مقالات

الكتابة كقَدَر: من حبر الذات إلى وجع الوطن (3)

أكتب لأن الصمت خيانة وتواطئ وجبن … ؛ أكتب لأن في داخلي نداء لا يهدأ، وجمرة لا تنطفئ، وألماً يرفض المساومة… ؛ أكتب لأنني حين أسكت، أشعر أن الزيف يتكلم باسمي….

إن الكلمة موقف، ومن لا موقف له لا يستحق أن يُمسك القلم… ؛ فالكتابة، كما أفهمها، ليست وصفاً لما هو كائن، بل مقاومةٌ لما لا ينبغي أن يكون… ؛ فهي ليست انحيازًا للواقع، بل تمرّدًا عليه، حين يكون الواقع ظلماً وقبحاً واستعباداً.

الكتابة الحقيقية ليست اصطفافًا مع السلطة او اصحاب النفوذ ، ولا تنفّسًا في الهامش وصراخا في الظل ؛ بل هي اقتحام للمركز، وزلزلةٌ للبنيان المهترئ، ومساءلة جذرية لما اعتدنا تسميته وطنًا، وهو في الحقيقة مسلخٌ بدمٍ بارد.

في العراق، مثلاً، لم يعد الحاكم وحده هو المشكلة، بل بنية التفكير، وتركيبة المجتمع، وتآكل الضمير الجمعي.

حين يتآمر الجاهل على المثقف، ويتحوّل التافه إلى نجم، ويُقصى الشريف لأنه قال : “لا”، تصبح الكتابة فعل نجاة جماعي، لا مجرد نجاة فردية.

هل أكتب لأُرضي أحدًا؟

لا.

أنا أكتب لأنني رأيت أبناء جلدتي يُبادون، وأرواحهم تُستهان، وكرامتهم تُباع في سوق المصالح الدولية والولاءات المحلية واسواق النخاسة الاقليمية والعالمية .

رأيت الكذب يتربّع على عرش الفضيلة، والفجور يُدرّس باسم الدين، والخيانة تُمنح أوسمة وطنية، واللصوص يُعاد انتخابهم من قبل ضحاياهم.

في مثل هذه البلاد، تكون الكتابة فعلاً يشبه الا*نت*حا*ر… لكنها أيضًا فعل حياة.

أكتب لأن ثمة أجيالًا لم تُولد بعد، سيقرؤون يومًا ما: هل تكلمنا؟ أم صمتنا؟

هل كنا شهود زور؟ أم شهود حق؟

هل كنّا بين القاعدين؟ أم حملنا جراحنا ومضينا؟

الكاتب ليس نبيًا، لكنه شاهد على عصره، ناقدٌ لزيف قومه، لا تابعٌ لهم.

هو مرآة مكسورة، تعكس الألم كما هو، لا كما يشتهيه الجمهور واصحاب الامتيازات والقصور.

هو عاشقٌ، لكن عشقه للوطن ليس طمسًا لحقيقته، بل إصرارٌ على إصلاحه، حتى ولو تأذى من ذلك العشق الممنوع .

الكتابة الحرة تعني أن تضع إصبعك على الجرح، ولو صرخوا في وجهك: “أبعد يدك!”.

تعني أن تُخرج الحق من بين أنياب الباطل، وتعيده إلى مكانه الطبيعي في وعي الناس.

أن تحبّ شعبك وقومك وقريبك وجارك وزميلك وصديقك … ؛ لا بأن تجامله، بل بأن تصارحه حتى يُشفى من جهله وخوفه وقبليّته وطائفيته وعنصريته وفئويته الضيقة .

نعم، لا قيمة لكاتبٍ يُخادع قارئه، ويُضلّل جمهوره، ويمسح على رؤوس العار كي يُكافَأ.

ولا شرف لمن باع قلمه في سوق الارتزاق، ولا عذر لمن سكت خوفًا أو طمعًا أو خضوعًا.

ومن لا يملك الجرأة على قول ما يراه، لا يملك الحق بأن يصف نفسه بالكاتب الحر.

في زمن الطائفية والتخندق القومي والمناطقي ، تكون الكلمة شجاعة.

وفي زمن القمع والفساد والتآمر ، تصبح الكلمة طلقة، وواجبًا، وأحيانًا… وصية قبل الموت.

أكتب وأنا أعلم أن كلماتي قد تُغضب، وقد تُحاصر، وقد تُشوَّه.

لكنني أكتب، لأني أؤمن أن الكلمة الصادقة لا تموت.

قد تُدفن، لكنها كالحجر الكريم: حين تُستخرج من تحت الركام، تلمع أكثر، وتفضح كل ما حاول إخفاءها.

الكلمة الصادقة لا تُشترى، ولا تُكرى، ولا تساوم.

إنها تنتمي إلى الضمير، ومن لا ضمير له لا يعرف شرفها.

الكتابة الحقيقية لا تكون بأجر، بل بألم.

لا تُولد من الوفرة، بل من القحط.

ولا تزدهر في الراحة، بل تنمو وسط الرماد.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!