الحوار الهاديء

نظرية الفرد والمجتمع والبطريرك مار ساكو رد على مقال” انطوان الصنا”

د. عبدالله مرقس رابي      

 

 

نظرية الفرد والمجتمع والبطريرك مار ساكو

رد على مقال” انطوان الصنا”

 

                في مقالته المختصرة المعنونة” موقف انفرادي غير مسؤل من الكاردينال مار ساكو والكنيسة الكلدانية ”  طرح الكاتب المهتم بمتابعة شؤن شعبنا وأحداث الوطن الام رأيه عن مبادرة الكنيسة الكلدانية بتوجيه من غبطة الكاردينال البطريرك مار لويس ساكو لاقامة الصلوات من أجل ضحايا العبارة الغارقة في نهر دجلة في مدينة الموصل وثم المشاركة في تقديم مساعدة مالية لذوي الضحايا. وقد أعتبر الكاتب أن ما سلكه البطريرك يعد عملاً انفرادياً ولم يحسب حساباً لمشاركة الكنائس الاخرى في العراق في هذه المبادرة الانسانية ،وكأنما لا وجود لهم ،مما ينعكس ذلك في موقف الحكومة تجاه تلك الكنائس سلبياً. مستطرداً في تحميل المسؤلية الكاملة لغبطته في تشتيت كنائسنا وأبناء شعبنا سياسياً ،”بالطبع فهو يقصد أبناء شعبنا من الاثنيات الثلاث الكلدان والاشوريين والسريان” لعدم السعي نحو توجيه الطاقات الى العمل الجماعي لتوحي للاخر المختلف أو الحكومة العراقية ان موقفهم موحد أزاء كل ما يحدث في البلاد.

هذا هو مغزى الذي اراد أن يوصله الكاتب للقارىء في مقالته .

أرى مع تقديري للاستاذ العزيز انطوان الصنا أنه تسرع في تفسيره للظاهرة قبل أستقراء مجمل المتغيرات التي تؤل تفسيره هذا ليكون منطقياً ،مع ذلك فهو كفرد حر في طرح أفكاره وارائه وفقاً لاسس حرية الفكر والرأي، ووفقاً لهذا السياق أيضاً، ارى شخصيا أن الموقف وتوجيه غبطة البطريرك مار ساكو لم يكن أنفرادي ولا يستوجب في مبادرته هذه تحميله مسؤلية نبذ العمل الجماعي وتهميش الكنائس الاخرى وتشتيت أبناء شعبنا ،منطلقاً من مفاهيم ومعطيات نظرية “العلاقة بين الفرد والمجتمع” كما أعتدت عليه في الاستناد على التنظير لمن سبقني في توظيف افكاري لتفسير الظواهر .

نظرية الفرد والمجتمع من النظريات المهمة التي يتبناه كل من علمي النفس والاجتماع منذ نشاتهما، وقد جاءت معطياتها نتيجة الجهود التي بذلها علماء الاجتماع للتوفيق بين نظرية الفرد المطلقة في تاثيره في المجتمع وحياته الشخصية وتلك التي أكدت على التأثير المطلق للبيئة الاجتماعية على الفرد وتصرفاته .بعد اجراء دراسات ميدانية  تبين وجود توازن في التأثير المتبادل بين الاثنين في مجريات الحياة المختلفة. فلا يمكن اهمال ما يحمله الفرد من قابليات وطاقات ذاتية غريزية طبيعية يرثها بايولوجياً في توجيه سلوك الفرد وأفكاره للتأثير في الاخرين، وفي نفس الوقت لا يمكن أهمال البيئة الاجتماعية والمجتمع برمته في أمكانية تأثيره على الفرد في صقل تلك المواهب والقدرات الغريزية ويوجهها أيجابا نحو تحقيق المصلحة العامة أو سلباً للتأثير على مجريات الحياة وعلى الفرد نفسه. أي بعبارة أخرى هناك توازن في التأثير المتبادل لتكون الحصيلة الناتجة هي من الاثنين وليس من طرف واحد.هذا هو مفهوم النظرية ,والان كيف يتم توظيفها بموضوع المقال.

