مقالات

الوعي تحت المقص: مقارنة نقدية لتحولات الإعلام والدراما

د.حمدي سيد محمد محمود

منذ الثالث من يوليو 2013، دخل الإعلام المصري مرحلة جديدة من التشكّل السياسي والثقافي، حيث لم يعد مجرد وسيلة لنقل الأخبار أو إنتاج الترفيه، بل تحوّل إلى أداة سلطوية لإعادة تشكيل الوعي الجمعي، وفق منطق الهيمنة والسيطرة. تغيّرت الوظيفة التقليدية للإعلام بوصفه سلطة رقابية أو منبرًا للتعدد والتعبير، ليغدو أداة لتكريس خطاب أحادي، يُعلي من صورة النظام السياسي القائم، ويُقصي كل الأصوات التي تنتمي إلى طيف مغاير أو معارض. هذا التحول لم يكن معزولًا عن مسار تاريخي أوسع شهدته المنطقة العربية، بل يمكن مقارنته بتجارب إعلامية مماثلة في دول مجاورة، وأخرى عرفها التاريخ المعاصر في فترات الصراع الأيديولوجي.

في الحالة المصرية، تم تفكيك البنية الإعلامية المستقلة أو شبه المستقلة التي برزت بعد ثورة يناير 2011، من خلال سياسات السيطرة المباشرة وغير المباشرة على المؤسسات الإعلامية، عبر شركات ضخمة مرتبطة بأجهزة سيادية. أُقصي الإعلاميون المستقلون، وتعرض بعضهم للملاحقة أو السجن أو التضييق، فيما جرى تمكين إعلاميين يدورون في فلك السلطة، ويتبنون خطابًا تعبويًا يكرس الطاعة، ويُجرّم النقد، ويُشوّه كل من يعارض السياسات الرسمية.

هذه الديناميكية لا تختلف كثيرًا عمّا شهدته تجارب أخرى في المنطقة العربية، خاصة في سوريا والعراق في عهدي حافظ الأسد وصدام حسين، حيث كان الإعلام يُستخدم كأداة لتقديس الزعيم، وتبرير سياسات القمع الداخلي، وإخفاء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية خلف شعارات النصر والمقاومة والوحدة. في تلك السياقات، كما في الحالة المصرية، تم تصوير الإعلام على أنه جزء من الأمن القومي، ما أضفى على الرقابة بعدًا أيديولوجيًا يتجاوز الاعتبارات المهنية أو الأخلاقية.

الدراما المصرية، التي كانت يومًا ما تُشكل رافعة ثقافية في العالم العربي، لم تسلم من هذا التحول السلطوي. فبدءًا من عام 2014، برزت موجة من الإنتاجات الدرامية التي ركزت على تمجيد الأجهزة الأمنية والعسكرية، وصناعة أبطال يرتبطون حصرًا بالمؤسسات الرسمية، بينما صُوّرت الحركات الاحتجاجية أو المعارضة السياسية باعتبارها خلايا تخريبية أو تهديدات للتماسك الوطني. وهكذا، تحوّلت الدراما من وسيلة للتساؤل النقدي والتعبير الفني، إلى أداة لنقل الرسائل الرسمية وتدعيم السرديات السلطوية.

هذه التجربة لها ما يشابهها في تاريخ الأنظمة التسلطية، كما في ألمانيا النازية، حيث لعبت السينما دورًا محوريًا في بناء صورة ه*ت*لر وتكريس النزعة القومية المتطرفة، أو في الاتحاد السوفيتي الستاليني، حيث كانت الفنون كلها، بما فيها الرواية والمسرح والسينما، خاضعة لما يُعرف بـ”الواقعية الاشتراكية”، التي تُمجد النظام وتُقصي كل تمثيل للواقع المعقد أو النقدي. في كل هذه التجارب، كما في مصر المعاصرة، يُستبدل الوعي النقدي بوعي مُوجَّه، والإبداع الحُر بصناعة رمزية خاضعة للرقابة.

وفي المقابل، شهدت بعض الدول العربية تجارب إعلامية أكثر توازنًا، مثل التجربة اللبنانية، التي وإن لم تخلُ من الانقسامات الطائفية والسياسية، فإنها حافظت نسبيًا على فضاء إعلامي متعدد، يضم قنوات وصحفًا تعبر عن طيف متنوع من الآراء. وكذلك التجربة التونسية ما بعد الثورة، التي، رغم ما واجهته من تحديات، سعت للحفاظ على استقلالية نسبية لوسائل الإعلام، وأقرت تشريعات تعزز حرية الصحافة، وإن كانت هذه المكاسب تبقى هشّة في ظل الصراعات السياسية المتجددة.

عودة إلى مصر، يتضح أن الإعلام والدراما لم يعودا يعكسان نبض الشارع أو أوجاع المواطن، بل صارا مرآة مشوهة لواقع متخيل، يُقدَّم للمواطن على أنه الحقيقة الوحيدة، في ظل تغييب ممنهج للأصوات الأخرى. لقد أصبحت الشاشة مساحة لإعادة إنتاج الولاء، لا لفهم التناقضات المجتمعية، أو طرح الأسئلة الكبرى عن العدل والحرية والكرامة.

إن الأزمة ليست أزمة إعلام فحسب، بل هي جزء من أزمة المجال العام نفسه، حيث يتم تفكيك الفضاءات التي تسمح بالنقاش، والتعدد، والتفكير الحر. إننا أمام بنية رمزية جديدة، يُعاد من خلالها تشكيل الوعي العام، ضمن معادلة مغلقة تُقصي الحرية لصالح الأمن، وتُقصي التعدد لصالح الخطاب الواحد، وتُقصي الإنسان لصالح الدولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!