العلم والتكنولوجيا والدولة المدنية مفتاح النصر والتقدم
ان لحظات الشدائد، على قسوتها، غالبا ما تحمل في طياتها دروسا لا تقدر بثمن. انها تدعونا الى اعادة تقييم مسلماتنا والى النظر بعمق في الاسباب الحقيقية وراء تقدم الامم وصعودها او تخلفها وانكسارها. ان ما نشهده اليوم من تفوق عسكري واقتصادي لدول معينة ليس وليد الصدفة، ولا هو نتاج لمعتقدات او شعائر دينية، بل هو حصيلة تراكم معرفي هائل، واستثمار طويل الامد في العلم والتكنولوجيا. هذا التراكم والاستثمار لم يأت من فراغ، بل هو نتاج مباشر للصراع المعقد داخل المجتمع وتطور الظروف المادية السائدة.
لقد اثبت التاريخ والحاضر على حد سواء ان القوة الحقيقية للامم تكمن في قدرتها على الابداع والابتكار. عندما تقارن امة استثمرت مليارات الدولارات في البحث والتطوير لتنتج احدث المنتجات بأمة اخرى لا تزال تعتمد على تقنيات قديمة في صناعاتها الاساسية او توفيرها من قبل دول اخرى، فان النتيجة تكون واضحة. ان الفارق ليس في الايمان او الولاء لمذهب معين، بل في امتلاك ناصية العلم الذي يحول الافكار الى واقع، والاحلام الى انجازات ملموسة على ارض الواقع.
ان المعارك الحديثة، سواء كانت عسكرية او اقتصادية او حتى اجتماعية، تحسم بالعقول المبدعة، بالمهارات التقنية المتقدمة وبالبنى التحتية المتطورة التي يوفرها العلم. الدعاء وحده لا يبني المصانع، ولا يصمم الرقائق الالكترونية، ولا يبتكر الادوية المنقذة للحياة. القائد الديني لن يقود القوات المسلحة على الارض او في الجو، انما هو العلم وحده من يقود ويحسم المعركة. هو الذي يمد المقاتلين باحدث الاسلحة ويزود الاطباء بانجع العلاجات ويمنح المهندسين القدرة على بناء مدن ذكية.
هنا يبرز الدور المحوري للدولة المدنية العلمانية. الدولة العلمانية ليست دولة ضد الدين او القيم الروحية، بل هي دولة تفصل بين مؤسسات الحكم وادارة شؤون البلاد وبين العقائد الدينية والمذهبية. هذا الفصل الحيوي يسمح للدولة بالتركيز على بناء مؤسسات قوية وشفافة، تقوم على الكفاءة والجدارة وتعنى بتحقيق مصالح جميع المواطنين دون تمييز على اساس القومية او الدين او المذهب. عندما تكون الدولة مدنية وعلمانية، فانها تضع العلم في صدارة اولوياتها وتشجع البحث العلمي وتنشئ الجامعات ومراكز الابحاث وتوفر البيئة الخصبة للابداع والابتكار. هي لا ترهن مستقبلها بالخرافات، بل تبنيه على الحقائق والمنطق.
ان الامم التي حققت قفزات نوعية في التطور والتقدم هي تلك التي ادركت هذه الحقيقة. لقد استلهمت من تجاربها، وتعلمت ان السبيل الوحيد للتغلب على التحديات وهزيمة الاعداء ليس بالاعتماد على الشعارات الرنانة، بل بالبناء الجاد للعلم وتطوير التكنولوجيا وارساء دعائم دولة مدنية حديثة. انها دعوة صادقة لان نتعلم من تجاربنا، وان نعيد ترتيب اولوياتنا، وان نجعل من العلم والتكنولوجيا ركيزة اساسية لنهضتنا، ومن الدولة المدنية العلمانية اطارا لحكمنا الرشيد. عندها فقط، يمكننا ان نطمح الى بناء مستقبل افضل لاجيالنا القادمة، مستقبل يسوده التقدم والنصر، لا الهزيمة والخيبات.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.