مقالات

الإحصاء الإيجابي وعلم النفس الإيجابي: تكامل في خدمة الرفاهية

شهد مطلع القرن الحادي والعشرين تحولًا لافتًا في العلوم الإنسانية والاجتماعية، تمثّل في صعود علم النفس الإيجابي كاتجاه جديد يركّز على دراسة الجوانب المشرقة في النفس البشرية مثل السعادة، الرضا، التفاؤل، والقدرة على التكيف. هذا الاتجاه لم يكن مجرد ردة فعل على الطابع العلاجي التقليدي لعلم النفس، بل دعوة علمية لفهم ما يجعل الحياة تستحق أن تُعاش.وفي سياق هذا التحول، بدأ يظهر مفهوم جديد وموازٍ في ميدان تحليل البيانات، هو الإحصاء الإيجابي، الذي اقترحه وطور مبادئه الباحث والاحصائي العراقي أحمد جمال الجسار. يعكس هذا المفهوم توجهًا مشابهًا لما جاء به علم النفس الإيجابي، لكنه يعتمد على لغة الأرقام والنماذج الكمية لرصد ومتابعة مظاهر التقدم الإنساني والتحفيز الداخلي، في مجالات متعددة كالتعليم والعمل والتنمية الذاتية.

الأسس المشتركة بين المفهومين

ينطلق كل من علم النفس الإيجابي والإحصاء الإيجابي من رؤية إنسانية تعتبر أن التقدم والرفاهية لا يقاسان فقط من خلال غياب المعاناة أو النقص، بل من خلال تحقق الإمكانات وتفعيل الطاقات الإيجابية.

  • علم النفس الإيجابي، كما صاغه مارتن سيليغمان، يركز على مفاهيم مثل: السعادة، التقدير، المعنى، الإنجاز، والعلاقات الإيجابية.
  • الإحصاء الإيجابي يستلهم هذه المبادئ من خلال تحويلها إلى مؤشرات قابلة للقياس والتحليل، مثل: معدل الرضا، نسب النمو الشخصي، مؤشرات التحفيز، ومستويات الانخراط الإيجابي.

كلا الاتجاهين يسعى إلى تمكين الإنسان وتحفيزه بدلًا من الاكتفاء بتشخيص أوجه القصور فقط.

دور الإحصاء الإيجابي في دعم علم النفس الإيجابي

فيما يختص علم النفس الإيجابي غالبًا بالتحليل النوعي أو التجريبي، فإن الإحصاء الإيجابي يزوده بأدوات كمية تسهّل تقييم أثر التدخلات النفسية، أو تتبع تحسن المؤشرات الإيجابية عبر الزمن. من خلال هذا التكامل:

  • يصبح الرضا النفسي قابلًا للقياس عبر استبيانات مصممة ومقنّنة.
  • يمكن تحليل اتجاهات التحفيز لدى الأفراد أو الفرق باستخدام معدلات الانخراط في المهام، أو تغيّر مؤشرات الأداء الشخصي.
  • تُمكننا أدوات الإحصاء الإيجابي من مقارنة التغيرات الإيجابية التي تطرأ على الأفراد بعد تطبيق برامج تدريب نفسي أو دعم معنوي.

بهذا المعنى، يعمل الإحصاء الإيجابي كـ”لوحة قيادة Dashboard” تمكّن علماء النفس والمربين والمدراء من رؤية التقدم بوضوح، واتخاذ قرارات مستندة إلى بيانات واقعية محفزة.

أمثلة تطبيقية

1. الرضا الوظيفي وبيئة العمل

في بيئات العمل، غالبًا ما يتم التركيز على نسب الغياب أو الأداء الضعيف. أما باستخدام أدوات الإحصاء الإيجابي، يمكن تتبع:

  • مستويات الرضا العام للموظفين من خلال استبيانات دورية تُقاس على مدى زمني.
  • معدل النمو في الأداء الفردي بدلًا من الاقتصار على المقارنة مع معدلات مثالية.
  • مؤشرات التحفيز الداخلي مثل عدد المبادرات التطوعية، أو حجم التفاعل في الاجتماعات.

2. برامج الدعم النفسي المدرسي

في المدارس، بدلاً من الاكتفاء بتقييم الطلاب على أساس الدرجات، يمكن قياس:

  • مدى تحسن الطلاب في الثقة بالنفس بعد تطبيق برامج دعم نفسي.
  • نسب مشاركة الطلاب في الأنشطة اللامنهجية كمؤشر على الرفاهية النفسية والاجتماعية.
  • معدلات التحسن في مهارات التواصل الإيجابي بين الطلاب.

3. الصحة النفسية المجتمعية

في برامج الصحة العامة، يمكن استخدام الإحصاء الإيجابي لتتبع:

  • مستوى الشعور بالرضا عن الحياة في مناطق معينة.
  • تحسن الشعور بالأمان والاندماج الاجتماعي بعد مبادرات مجتمعية.

ختاماً: يجسد التكامل بين علم النفس الإيجابي والإحصاء الإيجابي تحولًا عميقًا في طريقة النظر إلى الإنسان ومجتمعه. فبدلاً من الاقتصار على تشخيص المعاناة أو قياس القصور، يدعونا هذا التكامل إلى فهم كيف نكبر ونزدهر وننجح. من خلال أدوات الإحصاء الإيجابي، يصبح بإمكان المتخصصين في علم النفس، والتعليم، والإدارة، تتبع مظاهر التحسن النفسي والاجتماعي والوظيفي بلغة الأرقام، مما يعزز قدرتهم على التخطيط والتطوير المستمر بناء على رؤية إيجابية متوازنة وشاملة.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!