نصّ خاصّ لقصة جرّة الزيت
حسيب شحادة
نصّ خاصّ لقصة جرّة الزيت
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها فياض بن يوسف/لطفي بن فياض لطيف الدنفي (زبولن بن يوسف بن زبولن الطيف الدنفي، ١٩٢٩- ٢٠١٨، من رؤساء الطائفة، مرنّم، معلّم للإنجليزية في مدارس نابلس، السكرتير الأوّل للجنة الطائفة في نابلس بعد ١٩٦٧) بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤ـ )، الذي بدوره ترجمها إلى العبرية، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٣٢-١٢٣٣، ١ آذار ٢٠١٧، ص. ٣١-٣٥. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري يعيشون في مائة وستين بيتًا بالتقريب، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّرين، الشقيقَين، الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”الأعاجيب تحدُث لمن يستحقّها
من لا يؤمن بالآيات والأعاجيب أو بالمعجزات، كما يسمّيها الكثيرون، فهو كمن يُعلن بأنّه لا يؤمن بالتوراة. كم من الأعاجيب والمعجزات حصلت لآبائنا، بني شعب إس*رائي*ل، بالرغم من أنّ الله تبارك تواجد/تواعد [أنظر حسيب شحادة، الترجمة العربية لتوراة السامريين، المجلد الأوّل: سفر التكوين وسفر الخروج. القدس: الأكاديمية الوطنية الإ*سر*ائي*لية للعلوم والآداب. ١٩٨٩، ص. ٢٣، ٢٥] غير مرّة لأنّه أخرجهم من أرض مصر، ووعدهم بالأرض التي أقسم لآبائهم؟ هذا ما قاله لموسى ”قل لبني اس*رائ*يل انتم شعب قاسي العرف“ [أنظر حسيب شحادة، ص. ٤١٠-٤١١]، ومع هذا صنع لهم أعاجيب وما هي إلّا من التجربة (يقول الراوي: في العبرية נסים من נסיון والصحيح أنّ أصل اللفظة الأولى هو נסס وأصل اللفظة الثانية נסה) وحقًّا قال لموسى ”اذ/ان ممتحن الله الهكم اياكم ليعلم/ليظهر هل كنتم محبّين لله …“ [ سفر التثنية ١٣: ٤، أنظر حسيب شحادة، الترجمة العربية لتوراة السامريين، المجلد الثاني: سفر اللاويين، سفر العدد وسفر تثنية الاشتراع. القدس: الأكاديمية الوطنية الإ*سر*ائي*لية للعلوم والآداب. ٢٠٠١، ص. ٤٨٦-٤٨٧]. بنفس القدْر من الأعاجيب التي نحظى بها علينا عدم الاتّكال عليها. قيل ”بعرق جبينك/وجهك تأكل خبزً/قوتًا/غدا“ [سفر التكوين ٣: ١٩، أنظر حسيب شحادة، المجلد الأوّل، ص. ١٤-١٥].
لا أحد منّا توقّف عن العمل راجيًا أن يفوز في كلّ الأحوال باليانصيب في آخر الأسبوع. ولكن ماذا، يقول الكثيرون إنّ العجائب حدثت لآبائنا فقط لأنّهم ربّما كانوا أكثر استحقاقًا، أمّا أنا فأقول: العجائب تحصُل اليوم أيضًا، ولكن اليوم يكون ذلك لمن يستحقّ. إنّي لا أقول ذلك جِزافًا، بل من تجربتي بها غير مرّة، إذ أنّ العجائب حصلت لأبي يوسف/لطفي رحمة الله عليه. أحيانًا تسمعون عن عجائبَ حدثت في أماكن شتّى في العالَم، وعندها تقولون في معظم الحالات، لا، هذا غير ممكن لا شكّ هناك مبالغة. لكن عدد الشهود على حدوث الأعجوبة كبير لدرجة أنّه لا
يُبقي حيزًا للشكّ.
عندما تحصُل معك الأعجوبة يزداد إيمانك بذلك. من الصعوبة بمكان مقارعة الحقائق. كلّ ما يبدو وكأنّه من عالم الأسطورة، ينقلب لواقع معاش أمام ناظريك. طوبى للمؤمن، كما يقولون دائمًا حين السماع عن أعجوبة ما. ما أقصُّه عليكم، آمنتم أم لا، قد حدث أمام عينيّ هاتين. لم أكن عندها ولدًا يُطلق العِنان لخياله الخصب، كنت فتى يعرف ما يراه ومن الصعب الاحتيال عليه، كما يقول شبابنا.