المهارات والمواهب الذاتية التي يتمتع بها الفرد تجعله أكثر قبولا لدى افراد المجتمع مقارنة ممن لا يتمتعون بتلك الميزات الشخصية. ولما كان هناك قبول للفرد بهكذا قدرات ،عليه سيكون الفرد مسؤلاً عن نفسه وعن المجتمع الذي ينتمي أليه وتزداد هذه المسؤلية أهمية عندما يتقلد دوراً كبيراً ومتقدماً كالبطريرك على رأس كنيسة كبيرة في المجتمع مثل البطريرك مار ساكو. وهذه المسؤلية لكي تتحقق لابد أن تتوفر البيئة الاجتماعية . هنا لابد التساؤل هل تتوفر هذه البيئة للبطريرك مار ساكو لكي يبادر ويعمل ولم تتوفر للمسؤلين الروحانيين الاخرين؟ أن البيئة التي يعيش فيها مار ساكو هي ذاتها تلك البيئة التي يعيشها البطاركة الاخرين من ظروف اجتماعية وديمغرافية وسياسية واقتصادية وأمنية وغيرها .وما يتعرض اليه في تطبيقاته المسؤلية يتعرض اليه الاخرون. ولكن يا ترى ما الذي ينقصهم الاخرون مع تقديري واحترامي لذواتهم وفقاً لنظريتنا هذه لكي يتلكؤا من ممارسة مسؤلياتهم ؟ أنها القدرة والطاقة والموهبة التي تشدهم للعمل في نفس الظروف الحالية التي يعمل مار ساكو خلالها. الذي يتميز به البطريرك ساكو هو الانفعال التلقائي الذي يعكس الاهتمام بالجماعة التي ينتمي اليها،مع الفهم ،أي الادراك الواعي للأدوار والمشاركة التي تعكس التفاعل الايجابي مع الافراد مقرونة بما يؤديه من واجبات المسؤلية. اذن الظروف هي نفسها لجميع قادتنا الروحانيين ،ولكن الاختلاف هو الذات وما تتميز به .

لكي يتحقق النظام والاستقرار لابد أن تُحبط عملية التجاوز فردياً أو جماعياً على الاخرين، لحد الان كنائسنا مستقلة في اتخاذ ما يلزم خارج أطار المفهوم المسيحاني ،أي كبادرة مثل التي نحن بصددها أو غيرها من المواقف تجاه المجتمع العراقي أو الحكومة. وعليه أن كل كنيسة بطريركية هي مسؤلة عن مواقفها ومبادراتها وتصرف رعاتها الروحانيين ولا يمكن ان يحمل بعضهم البعض تبعات مسؤلياتهم وأعمالهم لعدم وجود دستور يجمع أعمالهم وتطلعاتهم ،لا اعني دستور اتحاد عقائدي وما شابه ذلك محسوم سلفاً لايمكن الاتفاق لصعوبة تحقيقه ،انما دستور يوجه الكنائس العراقية للعمل الجماعي الذي تُحمل مسؤلية فقدانه البطريرك مار ساكو خطاً. لماذا خطأً ؟ لوجود هيئة أو مجلس للطوائف المسيحية قائم حالياً وله دستور ينظم العمل لاعضائه ،أ ليس كذلك أخي انطوان؟ طيب هل يحبط البطريرك ساكو أو يعيق عمل هذا المجلس وكيف؟ لم نر أو نسمع يوماً ما أن غبطته بادر لاعاقة عمل المجلس، ولا تظن أن عدم انتماء الكنيسة الكلدانية للمجلس المذكور هي عملية الاحباط أو المنع، بكل بساطة الكنيسة الكلدانية لا تتدخل بشؤن المجلس ولا تعيق عمله، الا انها غير مقتنعة بالنظام الداخلي وتسمية المجلس ،وعليه لم تنضم أليه. وانطلاقاً من مبدأ حرية الفكر والرأي التي تستندها لطرح الافكار وتوجيه المواقف والمشاركات من عدمها، أيضا البطريرك ساكو لم يرض الانضمام الى مجلس غير مؤهل منطقياً للعمل الجماعي في ظل دستوره أو نظامه الداخلي الحالي .وهذا الموضوع سبق وان تطرقنا اليه في مناسبات اخرى ، لا حاجة للتكرار وتبيان الاسباب.

