الحوار الهاديء

ساسة العراق، كلام كثير وفعل هزيل

لويس إقليمس

لويس إقليمس     

 

 

ساسة العراق، كلام كثير وفعل هزيل

بغداد، في 27 تشرين ثاني 2019

قيل في وقت مضى، لا خير يرتجى من أية عملية إصلاح أو تغيير في النظام السياسي السائد والقائم على المحاصصة المهلكة منذ 2003 وليس فيه مكان للتكنوقراط والكفاءات العلمية والوطنية على حدّ سواء. قبيل الانتخابات البرلمانية قبل أكثر من عام، ظلّ الساسة وزعماء الأحزاب يلوكون بأحاديث وتصريحات وتعليقات عن مساوئ نظام المحاصصة وعن ضرورة تغيير هذا المسار القاتل الذي أدّى بالبلاد إلى شفير الهاوية ولم يتلقى الشعب سوى خيبة الآمال فيمن رفعهم واختارهم ليمثلوه في قبة البرلمان من أجل تحسين ظروفهم المعاشية وتقديم الخدمات الأساسية التي افتقروا إليها طيلة السنين العجاف منذ السقوط. ناهيك عن ذرف دموع التماسيح التي شهدناها واطلعنا عليها وهي تستغفر الله وتلتمس الصفح من الشعب المغلوب على أمره عمّا بدر من ساسة البلاد من تقصير في الإدارة والخدمات ومن هدر للمال العام ومن سرقات واغتيال حقوق وضعها الشعب المسكين أمانة في رقاب مَن اختارهم وأجلسهم في كراسي السلطات الأربع. وردَ شيءٌ من هذه الحركات المتلاعبة بعواطف الناس البسطاء مثلاً، على لسان زعيم كتلة سياسية متنفذة في مناسبة سابقة جمعت ساسة ورجال دين وشيوخ عشائر وشخصيات من مختلف الطبقات المجتمعية في البلاد. ومثله كثير، سمعناه من غيره في مناسبات غيرها. لكنّ بسطاء الشعب لم يرتفعوا أو بالأحرى لم تسعفهم الشجاعة الكافية للسموّ إلى عتبة الوعي والصحوة الوطنية والبلوغ بالقرار الفرديّ الصائب لتقرير مصيرهم في كلّ دورة انتخابية. فكانوا فريسة سهلة لساسة الصدفة والمتلاعبين بعقولهم التي اختُرقت غدرًا بتوجيهات من بعض زعماء الأحزاب الدينية واصحاب العمائم بحجة الدفاع عن الدّين أحيانًا والمذهب في أحيان أخرى والعشائرية والفئوية والقومية في غيرها لحين وقوعهم في مصيدة هذه الترّهات وبلوغ السيل الزبى مع مرور عام على الكابينة الوزارية الهزيلة التي تولاها عادل عبد المهدي مدفوعًا بالتوافق من أجل ضمان بقاء مكاسب مَن أولوه هذه المهمّة. وهذا ما آلت إليه الأمور مع تصاعد ثورة الشباب التشرينية التي نشهد اليوم شدّة صحوتها المتأخرة وهي في قمّة سخونتها ومطالبها.  

كلّ القلوب وكلّ العيون وكلّ الآذان كانت محلّقة ومتجهة نحو تصريحات السيد عبد المهدي النارية وبرنامجه الحكومي وطريقة اختياره لوزراء كابينته، وهو المغمور بتاريخه النضالي الأسري والشخصيّ. ولكن الذي حصل بالتوافق والتمرير والضغوط والفرض، نسف كلّ الآمال والأمنيات. فسقطَ الرجل في فخّ الأحزاب والكتل السياسية كسابقيه ومال ظهرَه لأمنيات الشعب وتغاضى عن مطالب الشارع الساخن الذي كان رأى فيه منقذًا وسطيًا لما يجري منذ سنوات من هتكٍ لمبادئ وحدة دولة العراق وضرب مصالحه الوطنية وإبقائه رهينة سطوة دولة جارة أحكمت قبضتها على مقاليد السلطة بتحكمها بانتقاء شخصيات للرئاسات الثلاث. وهذا ما صدر من تصريحات واضحة من نفر محسوبين على الجارة إيران ومن مسؤولين في السلطة في حكومة هذه الأخيرة. وهذا ليس فيه شائبة بل واضح وضوح الشمس، وكأنّ السيناريو الأميركي-الإيراني أراد إعادة التجربة المريرة لسنوات أربع لاحقات بالتوافق للوقوف على ردود فعل الشعب العراقي وإمكانية ترويضه لسنوات أخرى من أجل استمرار حلبه واستغلاله بهذه الطريقة وعبر ذات الشخوص والوجوه السياسية التي أبدت قبولها لمثل هذا السيناريو المشين الفاضح.

