مقالات

الطبيعة القانونية للودائع النقدية

لا يعود الخلاف بين فقهاء القانون في تكييف ودائع المصارف، المأذون باستعمالها، إلى استخدام لغة مصطلحية مضللة فحسب، بل كذلك إلى عدم التحليل السليم لطبيعة العملية نفسها على صعيد العلاقة الحقوقية. والمشرع، من جانبه، لم يدخر وسعًا في سبيل ترسيخ ذلك. دعونا نتفق أولًا على أن مصطلح وديعة لم يظهر، في غرب أوروبا، إلا في أوائل القرن السادس عشر (ولا أعلم لماذا قال الفقيهان بودري وفال في القرن الرابع عشر) لستر علاقة القرض بفائدة المحرمة وفق التعاليم الكنسية. على كل حال نحن إذًا بصدد قرض مستتر، ووديعة ظاهرة. وعلى الرغم من أن المشرع في مصر حسم، وعن صواب، المسألة حينما قرر:”إذا كانت الوديعة مبلغًا من النقود… وكان المودع عنده مأذونًا له في استعماله اعتبر قرضًا”. المادة 726 مدني، إلا أن المشكلة تكمن في استخدام المشرع مصطلح الملكية كما في المادة 301 من قانون التجارة حينما قرر أن البنك يتملك النقود! وفي المادة 538 مدني، حينما قرر صراحة أيضًا أن المقرض، في عقد القرض، ينقل ملكية مبلغ من النقود إلى المقترض! وهو نص يوحي بأن النقود انتقلت ملكيتها الكاملة من المقرض إلى المقترض وهذا غير صحيح، وبالتالي صار يسيرًا ترتيب النتائج على ذلك حينما تهلك النقود، فهي تهلك على البنك؛ لأنها المالك بموجب نص المادة. وهذا غير صحيح فقهًا؛ والدليل أن النقود تقيد في جانب الخصوم لا الأصول، كما أن ترخيص المشرع للمصرف بأن يدفع طلب الاستراد بالمقاصة يؤكد أن المصرف لم يكن مالكًا أبدًا للنقود المودعة. أضف إلى ذلك أن التزام المصرف بالرد سينعدم، بمجرد الاعتراف بملكية المصرف للنقود. وحينما نبحث عن (سبب التزام) المصرف، أي سبب دفع المصرف المبلغ السابق إيداعه، ونفترض ملكية المصرف له، فإذا قلنا أن سبب الالتزام هو العقد، فلن يكن أمامنا سوى القول بأن مصدر الالتزام هنا سيكون الهبة والإرادة المنفردة، وهو قول يتنافى مع الواقع والمنطق الفقهي السليم. والواقع أن التغلغل في عمق عملية الإيداع النقدي، مع الإذن بالاستعمال، إنما يجعلنا أمام عقد قرض يتحلل إلى بقاء ملك المقرض للنقود، وإيجار لها، بعد تحويلها إلى رأسمال معد للإقراض، هذا الإيجار يتضمن بطبيعته بيع حق الانتفاع والاستغلال. وبيع حق الانتفاع والاستغلال على هذا النحو هو بيع حصة، نصيب، في الشيء الذي يهلك بطبيعة الحال مع كل انتفاع به واستغلال، وبالتالي يعد إيداع النقود مع الإذن باستعمالها قرضًا بتلك الكيفية التي ترى بقاء ملك الرقبة للمقرض، وانتقال ملك المنفعة والاستغلال فحسب للمقترض. وليس وديعة ناقصة كما ذهب العلامة السنهوري. الوسيط، ج5، ص429. أما عن سبب هلاك الوديعة على المصرف، وليس المقرض مالك النقود، فيمكن أن يجد سنده في قاعدة تضمين الصانع. قال المعداني:”… وخصص العلماء من ذلك الصناع وضمنوهم نظرًا واجتهادًا لضرورة الناس… فلو علموا أنهم لا يضمنون ما تلف لسارعوا إلى أخذ أموال الناس. والضرورة داعية إليهم…”. المعداني، كشف القناع عن تضمين الصناع، ص73-78. وقال الشاطبي في الموافقات:”إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع. قال علي رضي الله عنه: لا يصلح الناس إلا ذاك، ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة، فكانت المصلحة التضمين”. الشاطبي، الموافقات، ج4، ص291. وكذلك: الشاطبي، الاعتصام، ج2، ص617. مالك بن أنس، المدونة، ج3، ص399-400. أبو الوليد بن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج4، ص18. السرخسي، المبسوط، ج15، ص82. ابن قدامة، الكافي، ج2، ص184. وتضمين الصانع على هذا النحو هي قاعدة أصولية جرى خلقها للمصلحة. ويجب انطباقها من باب أولى مع المصارف، لا لأن الوديعة التي يستخدمها تجر عليه نفعًا فحسب، بل ولأنها كذلك الطرف الأقوى والأكثر وعيًا ودراية. بل ومن الشائع والمألوف خروج المشرع على القواعد العامة حينما يكون المصرف هو أحد الأطراف المتعاقدة، كما في قواعد الحجز، وحماية المستهلك، ومنع الاحتكار… إلخ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!