آراء متنوعة

الذكاء الاصطناعي ونهضة الإنسان المعاصر

تحسين الشيخلي

في أولى نشاطات المركز الثقافي العراقي في لندن، بإدارة الصديق الإعلامي الدكتور عبد الحميد الصائح، كان للذكاء الاصطناعي شرف افتتاح البرنامج الثقافي من خلال محاضرة قدّمها أحد الخبراء الشباب المتميزين في هذا المجال، الدكتور علي العتابي. وحضرها المستشار الثقافي الجديد في السفارة العراقية الدكتور قصي الاحمدي رئيس جامعة الموصل السابق وجمهور مميز من الجالية العراقية في لندن كانت المحاضرة جميلة وشاملة، وغنية بالمعلومات الحديثة، رغم أن إدارة المركز لم تُحسن اختيار من يدير الأمسية، إلا أن قدرة المحاضر وعمق طرحه كانا كفيلين بتغطية هذا الخلل.
ما يؤسفني في هذه المناسبة، كما في كثير من الطروحات المعاصرة، هو ذلك الميل إلى تقديم الذكاء الاصطناعي في صورة قاتمة ومقلقة، وكأن البشرية تقف على حافة هاوية بسبب تقدّم هذه التكنولوجيا. هذا الخطاب السوداوي المتشائم، وإن كان مفهومًا من حيث الحذر، إلا أنه يُهمل الجوانب الأكثر إشراقًا، تلك التي تدفعنا لرؤية الذكاء الاصطناعي لا كمجرد ثورة تقنية، بل كبداية نهضة إنسانية جديدة.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن ما ورد على لسان السيد المحاضر وبعض الحضور حول عجز العقل العربي عن مواكبة هذا التحول، هو رأي لا يتسق مع الواقع. فالعقل العربي قادر على الإبداع والابتكار متى ما أُتيحت له الفرصة.

في عصر الثورة الرقمية، تغيّرت مقومات البنية التحتية اللازمة للإبداع، لم تعد تتطلب مصانع أو مؤسسات ضخمة، بل يكفي وجود فكرة خلاقة مدعومة بالمعرفة والذكاء. لقد أصبح من الممكن لشخص واحد أن يقدّم اختراعًا يعادل جهود مؤسسة بأكملها، وهذا النوع من الفرص ليس بعيدًا عن العقل العربي، بل هو في متناول من يملك الإرادة والمعرفة والبيئة الداعمة.
وهو ما أشار إليه مؤخرًا سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة (أوبن إيه آي)، عندما قال إن الذكاء الاصطناعي تجاوز كونه مجرد ثورة، ليكون مرحلة جديدة من نهضة حضارية تعيد تشكيل الفكر والعلم والإبداع، تمامًا كما فعل عصر النهضة في أوروبا قبل قرون. هذا التصريح يلهمنا لإعادة التفكير في معنى التقدم، وفي إمكانيات الذكاء الاصطناعي لخلق عالم أوسع معرفة، وأعمق فهمًا، وأكثر إنسانية.
ففي تصريح لافت يعكس عمق التحول الذي يشهده العالم، قال سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة (أوبن إيه آي)، إن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد ثورة تكنولوجية تقلب أنماط الحياة، بل تجاوز هذا المفهوم ليكون بداية نهضة جديدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لقد أشار ألتمان إلى أن ما يحدث الآن لا يقتصر على تحسين أدواتنا أو تسريع أعمالنا، بل هو تغيير جذري في الطريقة التي نفكر بها ونبدع ونتعلم ونعيش، شبيهٌ بما شهده عصر النهضة في أوروبا حين أعاد تشكيل الفلسفة والعلم والفن. من هذا المنطلق، يبدو أن الذكاء الاصطناعي لا يفتح باب المستقبل فحسب، بل يعيد كتابة معناه، ويدفعنا للتأمل، هل نعيش الآن بدايات عصر نهضة رقمي يعيد تعريف الحضارة الإنسانية؟
في الوقت الذي اعتدنا فيه وصف الابتكارات التقنية الكبرى بأنها مجرد ثورات تكنولوجية تغير أنماط حياتنا، يبرز طرح آخر أكثر عمقًا، ماذا لو كان انتشار الذكاء الاصطناعي الحالي أشبه بنهضة حضارية جديدة؟ لقد بدأت بعض التحليلات تشير إلى أننا لا نشهد مجرد انقلاب تقني عابر، بل ولادة عصر نهضة حديث يعيد تشكيل أسس الفكر والعلم والفن كما فعل عصر النهضة الأوروبي قبل قرون . هذا التصور يدعو للنظر إلى الذكاء الاصطناعي بمنظور مختلف، يتجاوز كونه مجموعة أدوات متقدمة، ليصبح قوة محركة لتجديد حضاري شامل.
