهِ الغيْر اللائقِ فصَاحتْ خلْفهُ :

ــ لَمْ أَطْلُبْ مِنْكَ أَنْ تُسَامِحني أَيُّها الخَرِف تَبَّاً لكَ ، مِثْلُكَ يَسْتَحِقُ أَنْ يَسْكُنَ القبُور بَدلاً مِنْ شَبَابٍ يَمُوتُون لِتْحيا أَنْت وتُعْكِر صَفْوَ الآخَرِين ويَوْمَهم …

وكانَ العمُّ غريب يُفكِّرُ في نَفْسِهِ إِنَّهُ مُحِقٌّ فيما يَشْعُر ، فالنَّاس دائماً تَعْتَرِضُ طرِيقَهُ وماحدَثَ اليَوْم مَع السَائقِ الشَّاب وهذِهِ المَرْأَة السَليطة اللِسَان دلِيلٌ قَاطِعٌ على ذَلِك ، والنَّاس تَغيَّرَتْ أَخْلاقَهُم وصَارَتْ أَرْدأ فَهُم لا يُكِنُونَ أَيَّ احْتِرامٍ لِلمُسِّنين ، الأَخْلاق الحمِيدَة الَّتِي كانَتْ تُزَيّنُ زَمَانَهُ ذَهبَتْ مَعهُ وأَصْبَحتْ مَاضٍ ، وواصَلَ طرِيقَهُ وهو في زَحْمةِ أَفْكارِهِ مُرتِّباً سَيْرَهُ خلْفَ درَّاجةِ سَاعي البَرِيد تَابِعاً إيَّاهُ حتَّى البِنايَةِ الرَاكِنَةِ في الزَاويَةِ وأَوْقفَ درَّاجتَهُ خلْفَهُ ، لَمْ يُلْقِ سَاعي البَرِيد إِلَيْهِ بَالاً وظلَّ يُوزِّعُ الرَسائلِ على صنَاديقِ البَرِيد كي يُنْهي عمَلَهُ بِسُرْعةٍ ، وهو يُراقِبُ سَاعي البَرِيد وكأنَّهُ قَدْ سَدَّ علَيْهِ الطرِيق ولَيْسَ أَمَامَهُ مِنْ خيارٍ غيْر الانْتِظار ، فهو ضَحيَّة النَّاسِ الَّذِين يَعْتَرضونَ دائماً طرِيقِهِ ، وكانَ على وشكِ البِدْءِ بِاللَوْمِ والشَكْوى لِسَاعي البَرِيد لَوْلا إِنَّ الأَخير كانَ أَسْرَع مِنْهُ وانْتَهى مِنْ عمَلِهِ وغادَر المَكان دوْنَ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ ، أَدارَ العمُّ غريب بَصَرَهُ لِيَرى أَرْبَعة عيُونٍ تُراقِبهُ مِنْ مسَافةِ خُطُواتٍ ، فبَادرَ السَائقُ الشَّاب قَائلاً لَهُ بِتَهكُمٍ :

ــ وآسَفاه ، ويَا لِلخسَارَة ، لَمْ تَسْنَحْ لكَ الفُرْصة بِتَعْكيرِ يَوْم سَاعي البَرِيد أَيْضاً فتَخْتَلِقُ مَعهُ شِجاراً ، لَقَدْ كانَ أَسْرَع مِنْك أَوْ إِنَّ حظَّهُ أَسْعفَهُ لِلخلاصِ مِنْ مَزَاجِك ..

عقَبَتْ المَرْأَة بِقَوْلِها :

ــ إِذْهبْ إِلى مَنْزِلِك وأَهْدأ ، ولا تَعْتَرِضُ طرِيقَ النَّاسِ وتُعكِّرَ يَوْمَهُم فكُلّ شَخْصٍ لَديهِ ما يَكْفي مِنْ الهمُومِ ولَيْسَ بِحاجةٍ لِمَنْ يُضيفُ إِلَيْها أَثْقالاً ، رُبَّما طرِيقَتك هذِهِ ستَضَعكَ ذاتَ مَرَّة في مُواجهةِ إِنْسَانٍ لا يَتَسَامح .

