الحوار الهاديء

صراع الميزانية… ملاحظات وأفكار

لويس إقليمس     

 

صراع الميزانية… ملاحظات وأفكار

بغداد، في 21 تشرين ثاني 2019

كثير هو اللغط الذي صاحبَ كتابة الميزانية وإعداد بنودها لعام 2019، تخطيطًا واسترشادًا وإرادة. فالتخطيط لها والاسترشاد بفقراتها وفرض الإرادة في التخصيصات لكل فقرة فيها، كان بلا شكّ بتدبير قادة الكتل المتنفذة الماسكة بناصية ثروات البلاد وتوجيه الأموال صوب الوزارات والجهات التي تضمن لها فيها حصصًا وقدرةً على إدارة تلك الوزارة أو توجيه المؤسسة أو الدائرة التابعة لها. فهذا ديدنُ سياسيّي الصدمة من محدثي النعمة في بلد ضاع فيه التخطيط لتحقيق مشاريع استراتيجية تخدم المواطن وتساعد على تنمية البلاد وتعزيز الموارد بطرق أصولية وحضارية لا تخرج عن المألوف والمشروع والقانونيّ.  

إعادة الميزانية من قبل مجلس النواب مؤخرًا إلى الحكومة العراقية وإلى  وزارة المالية تحديدًا لمراجعتها وتعديل العديد من بنودها وفقراتها كان أكثر من متوقع، بسبب ما احتوته من شوائب ونواقص وتخصيصات خارجة عن المألوف أحيانًا وأخرى مغالية في التخصيص لجهات مترعة لا تحتاجهُا بسبب ما تكتنزه من أموال السنوات السابقة، وكأنّ الإصرار على إبقائها جاء إيغالاً في تثبيت حصّة سنوية تحاصصية تطالب بها هذه الجهة أو تلك بالرغم من عدم حاجتها إلى مثل هذا التخصيص المالي في حين يتم حرمان جهات ومحافظات هي بأمسّ الحاجة إلى إعادة البناء والإعمار والتنمية.

المؤسف في الموضوع، أن أصواتًا وطنية كان منتظَرًا منها أن تعترض أو ترفض أو تطالب الجهة أو الجهات التي فرضت فقراتٍ مالية وأبوابًا غير أصولية وأخرى انفجارية في بعضٍ منها، لم ينبسوا بكلمة، بل لاذوا بالصمت. والصمتُ خير دليلٍ على الموافقة والقبول والرضا بما سرّهم من حصة وتخصيصات تضمن لهم المنافع والامتيازات التي أمّنتها لهم مسودة الميزانية التي أرادت جهات نافذة تمريرها بصيغتها الحالية بالرغم من مقادير الهدر في المال العام الذي يكتنف بعض الأبواب غير الضرورية بكلّ وضوح. أما الأصوات التي نادت برفضها وطالبت بردّها لعدم مقبوليتها، فقد عدتها ميزانية النكبة والظلم والانتقام، خصوصًا في الأبواب المخصصة للمدن المحررة ومنها المحافظات السنّية بالذات، والموصل والأنبار بالتحديد. فحجم الدمار الكبير الذي أصاب الموصل مثلاً وأقضيتها ونواحيها وبلداتها التي اجتاحتها ما يسمّى دولة الخ*لافة الإسلامية لا يمكن تصوّره من حيث التدمير والتخريب والتعطيل في البناء والبنى التحتية والمؤسسات الحكومية والمحلات التجارية والأسواق، إضافة إلى نهب الممتلكات وحرق المنازل وقل ما شئتَ أكثر مما رأيتُ بأمِ عيني.   