إن مفهوم الثورة التكنولوجية يشير عادةً إلى طفرة تقنية سريعة تُحدِث تغييرًا جذريًا في أسلوب الحياة والعمل. ومن أمثلة ذلك الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر أو الثورة الرقمية في أواخر القرن العشرين، حيث قادت الآلات والبترول ثم الحواسيب والإنترنت إلى تحولات اقتصادية واجتماعية كبرى. لكن هذه التحولات ، على أهميتها ، غالبًا ما تظل محصورة في نطاق التطوير التقني ورفع الكفاءة والإنتاجية. أما النهضة الحضارية فتعني شيئًا أوسع وأشمل، إنها تغيير في نظرة الإنسان للعالم ونمط تفكيره وقيمه، يصحبه ازدهار في المعارف والفنون والآداب. ولعل أشهر مثال هو عصر النهضة الأوروبي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حين شهدت أوروبا نهضة في الفنون والعلوم ازدهر معها الفكر الإنساني من جديد مرتكزًا على قدرات الإنسان وإمكاناته، مما أدى إلى ظهور نظريات وعلوم جديدة . في تلك الفترة تحررت الفلسفة والعلوم من قيود القرون الوسطى، وازدهر الفن والعمارة بروح ابتكارية وضعت الإنسان (بدلًا من العقيدة الجامدة) في مركز الاهتمام. هكذا يمكننا أن نرى الفارق، الثورة التقنية تغيّر وسائل الحياة، أما النهضة فتصوغ معنى الحياة والحضارة من جديد.
الذكاء الاصطناعي اليوم يتجاوز كونه ثورة تقنية ليقترب من ملامح النهضة. فهو لا يكتفي بتقديم أدوات أسرع وأذكى فحسب، بل بات يؤثر في منهجيات التفكير والإبداع وصناعة القرار في مختلف الميادين. فعلى سبيل المثال، في مجال الطب لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أجهزة حديثة للفحص أو التشخيص، بل أصبح عنصرًا يغيّر أسلوب الرعاية الصحية من جذوره. خوارزميات التعلم العميق الآن قادرة على تحليل صور الأشعة والتعرف على الأورام في مراحل مبكرة بدقة تفوق الأطباء أحيانًا، كما تساعد في تصميم أدوية جديدة من خلال تحليل تركيبة البروتينات (كما فعل نظام AlphaFold في حل شفرة تركيب البروتينات). يشير خبراء المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن إدماج الذكاء الاصطناعي في الصحة يتجاوز مجرد تبنّي أدوات جديدة، بل يستلزم إعادة التفكير في أسس تقديم الخدمات الصحية وكيفية الوصول إليها . وهذا يعني أن الطب نفسه قد يدخل مرحلة نهضة يعاد فيها تعريف علاقة الطبيب بالتقنية ودور المستشفى في المجتمع، بهدف تحسين جودة حياة الإنسان بأبعادها كافة وليس مجرد تسريع خدمة صحية ما.