                                                                 

”  إِذْهبْ إِلى مَنْزِلِك !!  ”

هذِهِ العِبَارَة صَدَمَتْهُ وأَصابَتْهُ في الصَميم فحارَ بَعْضَ الوَقْتِ جوَاباً وفي رَأْسِهِ تُومِضُ كالبَرْقِ صُورَ جُدْرانِ مَنْزِلِهِ الَّتي تَكْرَهُهُ ، نَعمْ جُدْرانُ مَنْزِلِهِ تَكْرَهُهُ وتَلْفِظَهُ خَارِجاً كمَا يَفْعلُ الآخَرون ، ماذَا تَعْرِفُ هذِهِ السَليطةُ اللِسَان عنْ حيَاتِهِ وعنْ مُعانَاتِهِ في مَنْزِلِهِ وحيداً ، وانْتَبه لِنَفْسِهِ في ثَانيةٍ تَاليَة فلَجمَ سَيْلَ خَواطِرِهِ قَبْلَ أَنْ تَنْدَلِقَ وتُغْرِقَهُ بِلا رَحْمَة ، وعضَّهُ الكبْرياء مُوجِعاً مِنْهُ الروح فبَدَتْ فُرْصَةَ الرَدِّ علَيْها وكأَنَّها النَجاة مِنْ صُورَةِ الخَاسِرِ المُنْدَحِر في سَاحةِ الحيَاة ، فقَالَ مُفْتَعِلاً الشمُوخ :

ــ لَيْسَ لَديّ وَقْتاً لأُضيّعهُ معكُما ، يَبْدو إِنَّكما شَخْصانِ فضُولِيان وتُحِبَّان الثَرْثَرة الفَارِغة …

وعدَّلَ مِنْ وَضْعِ  جلُوسِهِ على درَّاجتِهِ ، وغيَّرَ مسَارَ طرِيقِهِ ، فصَاح بِهِ السَائقُ الشَابّ :

ــ عجباً ، أَلَسْتَ مِنْ سُكانِ هذِهِ البِنايَة كما أَبْديْتَ ، وكُنْتَ تُرِيدُ دخُولَها أَثْنَاءَ انْشِغالِ سَاعي البَرِيد بِتَوْزِيعِ الرسَائل ، وكُنْتَ تَتَملْمَل لأَنَّهُ يَسدُّ بَابَها علَيْك ، فلِمَاذا لا تَدْخُل الآن ؟  أَمْ إِنَّكَ قَرَّرْتَ البَحْث عنْ ضَحيَّةٍ أُخْرَى لِتَتَشَاجرَ مَعها ؟

وهَزّ الشَابُّ رَأْسَهُ ذهُولاً ودَهْشَةً مِنْ تَصرُفَاتِ هذا الرجُلِ المُسِّن ، وصَارَ يَضْحكُ ضَارِباً كفَّاً بِكفّ غيْر مُصدِّقٍ ما يَجْرِي أَمَامَهُ .

تَوقَّف العمُّ غريب حيْثُ وَصل ورَمَى الشَّابَ بِنَظَراتِ احْتِقَارٍ بَالِغ قائلاً :

ــ   وما شَأْنُكَ أَنْتَ بِمَحلِّ سَكني ، يا لكَ مِنْ فضُوليّ ، عجباً علَيْك ، رُبَّما أَكونُ قَدْ غيَّرْتُ رَأْيي ، أَوْ وَقَع بِبالِي ما يَجِبُ أَنْ أَقْضيهِ قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ لِشقَتي .

ضَحكتْ المَرْأَة اسْتِهْزاءً بِالعمِّ غريب وقَالَتْ لِلشَابّ :

ــ لا شَكّ إنَّهُ سيَبْحثُ عنْ ضَحايَا أُخر لِيَتَشَاجر مَعهُم ، وإلاّ كيْفَ سيَقْضي يَوْمَهُ ، وكيْفَ يَتَخلَّصُ مِنْ حقْدِهِ وغَضَبِهِ مِنْ هذِهِ الدُنْيا وكأنَّهُ الوَحيد الَّذِي يُعاني في حيَاتِهِ ، هو لا يُدْرِكُ إِنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُعانَاتِهِ وهمُومِهِ الَّتِي تَكْفيهِ ، أَشْخاصٌ مِثْلهُ يَجْعلونَ حيَاةَ الآخَرِين أَكْثَر صعُوبةً وأَلماً ، تَبَّاً لَهُ ولأَمِثَالِهِ ….

 ابْتَعدَ العمُّ غريب وهو يُلوِّحُ بِقَبْضَةِ يَدِهِ لِكِليْهِما صارِخاً  بِهِما :

ــ أُحاوِلُ أَنْ أُعلِّمَ أَمْثَالكُم مِنْ الشَبَابِ واجِبَ احْتِرامِ كِبَارِ السِنِ أَمْثَالي واحْتِرامِ القَوانين ، وعدَمِ اعْتِراض طرِيق الآخَرِين كما تَفْعلون  ، تَبَّاً لكُم أَنْتُم ، أَجْيالٌ مَهْزُومَة في أخْلاقِها …

واخْتَفى عنْ انْظارِهِما وكلِماتُهُ تَتَطايرُ خَلْفَهُ في الهواء دلِيلَ وُجُودِهِ  …

قَالَ الشَابُّ مُلْتَفتاً نَحْوَ المَرْأَة :

ــ إنَّهُ يُفْرِغُ غَضَبهُ مِنْ الحيَاةِ فوْقَ رؤوسِ الآخَرِين ، لَيْتهُ يَجِدُ طرِيقَةً أُخْرَى أَكْثَرُ نَفْعاً وجدْوَى ، مَنْ مِنّا الخالِي مِنْ الهمُوم ولا يُعاني مِنْ صعُوبَاتِ هذِهِ الحيَاة  …

رَدَّتْ المَرْأَة :

ــ هناكَ الكثِيرون على شاكِلَتِهِ وكأَنَّهُم مُتَخصِّصون في جَعْلِ حياةِ النَّاسِ أَكْثَرُ مَشَقةً وأَلَماً مَع الأَسَف ….