هنا من حق البطريرك مار ساكو والكنيسة الكلدانية المبادرة بتصرف انفرادي طالما لا تنسجم تطلعاتها مع المجلس المذكور ومنطلقةً من المسؤلية الملقاة على الكنيسة وممارسة البطريرك لواجبه الانساني تجاه الاخر. ومن جهة أخرى لا يحق للبطريرك أو الكنيسة الكلدانية أن تتحدث أو تمارس عملا بديلا عن الكنائس الاخرى. المجلس قائم فعليه بمبادرة جماعية  لاتخاذ هكذا مواقف أنسانية ،لو بادر المجلس هل سيمتعض البطريرك ساكو مما يقدم عليه ؟ لا أظن ،بل بالعكس سيثمن تلك المبادرة ويشجعها .ولكن نرجع ونقول القدرات الذاتية مفقودة لدى مسؤلي المجلس أو عند مسؤلي الكنائس خارج اطار المجلس ،وهذا واضحُ. ولنكن صريحين أكثر من سمع يوماً مبادرة وبأي مستوى من غبطة البطريرك مار أدي مثلا؟ أو غبطة البطريرك مار كوركيس ،أو من المسؤل الروحي للكنيسة الارمنية في العراق؟ الا اذا كان هناك مبادرات غير معلنة ،وهم يتحملون مسؤلية عدم معرفتنا بها ،لان يومنا هذا هو يوم الاعلام المؤثر ،يوم طرح الممارسات اعلامياً لكي نتعرف على ما تقدمه كل مؤسسة. لا أظن أن الكنيسة الكلدانية هي أكثر ثراءً من غيرها  وأكثر أمناً ،فالكل يمرون بنفس الظروف . ولا نحمل هكذا موقف كل من البطريركين للكنيسة السريانية لان مراكز بطريركيتهم هي خارج العراق. كنت أول من بادر الى كتابة مقال أدعو فيه نقل البطريركية للكنيسة الاشورية من شيكاغو في المنفى الى البلد الام ،وكان احد اسباب الدعوة هو لهكذا مواقف ،مواقف العمل المباشر مع المجتمع منطلقاً من ارض المؤمنين لا من الغربة.

أن التجاذب الذي يحصل على المستوى الفردي أو الجماعي أو المؤسساتي المتنوعة تجاه شخصية البطريرك مار ساكو هي انعكاس لما يتمتع به من قدرات ومواهب ذاتية  تعكس على رؤية الاخرين له من منظور أيجابي وهذا ما يدفعهم للتفاعل معه ،سواء أن يتحقق شيئاً من هذا التفاعل أم لا ، الا انه بكل المقاييس العلمية تفسر لنا ان غبطته يتمتع بشخصية كارزماتية مؤثرة.وهي مفقودة لدى غيره من الرعاة الروحانيين مع تقديري لهم.

اذن لايمكن ان تُحمل مار ساكو المسؤلية لمجرد التفسير الاحادي بأنه مولع بحب الظهور .أنما علينا أخي انطوان العزيز أن نستقرأ العوامل المتعددة التي تجعل من غبطته أن يتصرف انفرادياً كما بينت اعلاه.ارجو ان نعي جميعاً أن أي تفسير لسلوك الانسان الاجتماعي أو الظاهرة الاجتماعية في ضوء عامل أو متغير واحد خطأُعلمي.لان الظاهرة الاجتماعية هي غير الظاهرة الطبيعية التي يمكن ان نعزو وجودها لعامل واحد أو أكثر،بيد أن عوامل متعدد هي المسؤلة عن صيرورة السلوك الاجتماعي او الظاهرة الاجتماعية.