ولا يقتصر الأمر على العلوم الطبيعية، إذ يشهد قطاع التعليم بدوره تحولًا جذريًا تحت تأثير الذكاء الاصطناعي. فبعدما كانت التقنيات الرقمية تُستخدم لتحسين وسائل العرض والتواصل، جاء الذكاء الاصطناعي ليعيد صياغة عملية التعلم نفسها. لدينا اليوم أنظمة تعليمية ذكية قادرة على تقديم دروس خاصة مصممة وفق احتياجات كل طالب، لتصبح تجربة التعلم شخصية بأقصى درجة. وتشير تقارير دولية إلى أن ثورة الذكاء الاصطناعي تُحدِث تحولًا غير مسبوق في التعليم من خلال إتاحة فرص مبتكرة لتخصيص تجربة التعلم، ودعم المعلمين والطلاب في مهامهم اليومية، وتحسين إدارة العملية التعليمية . تخيّل فصلًا دراسيًا يُحلّل فيه النظام الذكي أداء الطالب بشكل مستمر، فيعرف مواطن ضعفه وقوته، ويعدل المنهاج ليتلاءم مع وتيرته الخاصة. هذا التخصيص التعليمي أشبه بما حصل من انتقال في عصر النهضة من التعليم المدرسي التقليدي إلى الاهتمام بالفرد وقدراته الخاصة في عصر الإنسانيات. كما أن المعلم نفسه سيغدو مرشدًا وموجهًا بمساعدة المساعدين الرقميين (كأن يكون هناك مدرّس افتراضي يجيب عن أسئلة الطلبة الروتينية ويمنح المعلم وقتًا أكبر للإبداع والتفكير النقدي مع طلابه). بهذا المعنى، الذكاء الاصطناعي يغير فلسفة التعليم من تلقين جماعي إلى حوار فردي تفاعلي، مما يؤسس لجيل أكثر قدرة على التفكير والإبداع.
أما في ميادين الفن والثقافة، فنحن أمام مشهد غير مسبوق، لوحات فنية مرسومة بالكامل بأنظمة ذكاء اصطناعي، مقطوعات موسيقية وأشعار تُنتَج بمساعدة خوارزميات تتعلم الأنماط الإبداعية البشرية. قد يُثار التساؤل هنا، هل يعني ذلك أن الآلة ستق*ت*ل روح الإبداع البشري؟.
التجربة تشير إلى عكس ذلك ،فالذكاء الاصطناعي أصبح أداة جديدة بيد الفنانين تعزز من قدراتهم وتفتح آفاقًا لم تكن ممكنة من قبل. فهو قادر على القيام بالمهام الروتينية في الإنتاج الفني (كمعالجة الصور أو اقتراح التناغمات الموسيقية) مما يفسح المجال أمام المبدع للتفرغ أكثر للجانب الجوهري الإبداعي. وكما قال أحد الكتّاب مؤخرًا، إن بزوغ عصر الذكاء الاصطناعي يمثل ثورة في كافة الأنشطة البشرية. وفي مجال الفنون تحديدًا، لا يُعتبر بديلًا للإبداع البشري بقدر ما هو حافز ومحفّز له . بالفعل، رأينا فنانين ومعماريين يستخدمون الخوارزميات لتوليد تصميمات جديدة في الهندسة والعمارة لم يكن العقل البشري ليتوصل إليها منفردًا بالسهولة ذاتها، وهذا يذكّرنا بكيفية تبني فناني عصر النهضة آنذاك لتقنيات كالمنظور والرياضيات لإبداع أشكال فنية ومعمارية غير مسبوقة. اليوم، يطرح الذكاء الاصطناعي تحديات فلسفية حول ماهية الفن وملكية العمل الإبداعي، فعندما ترسم الآلة لوحة، من هو الفنان الحقيقي؟ هذه النقاشات بحد ذاتها علامة نهضة فكرية في حقل الفن، لأنها تدفع المجتمع لإعادة تعريف مفاهيم الإبداع والجمال في عصر التقنية.