         من خلال تحليل أدق لهذا السيناريو، يرى البعض أنّ ما جرى حقًا ومازال يجري من مناكفات وسجالات سياسية سواء قبل الانتخابات أو بعدها، كان مرسومًا له من قبل العرّاب الأميركي. حتى التوجّه الوطني من جانب التيار المدني وأتباعه ومؤيديه وحضورهم في المظاهرات الأسبوعية في ساحة التحرير، بدا للبعض حينها، شكلاً من أشكال الخلاف المصطنع ومجرّد اختلاف في أداء الأدوار وتوزيعها بحسب مصلحة هذا أو ذاك أو هذه الجهة أو تلك. وكلّها تصبّ في مصلحة الإبقاء على شكل النظام القائم أي تكريس المحاصصة والتمسّك بها بكلّ الوسائل والأشكال. وهذا ما صرّح به زعماء كتل وأحزاب في مناسبة وفي غيرها. والسبب واضح، فأيّة ثغرة في جدار هذا المبدأ المدمّر ستقلب الطاولة على رؤوس الفساد وتعرّي زعماء المافيات وتعرّضهم وأتباعهم ومؤيديهم للمحاسبة من قبل الشعب ومن أية حكومة ذات نهج وطني تمسك زمام الحكم بعدهم.  

اليوم، بات الجميع مقتنعين أنّ إصلاح الدولة برمتها، يبدأ بإصلاح النظام السياسيّ أولا، اي نقل البلاد من حكومة محاصصة ومشاركة في المناصب والوظائف وما تدرّ من مكاسب ومغانم إلى حكومة وطنية يدير دفّتها شخصيات نخبوية وذات كفاءة ولها باع طويل في السياسة ولها برنامج حكومي واضح المعالم بتحديدات زمنية وليس في المتاجرة بمصلحة البلاد والشعب، كما هي الحال لغاية الساعة والتي بسببها انتفض الشعب في بغداد العاصمة ومحافظات جنوبية محسوبة على أحزاب دينية في السلطة. ومثل هذا الإصلاح الجذري، من شأنه أن ينقل البلاد إلى برّ الأمان وتصحيح المسار الخاطئ الذي شقّه المحتلّ الأمريكي من أجل مطابقته لمصالحه القومية ومصالح دول الجوار. فراعي العملية السياسية ليس من مصلحته تعافي البلاد وعودة الشعب وحكومته إلى حظيرة الأمم المتطورة وأخذ دوره الريادي في المنطقة. لذا فإنّ بقاء نظام المحاصصة يخدم العرّاب الأمريكي قبل غيره مثلما يخدم مصالح دول الجوار، ومنها إيران والسعودية ودول خليجية أخرى تدير حربًا بالوكالة في العراق والمنطقة. والسبب في ذلك، كي يبقى العراق تلك البقرة الحلوب لأمريكا والغرب ودول الجوار وأتباعها ورموزها وأدواتها في البلاد ممّن نصبتهم على رأس السلطة حين اجتياح الديار في 2003. أمّا ما يتحدث عنه الساسة من خلافات مع المحتل ومخططاته، فهو لا يعدو كونه فرقعة وزوبعة في فنجان، سرعان ما يتلاشى وينتهي بمجرّد قرصة أذن بسيطة ومزيد من المكاسب وتكديس الحسابات.

المرجعية صمّام أمان البلاد

إنّ مَن يدفع ثمن كلّ هذه الأخطاء الناجمة عن شكل النظام السياسيّ الفاشل القائم هو الشعب وليس غيرُه. فنحن متيقنون أن قوة البلاد تكمن بقوة الشعب إذا بادر وتخلّى عن خنوعه وتبعيته لمَن خذله ولدغه مرارًا وتكرارًا بسبب سذاجته وبؤسه الذي حصره فيه ساسة الصدفة والقائمون على السلطة عبر وعود عرقوبية كاذبة وتطمينات من جهات وأحزاب دينية غير ملتزمة بخطوط المرجعية العليا إلاّ في ادّعاءات إعلامية وبيانات تمويهية. فقد اشارت المرجعية بكلّ صراحة إلى حالة التخبط والفشل في الأداء الحكومي ودعت مراراً وتكرارًا لتغيير الوجوه واستبدال الأشخاص الذين فشلوا في إدارة البلاد وسياستها وأوصلوها إلى حافة الإفلاس المالي والمجتمعي على السواء حين قالت كلمتها “المجرَّب لا يُجرَّب”. وها هي اليوم عبر وكلائها وخطبها الأسبوعية تنذر وتحذّر من التمادي في التسويف والمماطلة في تلبية مطالب المتظاهرين المتصاعدة في كلّ يوم لحدّ المطالبة برحيل الطبقة السياسية برمّتها ومحاسبة كلّ مَن تثبت إدانتُه وخيانتُه للوطن ونكثه للعهد بالحفاظ على أمانة الناخب وإيثار المصالح الحزبية والطائفية والخاصة قبل مصالح الوطن العليا ولصالح الشعب بكلّ أطيافه.