ارى أنه خطأ من يتصور في عصر الاعلام اليوم ،عصر الثورة المعلوماتية ،عصر سرعة نقل المعلومة لاي مكان على كوكبنا ،سرعة التنقل،أن الشخص يبحث عن مزايدات أعلامية وحب الظهور وماشابه، أنه عصر كشف كل الملفات والممارسات التي يقوم بها الفرد أو المؤسسة طالما تكنولوجيا الاتصال سهلت العملية، لسنا في عصر حفظ الملفات في شعبة الذاتية على الرفوف . هذه هي من المميزات الايجابية للاعلام بمختلف وسائله لتحفيز الفرد أو المؤسسة للانتاج والعمل. أنه العصر الذي أصبح الاعلام فيه في متناول الجميع ،الاطفال ،المراهقون ،الكتاب الهواة ،المفكرون ، القادة في المجتمعات بمختلف مستوياتهم وانواعهم ، في متناول جميع افراد الاسرة ، بدى اليوم سهلا ان تتعرف على ماذا طبخت فلانة وماذا سوقت فلانه اليوم في اي مكان من العالم، ممكن ان تتعرف بسرعة البرق من ولد ومن توفي اليوم، ممكن ان تتعرف الى مكان سفري لقضاء عطلتي ، لمشاركتي في فعالية معينة ،انه يوم الاعلام لكل شيء ومتيسر لكل فرد في المجتمع ،ولا يمكن قياس وجود الفرد في الاعلام هو حباً للظهور أو مزايدة اعلامية ،بل مطلب من متطلبات العصر .فلا يخلو يوما والبابا فرنسيس يظهر في الاعلام ،فهل هذا يعد حباً للظهور ياترى؟

وباختصار اخي انطوان المحترم،العمل الجماعي بين كنائسنا واحزاب شعبنا كما تفضلت به مستوجب وحالة ملحة وكلنا حريصون عليه ونتمناه مثلما انك حريص عليه وتؤكد عليه في كل مناسبة، والبطريرك مار ساكو والكنيسة الكلدانية حريصة عليه ومدت يدها لهذا الغرض وأكثر منه ولكن وفق متطلبات منطقية تؤهل العمل الجماعي ،انما علينا البحث في المقومات التي ممكن بناء هذا العمل الجماعي ،وان لا نعزو عدم قيامه واخفاقه الى شخص واحد أو عامل واحد كما فسرت .فكم مرة وحضرتك متابع جيد جدا، حاول المجلس الشعبي الكلداني الاشوري السرياني لم شمل أحزابنا ولكن دون جدوى ،وان تشكلت هنا وهناك تضامنات ،الا انها اصبحت حبراً على ورق ،لنبحث عن اسباب الاخفاق لتحقيق ذلك بالطريقة الاستقرائية العلمية لتكون مقومات اي عمل جماعي متينة وصامدة لخدمة شعبنا. فالبطريرك مار ساكو والكنيسة الكلدانية ينطلقان من الشعور بالمسؤلية وممارسة الواجب الانساني في اطار المؤسسة الكنسية الكلدانية دون التدخل بشؤن الاخرين دون امكاننا من لومها ،لو كانت منضمة مع مجلس الطوائف ووجود قواعد تنظيمة ينطلق منها المجلس وخالفت ذلك لقلنا الحق معك.وهنا ادعو المجلس المذكور التحرك والمبادرة للعمل الجماعي للكنائس المنضمة اليه ،والا أنه مبني على اسس هشة غير متينة ومنطقية.

واخيرا ارجو ان لا تتهمني في تحليلي هذا للموضوع كما اتهمت غيري بالمحاباة والمجاملات لغبطة البطريرك مار ساكو ،بل ارى ان المسالة لا تتطلب لهكذا تهويل وتضخيم للمسؤلية وبهذه الطريقة دون التعمق في بواطن الحدث أو الظاهرة.

تمنياتي لك بالتوفيق دائما وشكرا للقراء الاعزاء .

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!