من بيروت إلى بغداد، كفى! إرحلوا يا ساسة المحاصصة
لويس إقليمس
من بيروت إلى بغداد، كفى! إرحلوا يا ساسة المحاصصة
بغداد، في 20 تشرين أول 2019
من بيروت إلى بغداد، تعانقت أصوات المحتجين مع نظرائهم في العراق ليقول الشعب صاحبُ السلطة الشرعية كلمته الفصل: كفى، كفى، كفى، إرحلوا يا ساسة المحاصصة! من بيروت إلى بغداد، تقاسم الشعبان مآسي سياسة المحاصصة التي فتكت بأحلامهم وأذلّت حياتهم وأنهكت قدراتهم وغيّبت كلّ أملٍ بإصلاح الذات والأوضاع. فما سمعه الشعب في كلا البلدين طيلة السنوات المنصرمة وما تلقاهُ في كلّ انتفاضة جديدة لا يعدو كونه جرعاتٍ من كافايين سام مخلوطٍ بمخ*د*راتٍ سياسية معسولة مجبولة بطعم دينيّ وطائفي ومذهبيّ لغاية تهدئة الخواطر وامتصاص النقمة وتخدير الثائرين بشيء من وعود عرقوبية لا تغني ولا تسمّن.
إذا الشعب يومًا أراد العيش بكرامة وحرية ورفاهة، لا بدّ أن يُجبر القَدَرَ نفسَه للتجاوب معه في كسر الأغلال وقهر الظلم ومحاسبة الجلاّدين من السياسيين الذين استغلّوا ومازالوا يستغلّون بمكرهم وسطوتهم ووسائلهم العنكبوتية الزائغة مواقعَ الضعف في بؤسه المتزايد في الفاقة والحاجة وفي تدبير وسيلة لقمة العيش التي شحّت وقلّت وغابت بركتُها. فكان الاستغلالُ السياسيّ باسم الدين والمذهب أقربَ طريقة لإبقاء هذا الشعب البائس ذليلاً محتاجًا خانعًا ينتظر الرحمة والشفقة والمنّة من ساسته الفاسدين الذين ائتمنهم خائبًا على حاله وثروات بلاده وشرف بناته ونسائه. فقد نجح زعماء الأحزاب الدينية الخلط بين أوراق السياسة والدين وتجييرها لصالحهم ولصالح أتباعهم وجماعاتهم وأذيالهم من المنتفعين والطارئين على العملية السياسية. وهكذا اختلط المقدّس بالمدنّس والسياسيّ بالدينيّ ليلقي بظلاله على العملية السياسية برمتها في كلا البلدين الجريحين. وهنا كانت المصيبة حين اكتشافه أسرارًا خافية ومصائب كبرى بسرقة أحلامه وأحلام أجياله التي لم تولد بعد لتبقى رهينة دول ومنظمات الاقتراض والديون إلى ما شاء القدر بإثقال ميزانياته في كلّ سنة بقروض وديون وعجز غير مبرّر، بالرغم من الثروات الكبيرة التي تدخل ميزانيته السنوية والتي تتجاوز ميزانية دولٍ عديدة مجاورة له. والمصيبة الأعظم، تبجّح ساسة الصدفة بتقليد مراجع دينية والتسربل بأكمام رجالات معمّمين يقودون القطيع إلى الذلةّ والمهانة بإصرار وعنادٍ واضحين وباستخفاف ما بعده استخفافٌ ولا يخلو من إهانة وإذلال واستغلال. فأين من الشعب المسكين شعارُه “هيهات منّا الذلة”؟
لكن، وبالرغم من أنّ الشعب قد وعى مؤخرًا بعض الشيء وفهمَ اللعبة وأدرك مدى الدور التخريبي والاستغلالي لأحزاب السلطة ومنهم بالذات أحزاب الإسلام السياسي، الشيعية منها والسنّية على السواء وأحزابٌ غيرُها متحالفة معها ولاسيّما الكردية من تلك التي عزّزت مكاسبها العرقية والإتنية والقومية على طول المسار عبر التمسك بمكاسبها المناطقية التي فرضت بها أجندتها الحزبية والعشائرية والإقطاعية على سياسة البلاد والحكومات المتعاقبة، إلاّ أنّ سمة الخضوع والطاعة لهؤلاء باسم الدّين والمذهب ماتزال هي الطاغية في التفكير والعمل واتخاذ المواقف حين تُفرض إرادة الدين والمذهب والطائفة. واشيء بالشيء يُذكر. فنحن لا ننكر ذات الدور الذي لعبه واستخدمه ساسةٌ وطارئون من أديان أخرى لتحقيق ذات الأهداف وذات النتائج الكارثية بحق شعوبهم التي ادّعوا التحدّث باسمها وتمثيلها زورًا وبهتانًا.