كان ذلك في بيت أبي في نابلس، في أيّام القلّة والعوز، أواخر ثلاثينات القرن العشرين، بداية الحرب الكونية الثانية، بُعيد قمع الإنجليز لثورة (في الأصل: تمرّد) الفلاحين العرب. شاع الجوع والفقر في بيوت كلّ السامريين من جرّاء البِطالة. بالكاد كنّا نحصُل على لقمة خبز واحدة في اليوم، وعن وجبات كاملة حلَمنا فقط. احتوت قائمة الطعام على القليل من الطحين والزيت والسكّر، وما عدا ذلك كان في الخيال، المهمّ البقاء بكلّ ثمن. دأب أبي على الخروج من البيت باكرًا للبحث عن لقمة عيش، لإعالة أفراد عائلته وأبناء شقيقه الصغار، كان عليه أن يُطعم أفواهًا كثيرة. القول ”ليس على الخبز وحده يحيا الانسان“ [سفر التثنية ٨: ٣؛ أنظر حسيب شحادة، المجلد الثاني، ص. ٤٥٦-٤٥٧] لم يُقنع بطنهم الخاوي النحيل. الأفواه تطالب بالخبز، والأب وفّر هذا النزر بشقّ الأنفس. كان الوضع صعبًا بشكل خاصّ، قبل العيدين الكبيرين الفسح والمظالّ، فالاستهلاك يزيد عن المعتاد في التواجد على جبل جريزيم ونصب العريشة. ما أقصّه عليك جرى في أيّام عادية.
جرّة الزيت الضخمة
الزيت كان أكثر الموادّ الاستهلاكية طلبًا، أيُمكن تحضير أية أكلة بدون الزيت؟ إلّا أن ّ ذلك كان من الكماليات بالنسبة لمن لا مال عنده. ذات يوم، فاجأ أبي أُمّي التي رأته يجُرّ إلى داخل البيت جرّة فَخّار ضخمة، ملأها زيتًا من بعض الجرار الصغيرة التي جلبها معه. أخبر أمّي أنّه حصل على الزيت في صفقة تبادل. لم تجرؤ أمّي على الاستفسار عمّا كان لديه لمقايضته بالزيت. كانت تعرف أنّه لو نوى إخبارَها لفعل. اتّكلت على فطنته وهزّت رأسها إلى الأسفل، عندما قال إنّه حصل على جرّة الفخار الضخمة بدون مقابل، بمثابة ربح إضافي على الصفقة التي أبرم.
هذا لم يهُمّ أمّي، المهمّ وجود الزيت في البيت، قالت. أضاف أبي إنّ الزيت مخصّص أيضًا لأبناء شقيقه عفيف رحمة الله عليه، جميل، رضوان (يفت، رتسون) ويوسف وينبغي عدم التقتير عليهم فهو يحبّهم كأبنائه. سألت أمّي فقط من سيُميل الجرّة الضخمة كلّما احتاجت زيتًا؟ ضحك أبي من سؤالها وناولها مِغرفة خشبية كبيرة أحضرها معه في مِعطفه. كلّما احتجتِ زيتًا اغرفي بهذه المغرفة قدر المطلوب، قال وانصرف لأعماله.
زيت زيتون جيّد
كان هذا الزيت جيّدًا، من أشجار الزيتون العتيقة/العمّاري، التي تزيّن سفوح جبل جريزيم ومحيطه. إنّه زيت زيتون قُطف بالشقاشيق، ساقط على شبكة مستديرة دقيقة تحت الشجرة. حبّات زيتون كبيرة شديدة الخضرة، جُمعت من على الشبكة، وُضعت في صناديقَ خشبية كبيرة، ونُقلت إلى المعصرة. من هناك نُقل الزيتون بسلال مطّاطية، كلّ منها ذات أُذنين وصُبّ في مكان الهرس الثقيل البطيء. رُكّب برغي ضخم بجُهد كبير بغية تحقيق عصر أكبر. حماران مغطاة أعينهما أدارا حجرَي الرحى والزيت الجيّد يُحفظ في الآنية، جرار فَخّارية صغيرة وتنقل إلى السوق المحلي في نابلس للبيع، ذي الشهرة في أرجاء فلسطين ومصر وسوريا. الزيت الأخضر والغامق لقطعة الخبز، اللبنة الخضراء والمكبوسة (زقاليط)؛ الزيت الأخضر الفاتح للطبخ، للقلي ولبّ الزيتون لانتاج الصابون النابلسي المعروف بجودته.