أمّا الصنف الآخر من المغرّدين بالاعتراض على مشروع الميزانية المذكور، فهو لا يتجاوز البحث الحثيث عن حصص إضافية لما هو مخصَّص أصلاً لوزاراتهم أو محافظاتهم أو إقليمهم أو الهيئات المستقلّة، أملاً بكسب المزيد لصالح هذه الجهة أو تلك. فقد كان المفترض أن تركّز ميزانية العام القادم 2019 على قاعدتين أساسيتين تصبان في خدمة المواطن وتنمية البلاد وليس منافع الكتل السياسية التي يشتعل فتيلُها حين الحديث عن التخصيصات. فكلُّ جهة توجّه مكاتبها الاقتصادية نحو البحث عن مزيد من التخصيصات من الأموال التي يمكن التلاعب بمقدراتها في ضوء الصراع القائم على الحصص الوزارية والمناصب التي كانت وما تزال تدرّ ذهبًا وعقارات ومخصصات وعمارات ومشاريع اكتظّت وتمتعت بها دول الجوار والخليج وحتى الغربية منها. فقد استغلّ مزدوجو الجنسية صفاتهم ووظائفهم ومناصبهم لاكتناز المزيد من الأموال والثروات في هذه البلدان في ضوء القوانين السائبة التي تسمح لهم بتبييض وغسل الأموال بالطرق الشيطانية أو تحت طائلة القوانين الجائرة التي صاغها ممثلو الشعب لتأمين تمتعهم بامتيازات خيالية جعلت التهافت على الانتخابات النيابية يأخذ مديات وأساليب وطرقًا ملتوية وصادمة أحيانًا لبلوغ قبة البرلمان.

لقد كان الأجدر والأجدى أن يستفيق ممثلو الشعب ليشعروا ولو للحظات ممّا أصاب أحوال مواطنيهم الذين أوصلوهم إلى قبة السلطة التشريعية، لا ليعتاشوا عليهم ويغتنوا من ورائهم ويستغلّوا مناصبهم عبر الضحك على ذقون البسطاء والرقص على جراح الفقراء والمعوزين الذين يتزايدون فقرًا على فقرهم، مقابل ثراء نواب الشعب وتزايد امتيازاتهم ومعهم كبار المتنفذين في الرئاسات الثلاث. كما أنه من المؤسف أن يبقى القطاع الخاص رهينة بيد قوانين محدثي النعمة من الساسة والمسؤولين في الدولة من الذين لا يهمّهم تطور هذا القطاع وتعزيزه بقدرات صناعية وإنتاجية تقف بالمنافسة مع المستورد الذي يتحكم به هؤلاء الساسة عبر مكاتبهم التجارية والاقتصادية وتحكّمهم بتوجيه سياسات الوزارات التي يتم الاستيلاء على مقدّراتها وعقودها بموجب صكّ إقطاعيّ لهذا الحزب أو ذاك.

من الواضح أنّ الحكومة السابقة سعت لإعداد ميزانية 2019 على عجالة بهدف كسب الوقت والظهور بمظهر الحرص الوطني على تقديم شيء مبكر يسهم في تعزيز ثقة الشعب والجهات المعنية بمقدرتها على مواصلة نهجها في قيادة البلاد بفضل فريقها الوزاري. لكنها وقعت في أخطاء كثيرة بسبب سوء التقدير أحيانًا، وفي غيرها بسبب تجاذبات ونزاعات وفرض إرادات من جانب كتل سياسية على حساب كتل أخرى. في حين لم تعر الاهتمام الكافي لقطاع الاستثمار مثلا، والذي خصصت له ما نسبته 25 %، وهي نسبة دون الطموح بحسب الكثير من المهتمين في الجانب التنموي إذ يعدّونها غير متكافئة مع ما تم تخصيصه للإنفاق العام ومنها مخصصات الرئاسات الثلاث السابقة والقائمة حاليًا. فالحاجة للاهتمام بهذا القطاع يأخذ مداه الواسع والضروري إذا أخذنا بنظر الاعتبار، مدى تقدير الحاجة الفعلية لحجم الدمار الحاصل في المحافظات المدمَّرة الخارجة من حرب ضروس مع تنظيم د*اع*ش الار*ها*بي وما خلّفته العمليات العسكرية التي رافقت تحرير المدن والبلدات والقرى وما أصاب البنى التحتية ودمار المساكن وغيرها. وهذا يتطلب تخفيض تخصيصات بعض الوزارات والجهات التي لم تعد فيها من الأولويات بسبب تناقص الحاجة في تقديراتها واحتياجاتها الآنية، ومنها وزارتا الدفاع والداخلية والمؤسسات الأمنية غير الضرورية التي أصبحت في جزءٍ منها منافسة للوزارتين المذكورتين.