اليوم، في بيروت ثار اللبنانيون، وليست هذه أول ثورة شعبية لهم، تمامًا كما كانت ثورة العراقيين الكاسحة في الأيام الخوالي. وقطعيًا، هذه الجديدة لن تكون الأخيرة. فنحن نتوقع ثورة عارمة كاسحة في قوادم الأيام القليلة التي ينتظرها الجميع لتكون ساعة الصفر الحقيقية لقلع رؤوس الفساد وإنهاء هيمنة الأحزاب المنتفعة وكسر شوكة سياسة المحاصصة المقيتة التي نخرت جسم البلاد وأنهكت العباد وشوّهت قيمة الحضارة والثقافة والدين وأهانت رموز العراق من عهد سومر وبابل وآشور مرورًا بالحسين الثائر الذي يعيد العراقيون وأتباعُه من كل بقاع العالم ذكرى ثورته الإصلاحية على الظلم والطغيان والفساد في هذه الأيام المباركة. لقد صحا الشعب العراقي مؤخرًا، وأتباعُ المذهب الشيعي بالذات في جنوبه المنهك بالآهات المتراكمة ليتعانق مع السائرين والناشدين طريق الحرية الصادقة في بغداد العاصمة، ومنهم المثقفون والأكاديميون وأصحاب القلم الحرّ المستقلّ الصادق والمتطوعون من أجل الإصلاح كي يقولوا كلمتهم ويفرضوا إرادتهم بالحق الذي كفلته لهم الشرائع السماوية وإرادة الربُ الخالق والقوانين الوضعية وشرعة حقوق الإنسان التي قبلها وصادق عليها العراق، بالرغم من عدم التزامه ببنودها طيلة السنوات المنصرمة بكلّ أمانة. فكانت هذه الأخيرة أشبه بحبر على ورق في سجلاّت ساسته وحكوماتهم الخائبة والفاشلة المتعاقبة منذ بدء العهد الجديد للديمقراطية المفروضة من خلف الأسوار. وآخر دليل على هذه الانتهاكات خروج العراق من لجنة حقوق الإنسان الدولية وخسارته للعضوية فيها بسبب الانتهاكات الأخيرة التي رافقت الثورة الشعبية الأخيرة.
ما ضاع حق وراءه مطالب
لستُ هنا بصدد إثارة المشاعر لدى الثوار ومَن يتماهى ويتعاطف معهم في قادم الأيام مستغلاً سخونة الموقف وهشاشة الوضع والاستعداد الشعبي لأيّ شيء وكلّ شيء بعد أن تجاوزت قوات الأمن الحدودَ المقبولة في التعامل مع الشعب الثائر المطالِب بأبسط حقوقه الآدمية. وفي اعتقادي أن الاحتجاجات المتجددة القادمة ستشهد رفع سقف المطالب لتتجاوز الخدمات والعيش الكريم والحق بالعمل وكسب الرزق الحلال إلى مطالب سياسية تطالب بالاقتصاص من أحزاب السلطة ومحاسبة الفاسدين منهم ومن مافياتهم المتسلطة على رقاب الناس على مرأى ومسمع من أركان الدولة. فالقاعدة الجديدة التي ستتخذها مسيرة الاحتجاجات القادمة ستكون أكثر وعيًا وأشدّ صرامة وأرفع تحديًا وإجراءً عبر مطالبة زعماء الكتل والأحزاب الفاشلة بالتنحي عن الحياة السياسية والابتعاد عن السلطة وترك الحكم للكفاءات النخبوية في السياسة والقانون والاقتصاد والصناعة والزراعة والإسكان والخدمات وما سواها. كما أنّ الصحوة الجديدة التي برزت مؤخرًا والانتفاضة التي أخذت طابعًا وطنيًا صرفًا من نوع آخر وبعيدًا عن ركوب الأحزاب للموجة، تشير لضرورة بدء مرحلة أخرى أكثر إشراقًا للحكم المقبول في العراق بعد أن ضاق الشعبُ ذرعًا باللعب بمصيره وتدمير مستقبله ومستقبل أجياله ونهب ثروات بلاده التي هي من حقّه وليس من حقّ لصوص السلطة وأتباعهم ومَن يقف في صفوفهم من دول الجوار والمستفيدين من الوضع القائم أبد الدهر.
