مقالات

-الوقوف على عتبات الأمس-: كتابة ضد النسيان في زمن القطيعة –

تبدو رواية “الوقوف على عتبات الأمس” لأحمد طايل وكأنها لحظة توقف طويلة أمام مرآة الزمن، محاولة لفهم ما تبقى من الذاكرة حين تتقاذفها رياح العولمة، وما يُمكن إنقاذه من فتات الهوية حين تُفرَض على الإنسان حداثة لا تأبه بجذوره. لا يتعامل طايل مع الماضي بوصفه أرشيفًا ساكنًا، بل بوصفه كائنًا حيًا، يُطِلّ من شقوق الحاضر بعين متعبة، ويُطالب بالاعتراف والإنصاف.

في هذا العمل، يكتب طايل من داخل الجرح، لا من فوقه. يمضي بسرده لا ليُعيد تمجيد القيم القديمة بكسل فكري، ولا ليرثي أطلالًا بكائية، بل ليُجرِّد سؤال الهوية من عاطفيته الزائدة، ويُعيد طرحه بوصفه سؤالًا وجوديًا: ماذا يتبقى من الإنسان حين يفرّط في ذاكرته؟ الرواية تُقاوم التغير الجارف الذي يُعيد تشكيل الوعي الفردي والجمعي، وتطرح الحنين لا كعاطفة، بل كآلية دفاع ضد المسخ.

يُجيد طايل في هذه الرواية لعبته القديمة: التوتر الهادئ. لا صخب في الأحداث، ولا انقلابات درامية صارخة، بل مشاهد تتسلل برفق، وتحفر بعمق. البطل الذي لا يُسمّى – كما في كثير من أعمال طايل – ليس مجرد شخصية بل هو استعارة لذات جمعية، تبحث في الأزقة الضيقة لذاكرتها عن معنى في زمن فقد طقوسه. يتنقل بين الماضي والحاضر كمن يمشي على أطراف الذكرى، يخشى أن تطويه.

اللغة تنبض بعذوبة لا تنزلق نحو التجميل الفارغ، بل تلتقط نبض الحياة اليومية في بساطتها وألمها. كل جملة تبدو كأنها قيلت من قبل، لا لأنها مكرورة، بل لأنها صادقة بما يكفي لتصبح مألوفة، ومنقوشة في الوعي الجمعي. تتماهى اللغة مع الحالة النفسية للشخصيات، فتبطئ حين يتثاقل الزمن، وتتوتر حين تتقاطع الأزمنة وتتداخل.

لا تخلو الرواية من موقف حضاري واضح. ثمة موقف ناقد من العولمة، لا بوصفها خطرًا خارجيًا فقط، بل بوصفها خيارًا تم قبوله بلا مساءلة. الرواية تسائل الاندماج القهري في ثقافة الاستهلاك، وتُشير إلى ما يشبه “الانسلاخ الهادئ” من الذات، حين تصبح المرجعيات الثقافية مجرد ذكرى، والأغاني القديمة مجرد نغمة غريبة في زحمة الحداثة.

في ختام الرواية، لا يمنحنا طايل إجابات سهلة، بل يتركنا على عتبة السؤال، تمامًا كما ترك بطله على عتبة الأمس، ينظر إلى الوراء لا ليعود، بل ليتذكر أنه لا حاضر بلا ذاكرة، ولا مستقبل بلا نسب. هذا العمل، في جوهره، ليس فقط رواية عن الحنين، بل عن الحق في التذكر، وعن مقاومة النسيان في زمن بات فيه التقدم مرادفًا للقطيعة.

“الوقوف على عتبات الأمس” عمل يقف على تخوم الشعر والتاريخ، يستنطق الصمت، ويمنح الهامش صوته المفقود، ويُثبت مرة أخرى أن السرد حين يُحسن الإصغاء للماضي، لا يشيخ، بل يتجدد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!