من المؤسف حقًا، أن يبقى الحديث عن الإصلاح مجرّد كلام في أروقة البرلمان والحكومة وأسلوبًا إضافيًا آخر لتخدير الشعب وإسكات صوت الوطنيين المطالبين بتقويم الاعوجاج وعلاج الخلل ومكامن الضعف التي أدت إلى حيد البلاد والابتعاد عن أخذ دورها الوطني والعربي والدولي على السواء، حيث كان يُحسب للعراق ألف حساب وحساب. إنّ فشل الدولة العراقية برئاساتها الأربع بتلبية مطالب الانتفاضة الشبابية ومَن يؤازرهم، يعني فضّ العقد الاجتماعي بين هذه وبين الشعب الذي يرفض بقاء سلطاتهم بشكلها القائم حاليًا. من هنا ركزت آخر المطالب بالانصياع لصوت الشارع ورحيل الفاسدين من الساسة وانتصاح القضاء ليأخذ دوره العادل بعيدًا عن التسييس والانصياع لتهديدات الأحزاب وزعمائها كما هو حاصل وواضح فعلاّ في حالات لذرّ الرماد في العيون. وقد حذّرت المرجعية الدينية في آخر خطبتها ليوم الجمعة 22 تشرين ثاني 2019، من “المماطلة والتسويف وإلاّ زال الحكم إلى آخرين”.

أخيرًا، يترتب على الرئاسات الأربع جمعًا، أن تلتفت لحالات الانفلات القائمة في الإدارات اللامركزية في محافظات البلاد غير المنتظمة بإقليم. فالفوضى القائمة بين المحافظين ومجالس المحافظات المنحلّة تلقي اليوم بظلالها على المشهد السياسي. ولمّا كانت النخب الثقافية والسياسية المعتدلة الحريصة على بناء الوطن قد أجمعت على التخلّي عن الحلقات الإدارية الزائدة التي مارست الفساد في إدارتها لأموال محافظاتها، وأكّد البرلمان ضرورة إلغاء هذه المفسدة، لذا كان مطلوبًا من الجهاز التنفيذي بالدولة أن تكون له كلمة الفصل وإيقاف هذه المهزلة ووضع حدّ لهذا التهوّر بالخروج عن توجيهات المركز. كما أنّ مثل هذه الخطوة الجريئة إن حصلت وحُسمتْ، ستعيد الثقة بالدولة وحكومتها وتمنح زخمًا إضافيًا للبرلمان المتهالك الذي يواجه العديد من أعضائه اتهامات كبيرة بالفساد وهدر المال العام والسرقات عبر وسائل وأدوات عديدة.

حكومة فاعلة

إنّ مطالب الشعب الثائر في بداياتها لم تتعدّى سوى ما يُؤمِّنُ له حكومةً فاعلة ونزيهة تعمل من أجل البناء والتنمية وتقديم الخدمات الآدمية التي يستحقها وفرض سلطة القانون وتطبيق الدستور بالرغم من مثالبه الكثيرة، وليس سلطات منفلتة عميقة داخل سلطة الدولة. لكنّ صبره قد نفذ واشتدّ الغضب ممّا آلت إليه أحوال البلاد. وحينما يغضب الشارع العراقي، يعني الشعب ما يريد بقول كلمته وفعل فعله. وقد شهدنا وما نزال نشهد ما فعله ويفعله البصريون وأقرانهم في محافظات الجنوب المنتفضة ليضيفوا لساحات التظاهر في العاصمة زخمًا مضاعفًا بسبب التمادي في الفساد والمماطلة والتسويف في تنفيذ الوعود، ومنها محاسبة المنفلتين والق*ت*لة في ساحات الاعتصام وحالات الخطف القائمة من جهات مسلحة مجهولة الهوية. وبالتالي، فسفينتُنا واحدة، ولا بدّ من الركوب معًا صوب برّ الأمان وميناء السلام والبناء والإعمار والسلم الأهلي والمصالحة والتنازل من دون التغاضي عن ضرورة فرز الزؤان والأدغال ومحاسبة الفاسدين وسراق الشعب والبلاد.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!