آراء متنوعة

العهر… حين يغيب الموقف وتنتحر الذاكرة

العهر… حين يغيب الموقف وتنتحر الذاكرة

بقلم: البروفيسور وليد الحيالي

ما أكثر ما شوهت المجتمعات معنى «العهر»، حين اختزلته في جسد امرأة باعته لرجل في سرٍّ أو علن. وما أقل ما فكرت في المعنى الحقيقي للعهر: ذاك الذي يسكن الأرواح والضمائر، ويعشعش في المواقف حين تغيب، فيخون الإنسان ذاكرة من وقف معه يوم عزّ النصير، ويطعن ظهر من أسند كتفه إليه في محنته.

في تجارب المنافي والاعتقال والمنفى، رأيت بأم عيني رجالًا ونساء، ظلت أجسادهم عفيفة أمام الأعين، لكن أرواحهم كانت أكثر عهرًا من بائعات الرصيف. تخلوا عن رفاقهم، باعوا أسماءهم، تنازلوا عن مبادئهم أمام أول فرصة للخلاص، وأنكروا من ضحى لهم وعنهم. هؤلاء هم العهر الحقيقي، مهما ارتدوا من مسوح الطهارة ولباس «الشرف» الاجتماعي.

تذكرت — وأنا أكتب هذا — حكاية أوفيليا في هاملت، تلك الفتاة العذراء التي خانت حبيبها حين خافت على نفسها من الملك وأبيه، فضلت الانصياع على الوفاء. لقد ماتت عذراء الجسد، لكنها دفنت ملوثة الروح.

وفي حياتنا العربية القاسية، كم من أوفيليا مرّت علينا؟ نساء تخذل، وأشباه رجال ينقلبون عليك في ساعة المحنة، بعد أن كنت لهم وطنًا وسندًا وملاذًا. هؤلاء جميعًا، لا يحتاجون إلى فراش ليبيعوا أنفسهم، فهم يبيعون أرواحهم في سوق الخوف والمصلحة.

إن المرأة التي تخلت عن رجل له تاريخ من النضال والمواقف، فقط لأنه أصبح منبوذًا أو منكسرًا، تمارس أبشع أنواع العهر. لا لأن جسدها مع غيره، بل لأن قلبها خانه، وذاكرتها أنكرت. وإن الرجل الذي باع رفاقه للسلطة لقاء منصب أو مال، هو أيضًا عاهر في مواقفه مهما ادعى البطولة.

كم من جسد مستباح ظل مخلصًا في مواقفه، يصرخ في وجه الظلم رغم كل العيون المترصدة. وكم من جسد متدثر بالعفة يمارس العهر كل يوم في الخيانة الصامتة.

يا سادة: الجسد شأن صاحبه، أما الموقف، فهو شأن أمة، وتاريخ، وضمير حي. ولا تصدقوا أن العهر هو ما فوق الأسرة، العهر ما فوق المنابر وفي قرارات الخيانة والخذلان.

ليست العفة فستانًا يغطي جسد امرأة، بل موقفًا يستر روحها ويصون ذاكرة المحبة والوفاء. كما أن الشرف ليس اسمًا يعلّقه الرجل على جدار بيته، بل موقفًا يقف به صلبًا حين ينكسر الجميع.

في النهاية، لن يسألنا التاريخ: مع من كنتم تقضون لياليكم؟
بل سيسألنا: مع من وقفت مواقفكم؟ ومن خذلتم؟ ومن أنكرتم؟

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!