الحوار الهاديء

لماذا التغنّي بالوطن؟

لويس إقليمس       

 

 

بغداد، في 22 شباط 2019

تتلاقى وتتقاطع، بل تتناغم وتختلف موسيقى وألحان مَن ينشد للوطن كلّ وفق رؤيته وسجيته ونيته سواء للتعبير عمّا في خلجات القلب أو للتظاهر والادّعاء بحبّه والتضحية لأجله وبذل الدماء رخيصة حين يقتضي الأمر. فالوطن له دلالاتُه المتعددة لدى الفرد الذي يعيش تحت كنفه ويرتوي من مياهه ويأكل من خيراته ويتقاسم البرد والحر، الخير والشر، الحلو والمرّ، الاندحار والنصر، الفرح والترح، تمامًا كما العروس التي تتعاهد لعريسها بالذوبان في قلبه وروحه وجسده فيكونان جسدًا واحدً.

تعريف الوطن تقليديًا، هو تلك البقعة من أرض الله الواسعة التي تحتضن مجموعة من أفرادٍ على اختلاف مشاربهم ومكوّناتهم وأديانهم ومذاهبهم وأعراقهم ليكوّنوا شكل الخيمة التي تأوي الجميع من دون تمييز ولا تفرقة ولا بخل في خدمة الجميع ومن أجل الجميع. والوطن أشبه بالدجاجة التي تجمع فراخها جميعًا تحت جناحيها العريضين الوارفين الحنونين بعيدًا عن أذى الدخيل والغريب والطامع بهم جميعًا. والوطن الذي يعيش هذا النوع من الحماية العطوفة الشاملة على أساس العدل والمساواة وبأشكال الكرم والخدمات الممتزجة بالاحترام والتقدير لمواطنيه من المتصفين بالجدارة والكفاءة ومن الشاعرين بروح الانتماء الصادق لأرضه وسمائه ومياهه ومن الساهرين على مصالحه وحدوده واستقلاليته، يستحق التبجيل والتضحية والبذل والوفاء في سبيله كي تبقى راياته عالية خفاقة لا يهزّها الأعداء ولا يقهرها الطامعون ولا يغدر بها الفاسدون والدخلاء. 

كلّ مَن تغنّى بالوطن وكتب وأنشد له القصائد نثرًا وشعرًا، يتراءى للسامع والقارئ في جوانح قلبه وفي خلجات روحه وفي بواطن عقله شيءٌ بارزٌ من إحساس غريب تجاهه، أرضًا وشعبًا ومصيرًا، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً. فهموم المواطن ومصالحُه، سعادتُه وشقاؤُه، نجاحُه وتراجعُه، هي ذات هموم الوطن حامي الجميع ومعيلهم الكبير والساهر عليهم على غرار الأمّ التي ترافق أولادها بدءًا من البذرة الأولى التي يزرعها شريكها في رحمها لحين ولادتهم ونموهم بالعقل والقامة وبلوغهم كبارًا يعتمدون على أنفسهم. وحتى في كبرهم وبلوغهم، تبقى أعين الأم الحنون تراقب عن كثب سلوك الأبناء وتصرفاتهم وتوجهاتهم من دون أن تتغافل عن احتياجاهم وتوجيههم متى احتاجوا الاستشارة والنصح. هذا هو الوطن الذي يبقى “مزارًا وحصنًا ودارًا لكلّ النعم”، من دون الولوج بالغلوّ في المديح الذي لا خير منه أو الشعور بالرفعة على غيره من الأمم والأوطان. بل هذا هو الوطن الوديع المسالم الطيب الذي يحفظ لأرضه وابنائه كلّ معاني “الجلال والجمال والسناء والبهاء والحياة والنجاة والهناء والرجاء والحب والسلامة والنعمة” في روابيه وسهوله وهضابه وجباله وأنهاره وروافده وترابه ومياهه وسمائه في سمفونية مهذبة وديعة سامية تحترم وتوقر وتهدي وتُوجِّه.

إذا أردنا أن نخدم أوطاننا بصدق، فلا بدّ من الابتعاد عن المزايدات الزائفة بشأن حقيقتها والكفّ عن الادّعاء بعلوّ أوطان أو شعوب أو أمم على غيرها. فلا خير في أمة لا تعرف حدود قدراتها، ولا خير في وطن لا يعرف تقدير أهله، ولا خير في شعوب تدّعي شيئًا أعلى من قدرها وطاقاتها وعلمها. فهذه جميعًا تخضع للنظام الكوني في ظرفها المكاني والزماني على السواء. فالأرض والسماء والكواكب وما فيها وما عليها من بشر وماء وثروة وتراب ودبيب وعناصر كثيرة لا حصر لها هي كلها ملكُ الله الخالق وهي تخضع لذات السلطان الإلهي وتديرها ذات اليد السماوية من بديهية حصولها من الذات الإلهية وعودتها إليه ضمن دورة كونية عجيبة. وحينما تتعاضد الأوطان وتتعاون الأمم وتبتعد عن لغة العربدة والفتنة والتلويح بأداة السلاح والسيف وتتخلى عن روح التعالي والتجافي على الغير، تكون قد استوجبت رضا الخالق واحترمت سيادة الشعوب وعزّزت من حالة السلم داخل بلدانها ومع بعضها البعض وفقًا لقانون السماء وعملاً بشرائع الله السمحة التي لا تجيز للغير بالتجاوز والتهديد والق*ت*ل والفساد والإفساد.