وبالتوازي مع كل ما سبق، لا يمكن إغفال التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يحملها الذكاء الاصطناعي. نحن لا نتحدث هنا عن مجرد زيادة في سرعة الإنتاج أو تحسين كفاءة الخدمات، بل عن إعادة تشكيل لبنية الاقتصاد العالمي وسوق العمل بطريقة ربما تغير شكل المجتمع ذاته. تشير التقديرات إلى أن اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع قد يرفع الناتج الإجمالي العالمي بنسبة كبيرة، فقد ذكر تقرير حديث أن الناتج العالمي قد يزيد 14% بحلول 2030 بفضل الذكاء الاصطناعي ، ما يعادل حوالي 15.7 تريليون دولار (رقم يفوق الاقتصادَين الصيني والهندي حاليًا مجتمعين) . هذا النمو الهائل لا يأتي فقط من مصانع أكثر كفاءة، بل من قطاعات جديدة تمامًا بدأت تظهر بفضل الذكاء الاصطناعي، ومن نماذج عمل مبتكرة تعتمد الأتمتة الذكية والتحليل الفوري للبيانات على نطاق غير مسبوق. على سبيل المثال، باتت خوارزميات التداول المالي تدير محافظ الاستثمار بسرعة وذكاء يعيدان تشكيل أسواق المال، وأصبحت الشركات الناشئة تطور خدمات لم تكن ممكنة سابقًا (كالمركبات ذاتية القيادة أو المساعدات الافتراضية في خدمة العملاء)، مما يخلق أسواقًا ووظائف جديدة. بالطبع، يرافق هذا التحول قلق مشروع حول مصير الوظائف التقليدية التي قد تستغني عنها الأتمتة، لكن دروس التاريخ (من عصر النهضة والثورة الصناعية) تخبرنا أن كل موجة تغيير تخلق فرصًا بقدر ما تلغي أخرى. ومن هنا تبرز أهمية إعداد القوى العاملة بمهارات العصر الجديد (كالفكر النقدي والإبداع والتعامل مع الآلات الذكية) ليكون الانتقال نهضة شاملة للاقتصاد والمجتمع، لا صدمةً تكنولوجية فحسب.
في ضوء هذه التحولات المتزامنة في الطب والتعليم والفنون والاقتصاد ، ناهيك عن التأثيرات في مجالات أخرى كالإعلام والاتصالات والقانون وغيرها ، يبدو واضحًا أن الذكاء الاصطناعي لا يسير بنا على خطى ثورة تكنولوجية تقليدية فحسب، بل يضعنا أمام ملامح نهضة حضارية جديدة. إنها حقبة تعيد رسم ملامح الفكر الإنساني، فنحن نواجه أسئلة فلسفية وأخلاقية حول علاقة الإنسان بالآلة، وحدود وعي الآلة، ومعنى العمل حين تقوم به روبوتات، تمامًا كما طرحت النهضة الأوروبية أسئلة جريئة حول مكانة الإنسان في الكون وعلاقته بالمعرفة والسلطة. وكما حررت مطبوعات جوتنبرج المعرفة من حكر النخبة في القرن الخامس عشر، يقوم الذكاء الاصطناعي اليوم بتحرير المعلومات والتحليلات من قيود الخبرة التخصصية لتصبح في متناول الأفراد العاديين. وكما وحّدت النهضة الإنسانية أوروبا حول قيم معرفية وفنية جديدة، يوحّد الذكاء الاصطناعي العالم حول تقنيات ولغات رقمية مشتركة تتخطى الحدود الجغرافية. ولعل أحد الخبراء وصف الأمر بقوله إن ما نشهده يبين حجم التغيير الجذري الذي يُتوقع أن يحدثه الذكاء الاصطناعي ، فهو سيغيّر حياتنا كأفراد ومؤسسات ومجتمع .
قد يكون من السابق لأوانه الجزم بطبيعة هذه الحقبة بشكل قاطع ، فالتاريخ يحتاج إلى مسافة زمنية للحكم ، لكن المؤشرات الحالية تدعم الرأي القائل بأننا أمام تحول يفوق مجرد ثورة تكنولوجية. فإذا أحسنّا تسخير الذكاء الاصطناعي ضمن إطار قيم إنسانية شاملة، فقد نكتب فصلًا جديدًا من النهضة البشرية، نهضة تمتزج فيها التقنية مع الإبداع والفكر لإطلاق إمكانات غير مسبوقة ترتقي بحضارتنا إلى مستوى جديد. إن التعبير عن الذكاء الاصطناعي كنهضة جديدة ليس مجرد تشبيه بلاغي، بل رؤية تستشرف مستقبلًا يُبعث فيه روح الإبداع والمعرفة في أوصال المجتمع بأسلوب يجعل التقنيات الذكية شريكًا في الإنجاز الحضاري، لا مجرد محرك خلف الكواليس. وكما نتأمل اليوم بإعجاب إرث عصر النهضة الأوروبي، قد يأتي يوم يتأمل فيه أحفادنا مطلع القرن الحادي والعشرين كعصر نهضة رقمية غيّرت وجه الإنسانية إلى الأبد.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!