لقد قالها الشعب الثائر فيما مضى وأعادها في الانتفاضة الأخيرة بكلّ وضوح وجلاء وقوة عندما نطق أتباعُ المذهب الحاكم أنفسُهم في جنوب البلاد المتخلفة ورفعوا شعارات غاية في القوة والجرأة والصدق: “باسم الدين باقونا الحرامية”، و”إيران برّا برّا بغداد حرّة حرّة”. وهذا من الأدلة على إشارة إيجابية وحصول تطوّر مهمّ في التوجه العام لدى عامة الناس ممّن كانوا مغشوشين بأحزابهم الدينية. كما أنّ الصحوة الجديدة تشير إلى وعيٍ من نوع آخر بعد أن عرفوا دروب اللعبة وأحسنوا التعامل معها مهما كلّفت من دماء لأجل إحقاق الحق ونيل المطالب. ف”ما ضاع حق وراءه مطالب”. وهذا كفيلٌ بوقف حمامات الدم والأصوات النشاز التي مازالت تغنّي وتبجّل لأحزاب السلطة بسبب تأثير أصحاب العمائم ورجال الدين من دون تمييز ولا تخصيص وتدخلهم في حياة الناس وفي سياسة البلاد، فيما مكانُهم الطبيعي النصحُ وتقويم الخطى والسيرة والصلاة لرب العباد في المساجد والجوامع والمعابد والكنائس.
نقولُها اليوم وغدًا، معًا جميعًا في لبنان والعراق وفي كلّ مكان، وكما فعلها الشعب السوداني ونخبُه الوطنية، معًا نحو قطع الطريق أمام المسرحيات السياسية الخائبة التي ملّ منها الشعب وخرجَ عن طوعه بعد أن نفذ صبرُه وضاقت يدُه ومدّها لتجاورَ أكوام المقامة بحثًا عن رزق غائب لبعض فئاته المقهورة. معًا لتتعانق ثورة اللبنانيين والعراقيين ولتتجدّد الاحتجاجات حتى إسقاط رموز الفساد والمتلاعبين بقوت الشعب وسارقي المال العام والمستغلين لمواقعهم وأحزابهم بالسطو على عقارات الدولة وثروات البلاد الريعية منها والمكتسبة عبر المنافذ الحدودية والأجواء والضرائب التي لا يُعرف الكثير عن أسرارها ودهاليزها. معًا لنسرْ، ضدّ إقطاعيات المحاصصة ومافيات الفساد والدور التخريبي لميليشيات أحزاب السلطة الملتحفة بالدين أو تلك التي تدّعي تقليد مراجع دينية، أو المتسربلة باسم الدين والمذهب، تلك التي سطت على ممتلكات عامة ووضعت اليد على مساحات شاسعة بحجة الاستثمار والمحاصصة والمظلومية التي أرهقت ميزانية الدولة بمرتبات خيالية متعددة وامتيازات لا حصر لها ولا حدود.
فمَن يسكتُ دهرًا، ليس بالضرورة أن ينطق كفرًا. ولعلّ قول الإمام علي وهو يصرخُ بوجه الظلم والطغيان خير رادع وأفضلُ ردّ لمن لا يخشى مخافة الله في عباده: “حين سكت أهل الحق عن الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حق.” هذا ختام النصح!