هناك حقيقة ينبغي الالتفات إليها، وهي أنّ الوطن يبقى في الصميم وفي أعماق القلب والروح مهما بعدت عنه المسافات وجارت على أبنائه عوادي الزمن في غفلة منه، على قول الشاعر: ” بلادي وان جارت علي عزيزة، واهلي وان ضنوا عليّ كرام”. وفي رأي البعض أنّ مثل هذا الكلام لم يعد نافعًا في زمن العولمة التي أحالت العالم إلى قرية صغيرة بعد فتح الكثير من الأبواب للعيش في أكناف بلدان احتضنت بشرًا من أعراق وأديان ومذاهب وأوطان ومناطق مختلفة من منطلق إنساني تسامحي بحت. فهذا الفريق يرى أنه بالرغم من تقاطع مثل هذا الكلام مع واقع حال الأوطان المبتلاة اليوم بحيتان الفساد وقيام مكاتب اقتصادية متخصصة بنهب المال العام وانتشار عصابات الإجرام والممنوعات التي تقف وراءها دول وكتل وأحزاب سياسية تحرّكها نوازع دينية ومذهبية وطائفية كما في بلدنا الجريح “العراق”، تبقى مثل هذه الأمنية للكثيرين ممّن غادروا الوطن لأسباب معروفة أو مجهولة في عداد الأسلوب الإنشائي العاطفي الذي لم يعد ينفع بعد اليوم. ولعلّ مثل هذا الرأي السائد حصل بعد انكشاف جزء كبير من المستور المذكور ودراسة واقع الوضع الراهن الذي يسود أسلوب السلطة والتحكم بمقدّرات البلاد من قبل جماعات ومافيات تمرّست العمل. فهذه لا تختلف في أسلوب حكمها عمّا تمارسه عصابات إجرام وق*ت*ل وتهديد وسرقة في بلدان ماتزال تسودها الدكتاتوريات والفوضى وعدم الاستقرار وانتشار السلاح بلا رادع ولا رقيب بعد عسكرة المجتمعات.  

إنّ الوطن الحقيقي اليوم، هو الخيمة التي توفر لك الأمن والسلامة وحرية التنقل والفكر والرأي والخدمات الآدمية والإنسانية والرعاية الاجتماعية بما فيها خدمة المرض والدواء والعلاج والشيخوخة ككائن بشري يستحق الرعاية وكإنسان يستحق الاحترام والتقدير لأنّ الله خلقه جميلاً وحسن الصورة على صورته ومثاله. من هذا المنظور الإنساني، ينبغي الانطلاق في معالجة آثار الجروح المثخنة للشعب العراقي الذي تتابعت عليه نكسات الانقلابات والثورات، وبسببها سفكت دماء بريئة وسُحلت أجساد غضة واغتصبت نساء وعذارى وتعرّضت جماعات أصيلة لإبادات جماعية واضطهادات عرقية ودينية وطائفية كي يؤول المصير إلى ما نحن عليه. لذا تبقى مسألة الوطن تتأرجح في مختبرات التقييم الإنساني فريسة للأحداث تنتظر انقشاع الغيمة السوداء وزوال الرياح الصفراء القادمة من خارج الأسوار بسبب عدم أمانة رجال السلطة وغياب الانتماء الصادق للوطن وارتقاء الدخلاء والأغراب عنه على رأس السلطة. فأمثال هؤلاء لم ولن يكونوا حريصين على الوطن وأهله مادامت نوازع الفساد والطائفية والانتقام مستشرية في عروقهم وتسير في دمائهم الملوثة. ولن يكون للعراق من قومة صحيحة إلاّ باستئصال شأفتهم ووضع حدود لجبروتهم وتسلّطهم العنجهيّ ومعالجة الفساد الإداري والمالي والاجتماعي والتربوي والأخلاقي في كلّ مفاصل الحياة. حينئذٍ فقط، سنقول عاد العراق معافى إلى حظيرة الإنسانية وخيمة البشرية وشيء من الحضارة التاريخية.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!