ثُمَّ أَرْدفَتْ مُغادِرَةً :

ــ أَتَمنَّى لكَ يَوْماً طيّباً

  اتَجه الشَابُّ لإِحْدَى المَحلاتِ لِلتَبَضُعِ ، وفي طرِيقِهِ لَمحَ العمّ غريب وهو يُلاسِنُ أَحدهُم في حُجةٍ ما  …..

بَهتَ السَائقُ الشَابّ مِمَّا رآهُ وتَمْتَم :          

ــ يَا إِلهي …. ضَحِيَّةٌ أُخْرَى ….

ودَخلَ المَحلَ مُسْرِعاً مُحاوِلاً أَنْ يَعود بِيَوْمِهِ إِلى السكينَة ، فإِِذا بِأَحدِ الزَبائنِ يُبَادِرهُ :

ــ لا تَسْتَغرِبْ هذا ديْدَنهُ كُلَّما اسْتَطاع ……

ثُمَّ أَرْدفَ :

ــ يَعيشُ وحِيداً ، وأَظنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْصدَ انْتِباه الآخَرينَ إِليْهِ فيُشْعِرونَهُ بِأَهميَّةِ وجودِهِ ، فالإِنْسَان كائنٌ يَشْعرُ بِأَهميَّةِ وجودِهِ بَيْنَ قَوْمٍ أَوْ جماعة ، بَيْنَ أَهْلٍ وأَصْحاب ، وهو وحيد ، فلا جماعةٌ ، ولا قَوْمٌ ، ولا أَهْلٌ ، ولا أَصْحاب …… ، هو في متَاهة …..

عقَّبَ الشَّاب :

ــ لكِنْ هُنَاك طُرُقٌ أَفْضَل …….

ردَّ علَيْهِ :

ــ هذا إِنْ تَوَفَّرَتْ ، وما أَدْرانا قَدْ نَبْلُغُ يَوْماً ما مآلهُ ، فالأيَّام لا تَمْنحُ ضَمانَةً بالأَحْوال ، طابَ يَوْمُك ….

ثُمَّ فارَقَهُ مُبْتَعِداً …….

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

كانَتْ قَدْ مَرَّتْ بِضْعةُ أَسَابِيعٍ على شِجارِها مَع العمّ غريب حيْنَ قَرأْتَ خبَراً في الجرِيدَةِ المَحلِيَّة عنْ حادِثَةٍ أَليمةٍ تَرْجو فيها الجِهةُ القضَائيَّة شهُودَ عيَانٍ عنْها ، حيْثُ قَامَ أَحدُ الأَشْخاص وبَعْدَ مُشَاداة كلامِيَّة حادَّة مَع رَجُلٍ عجُوزٍ بِضَرْبِهِ  وايقاعِهِ عنْ درَّاجتِهِ والتَسبُّب لَهُ في عِدَّةِ كسُورٍ ورضُوضٍ نُقِلَ على إِثْرِها لِلمُسْتَشْفى في حالَةٍ غيْر مُسْتَقِرّة ، كمَا أَدَّتْ إِلى كسْرِ المذْيَاع الَّذِي بِحَوْزَتِهِ …..

وجالَتْ عيْناها في صَنْدوقِ الذَاكِرَةِ علَّها تَجِدُ فيهِ ما لَهُ صِلَةً بِالمذْياعِ والدَرَّاجةِ والعجُوز ، فوَجَدَتْهُ قَابِعاً في زَاويَةٍ مِنْهُ ، نَعمْ ، ذَلِك العجُوز الَّذي طحنَتْهُ الحيَاة فجعلَتْ مِنْهُ إِنْسَاناً لا يُطيقُ نَفْسَهُ كمَا لا يُطيقُ الآخَرِين ، فحدَّثَتْ نَفْسَها :  

ــ المذْيَاع !!!! الدراجة !!!! …. وكأَنَّني أَعْرِفُ عنْ صاحِبِهما ؟

 نَظَرَتْ إِلى الصُورةِ المُرْفَقةِ بِالخبَرِ فإِذا بِهِ العجُوز الَّذِي تَشَاجرَتْ مَعهُ ……..

  لَقَدْ كانَ العمُّ غريب .

 

ــ انْتَهتْ ــ

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!