في واقع الحال، فإن ميزانية 2019 لا تختلف عن سابقاتها من حيث اعتمادها في مجملها (حوالي 90% منها) على الثروة الريعية التي تأتي من بيع نفوط البلاد، من دون إيجاد بدائل حقيقية استراتيجية ومشروعة وفق قوانين منطقية قد تدر للبلاد ذهبًا لا يقل أهمية عن الثروة النفطية. ومنها على سبيل المثال لا الحصر صناعة السياحة، الآثارية منها والدينية والطبيعية، التي لا تقلّ أهمية عن الثروة النفطية فيما لو جرى استغلالها بطرق أصولية ومن دون استغلال لجهات تهيمن علي مدخولاتها وطريقة جبايتها، كما يحصل حاليًا في السياحة الدينية التي لا يعلم إلاّ الله مقاديرها وطريقة استغلالها والتصرف بها. ناهيك عن الإهمال الحاصل في مجال السياحة الآثارية التي تعجّ بها أرض السواد العراقي من شماله إلى جنوبه. فلو استغلّت هذه جميعًا وغيرها كثيرٌ بطريقة أصولية ووطنية لدرّت للبلاد والعباد خيرًا وبركة واعتاشت عليها نفوس جائعة وعملت فيها أيادي عاطلة عن العمل تبحث عن رزقها اليومي كفاف يومها بطريقة مشروعة ومشرّفة.

ناهيك، عن الجهات ذات العلاقة باستحصال الضرائب الأصولية المعتادة بكافة صنوفها والمعمول بها في بلدان متحضّرة، لم توفّق لغاية الساعة في ترتيب وتنظيم هذا النوع من الضرائب الذي يعدّ من الموارد الكبيرة الذي يرفد ميزانيات الدول المتقدمة. فهناك جهات دخيلة غير أصولية تنافس الهيئات والمؤسسات المالية الرسمية، وهي في الواقع تهيمن على مداخل البلاد من موانئ ومطارات ومنافذ حدودية تدرّ عليها بملايين الدولارات سنويًا من دون أن تتمكن شبه الدولة القائمة حاليًا مثل سابقاتها بوضع حدود لليد الطويلة لهذه الجهات، من ميليشيات وعصابات وأزلام تابعة لأحزاب متنفذة ومشاركة في الحكومة. مقابل كلّ هذا وذاك، فقدأطلقت الحكومات المتعاقبة يدها من أجل تكبيل البلاد وثرواتها بديون وقروض متوسطة وطويلة الأمد ستضع الأجيال القادمة رهينة بيد الجهات المقرِضة بحجة حاجة البلاد إلى الأموال لأغراض الإعمار والبناء والاستثمار. والحقيقة أنّ معظم هذه القروض ضئيلة النفع العام بسبب غياب التخطيط المسبق وعدم توفر استراتيجية فاعلة وصحيحة لدى الجهات المعنية في مسألة وضع النقد المستدان والمنح والمساعدات في مكانها الصحيح إلاّ ما ندر. والسبب معروف لا يحتاج إلى تفسير، آفة الفساد الإداري والمالي التي تنخر في جسم الدولة العراقية ولا مناص من محاربتها والقضاء عليها بالرغم من حديث الساسة والمسؤولين التنفيذيين والتشريعيين بها جهارًا. لكنَّ الحقيقة غير ما يتحدثون عنه ويقولونه ويصرّحون به علنًا. فالبادي للملأ شيء كثيرٌ ومدهش، لكنَّ ما خفي كان أعظم!

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!