الزيت الذي أحضره أبي كان أخضرَ فاتحًا، ويمكن القول أنّه صافٍ كالنبيذ وصالح لكلّ أنواع المعجّنات والطبخ والقلي. كانت أُمّي تستيقظ باكرًا، في كلّ صباح تغطّس المغرفة البنية الكبيرة في الجرة الضخمة، تغرف زيتًا جيدًا وتسكبه في المقلاة أو في إناء آخر وفق ما كانت تنوي طبخه في ذلك اليوم.
قائمة منفردة بأكلة يومية
لُعاب الشرِهين من سامعي القصّة وقرّائها لن يسيل، لأنّه لم تكن عندنا آنذاك قائمة غنية بألوان الطعام، كما هي الحال اليوم، حتى قسّموها على كلّ يوم من أيّام الأسبوع. آونتَها، في تلك الأيّام الصعبة لم تكن أيّة مفاجآت خاصّة بخصوص قائمة الطعام. عرفنا أنّ ما تناولناه البارحة وقبل البارحة، سنتناوله غدًا وبعد غد أيضا. كما أسلفنا، لأبي، مثله مثل الكثيرين من أبناء الطائفة الصغيرة، لم يتوفّر المال الكافي لتحسين قائمة الطعام. هذا ما ٱعتادت عليه أمّي كلّ يوم، عادت وغطّست المِغرفة أكثر في الجرّة وأصعدت زيتًا يكفيها للطبخ والمعجّنات، كما أنّها لم تنس إرسال الزيت في زُبدية صغيرة من الخشب لأُسر أبناء عمّي عفيف.
مضى أسبوع، أسبوعان، ثلاثة أسابيع، شهر وأسبوع ومِغرفة الزيت تخرج مليئة دوما. أُمّي لم تهتمّ، طالما أنّ المِغرفة تخرج مليئةً بالزيت، في كلّ مرّة ترفعها من قعر الجرّة. أبي كان منشغلًا بشؤونه، همّه توفير لقمة عيش تكفي عائلته وأبناء شقيقه عفيف، حرمه من النوم أكثر من مرّة. الأيّام التي كان يعود فيها من السوق صِفرَ اليدين كانت أكثر من تلك التي حصل فيها على ما سدّ رمَق أهل بيته. في تلك الأيّام لم نجرؤ على رفع الصوت في البيت. أبي كان عابسًا متجّهمًا، بعبارة أخرى، غضِب على كلّ الدنيا. تفادينا إغضابه أكثر، إذ عندها كان يصبّ كلّ جام غضبه علينا. غضبه لم يدُم لأنّه سُرعان ما وجد أملًا في أنّ الغد سيكون يومًا جديدًا، والله تبارك وتعالى يؤمِّن له رزقه. في الأيّام الجيّدة، التي تمكّن فيها من توفير الطعام، كان مزاجه مرِحًا، كنّا نجلس قُبالتَه ونستمتع بسماع أحلى قِصص آبائنا.
إغاظة واستفزاز الأعجوبة
في أحد الأيّام الحلوة هذه من العام ١٩٤٢، بعد مرور شهرين بالتقريب على إحضار جرّة الزيت الضخمة، تذكّر أبي فجأةً بالجرّة، والدهشة ارتسمت على محيّاه. يا زوجتي، أمّ أولادي الطيّبين، فياض وشكري ورفقة (زبولن، موده ربقه)، كيف من الممكن أن يكون عندك زيت، لنا ولأبناء شقيقي والكميّة التي جلبتها لا تكفي لأكثرَ من أسبوع؟ علمي علمك (لا أعلم أنا أيضا) قالت أمّي، لكنّي كلّ صباح أملأ المِغرفة مرّاتٍ تكفينا جميعا، لم أنظر داخلَ الجرّة لأرى كم تبقّى من الزيت، قد تكون من بركة الله.
هذا غير جائز! قال أبي، وأخذ الارتياب يتفاقم من ثانية لأخرى. توجّه حالًا نحوَ الجرّة، نزع الغطاء ونظر حتّى القعر؛ الجرّة كانت جافّة كليًّا، لا قطرة زيت بقيت هناك. هذه أُجرة من يُغيط ويستفزّ الأعجوبة، تمتمت أمّي بجفاف ولم تضِف شيئًا“.