مقالات

المغرب يقود طريق السلام في الصحراء: رؤية تنموية تكشف زيف

في قلب المتاهة الإقليمية التي تُعرف بملف الصحراء، تتكشف يومًا بعد يوم تعقيدات سياسية وإنسانية تُلقي بظلالها على استقرار المنطقة برمتها. هذا النزاع، الذي يمتد جذوره إلى عقود مضت، ليس مجرد صراع على الأرض، بل هو اختبار للإرادات السياسية، وميدان لتصادم الرؤى بين من يسعى إلى بناء جسور الحل، ومن يجد في استمرار الأزمة فرصة لتعزيز أجنداته الخاصة. إنه ملف يتجاوز حدود الجغرافيا ليصبح رمزًا للتوتر بين منطق الدولة الحديثة وإرث الحرب الباردة، بين التنمية والجمود، وبين صوت الإنسان العالق في مخيمات الانتظار وصخب الشعارات التي تُدار باسمه.
المغرب، منذ أن طرح مبادرة الحكم الذاتي في العام 2007، وضع نفسه في موقع الطرف الذي يمتلك رؤية واضحة للخروج من هذا المأزق. هذه المبادرة، التي لم تكن مجرد ورقة سياسية عابرة، بل مشروعًا مدروسًا يحترم سيادة الدولة ويفتح آفاقًا للتفاوض، حظيت بتأييد متزايد من قوى دولية فاعلة، من الولايات المتحدة إلى فرنسا، وصولاً إلى دول الخليج وعدد من الدول الإفريقية. ما يميز هذا الطرح هو مرونته الواقعية: فهو لا يفرض شروطًا تعجيزية، بل يقترح إطارًا يتيح لساكنة الصحراء إدارة شؤونها الداخلية بحرية وكرامة، مع الحفاظ على الاستقرار الإقليمي. لكن، ورغم هذا الوضوح، يبدو أن الطريق نحو الحل يصطدم دائمًا بحواجز العرقلة التي يتقن البعض نصبها.
في الطرف المقابل، تستمر الجزائر، بمساندة جبهة البوليساريو، في تبني خطاب يستعيد أصداء حقبة مضت، حيث كانت الإيديولوجيات الجامدة تُشكل عدسات الرؤية السياسية. هذا الخطاب، الذي يُصر على إعادة إنتاج سرديات الحرب الباردة، لا يكتفي بالتشبث بمواقف فقدت بريقها دوليًا، بل يذهب أبعد من ذلك ليستثمر في تجميد الوضع الإنساني في مخيمات تندوف. هناك، حيث العزلة هي القانون، والحرمان هو الواقع اليومي، يعيش الصحراويون في ظل نظام لا يوفر لهم إلا الحد الأدنى من الحياة، محرومين من أبسط مقومات الكرامة. الأخطر من ذلك هو تحويل هؤلاء اللاجئين إلى أدوات رمزية في لعبة سياسية، حيث يُسلب صوتهم ويُحتجز أملهم في أفق مسدود. الطفل الذي يولد في خيمة، والشاب الذي لا يعرف من العالم سوى الرمل والانتظار، هما الضحايا الحقيقيون لهذا الجمود، لكنهما، للأسف، الأقل حضورًا في المعادلة.
ما يزيد من تعقيد المشهد هو أن هذا الاستثمار في الأزمة ليس مجرد خطأ استراتيجي، بل هو خيار مدروس يخدم حسابات جيوسياسية أوسع. الجزائر، التي تُقدم نفسها كمدافعة عن مبدأ تقرير المصير، تجد في هذا الملف أداة لتصفية حساباتها مع المغرب، ومحاولة لتشتيت انتباه الرأي العام الداخلي عن تحدياتها الاقتصادية والسياسية. لكن هذا النهج، الذي قد يحقق مكاسب تكتيكية قصيرة المدى، يُكلف المنطقة كلها ثمنًا باهظًا: عدم الاستقرار، انعدام الثقة، واستمرار نزيف الإنسانية في تندوف. في المقابل، يواصل المغرب نهجه الذي يجمع بين الواقعية السياسية والطموح التنموي، حيث تُترجم المبادرات الدبلوماسية إلى مشاريع ملموسة في الأقاليم الجنوبية. من البنية التحتية إلى التعليم والصحة، يعمل المغرب على بناء نموذج تنموي يُثبت أن السيادة ليست مجرد شعار، بل مسؤولية تُقاس بمدى قدرتها على تحسين حياة الناس.
التحولات الدولية الأخيرة، التي شهدت اعترافات متتالية بمغربية الصحراء، لم تأت من فراغ. إنها نتيجة تراكم دبلوماسي صبور، وثقة متزايدة في جدية الطرح المغربي. دول مثل الولايات المتحدة، التي أعلنت دعمها الصريح لمبادرة الحكم الذاتي في 2020، وفرنسا التي أبدت تأييدها بشكل متزايد، تدرك أن استقرار شمال إفريقيا يمر عبر حلول عملية، وليس عبر شعارات جوفاء. هذه التحولات تُبرز أيضًا عزلة الخطاب الجزائري-البوليساريو، الذي يعتمد على استعراضات إعلامية وبلاغات تحمل طابع الحنين إلى زمن لم يعد له وجود. لكن، ورغم هذا التقدم، يبقى السؤال الأخلاقي قائمًا: إلى متى يمكن أن تستمر هذه المسرحية السياسية على حساب الإنسان؟
في كل جلسة مفاوضات تُؤجل، وكل حوار يُعطل، يدفع الإنسان البسيط الثمن. ذلك الأب الذي يحلم بعودة آمنة إلى أرضه، تلك الأم التي تنتظر فرصة لتعليم أبنائها، وذلك الشاب الذي يتوق إلى حياة تتجاوز حدود الخيمة. هؤلاء هم الذين يستحقون أن تُعاد صياغة هذا الملف من أجلهم، ليس كساحة للصراع الإقليمي، بل كورش سلام يُعيد لهم كرامتهم ويمنحهم صوتًا. المغرب، بمبادرته، قدم مفتاحًا لهذا الحل، لكنه مفتاح يحتاج إلى إرادة جماعية لفتح الباب. في المقابل، يبدو الطرف الآخر مكتفيًا بالتلويح بالسلاسل، وكأن الصراخ وحده قادر على تغيير حقائق التاريخ أو إعادة رسم الجغرافيا.
آن الأوان للخروج من متاهة الشعارات، ولتتوقف لعبة الابتزاز باسم “القضية”. المغرب اختار أن يحمل مشروعًا تنمويًا وسياسيًا يضع الإنسان في صلب اهتماماته. أما المنطقة، فتنتظر من الجميع أن يتحلوا بالشجاعة لينضموا إلى هذا المسار، أو على الأقل، أن يتوقفوا عن عرقلته. ففي نهاية المطاف، التاريخ لا يكتب بالصراخ، بل بالأفعال التي تُغير حياة الناس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!