مقالات

-متتالية حياة-: نشيد الصبر في زمن الانكسارات الصغيرة –

تحتفي رواية “متتالية حياة” لأحمد طايل بالبسيط والعابر، لكنها تفعل ذلك بإصرار سردي يجعل من هذه البساطة مقاومة هادئة، ومن هذا العبور لحظة خلود. لا تسعى الرواية إلى ابتكار بطولات كبرى أو حبكات ملتوية، بل تمارس فعلها الروائي من داخل المسكوت عنه، من حياة امرأة وجدت نفسها فجأة في مواجهة مجتمع لا يمنح للأنثى إلا الهامش، ثم يُطالِبها بأن تُعيد تشييد المركز.

في هذه المتتالية، لا يقدم طايل بطلة خارقة، بل يُعيد الاعتبار إلى الأنثى كذات تتحمل، تتألم، وتواصل. البطلة لا تُخاض لها المعارك بل تخوضها بنفسها، بلا صخب ولا ادعاء. تُدافع عن أبنائها، عن ذكرياتها، عن مساحة صغيرة من الضوء تحاول أن تحافظ عليها في وجه عتمة لا ترحم. والسرد هنا لا يُزيِّن الواقع ولا يُهوِّنه، بل يُقارب قسوته بروح شفيفة، أقرب إلى المناجاة منها إلى الحكي المتعالي.

يكتب طايل من داخل النفس الإنسانية، لا من فوقها. كل مشهد هو ارتطام داخلي، وكل حوار يعكس توازنًا دقيقًا بين ما يُقال وما يُكتم. فالكلمات في “متتالية حياة” ليست مجرد أداة لنقل الحكاية، بل هي كائن حي، يُقاوم بدوره الاختفاء. الجمل قصيرة أحيانًا، متقطعة كأنها أنفاس امرأة منهكة، لكنها لا تخلو من إصرار. ثمة شعور خفي بأن كل جملة تُنتزع من صمت طويل، وكل قرار يُتخذ بعد صراع داخلي لا يُحكى.

الفضاء الريفي لا يُقدَّم هنا كبطاقة تراثية أو لوحة نوستالجية، بل كواقع يشتبك مع سردية البطلة، ويُشكِّلها كما تُشكله. هناك تجانس حقيقي بين الشخصية والمكان، بين السياق والقرار. يُوظف طايل البيئة بذكاء، لا لتزيين المشهد، بل لتأطير الصراع: بين الفرد والجماعة، بين الماضي والضرورة، بين الانكسار والكرامة. الريف هنا ليس بريئًا ولا شريرًا، بل هو كائن له منطقه، ثقافته، وقيوده.

من الناحية البنائية، تنتمي الرواية إلى النمط المتتالي، حيث تتوالى المشاهد واللقطات لتُشكِّل معًا فسيفساء من الألم والتحدي. هذه البنية تسمح بتشظي السرد من دون أن يفقد تماسكه، كما تمنح للقارئ فرصة التورط التدريجي في العالم الروائي دون أن يُصاب بالتخمة. كل فصل يشبه ضربة فرشاة تُضاف إلى اللوحة، حتى تكتمل صورة امرأة لا تبحث عن البطولة، بل عن معنى لليوم التالي.

في هذا العمل، يتجلى أحمد طايل في أكثر لحظاته صدقًا. لا يسعى إلى بهرجة لغوية، ولا إلى استعراض معرفي، بل يكتب بعمق العارف أن القصة الحقيقية تُقال حين يهدأ الضجيج. رواية “متتالية حياة” ليست فقط حكاية امرأة، بل هي بيان شرف سردي لكل الذين لم يُسمح لهم أن يرووا حكاياتهم، ومع ذلك عاشوا، وربّوا، وابتسموا في وجه مصيرٍ قاسٍ دون أن يتخلوا عن كرامتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!