المعاني اللاهوتية لعرس قانا
ملاحظة : هذا الموضوع هو نص المحاضرة التي ألقيتها في قاعة كنيسة مار سمعان العمودي في وندزر – كندا يوم السبت ( 27-07-2024 )
المعاني اللاهوتية لعرس قانا
بقلم / وردا إسحاق قلّو
قال يسوع لأمه ( ما لي وما لكِ ، أيتها المرأة ؟ )
المؤلفون والمفسرون يبحثون عن الرمز في كل كلمة وفي تعابير رواية عرس قانا الجليل للوصول إلى عمق الموضوع .
قبل حدث عرس قانا علينا أن نبحث أولاً عن عمر يسوع عندما بدأ رسالته بعد عودته من البرية وإنتصاره على المجرب ، فكان نحو الثلاثين من عمره ( لو 23:3 ) وهذا العمر كان ضرورياً لأن اليهود كانوا يعتبرونه سناً قانونياً لإستلام العمل الكهنوتي أو أي مسؤولية مهمة كملك أو وزير وهو سن الكهولة والنضوج . الكاهن كان يبدأ خدمتهِ من سن الثلاثين ( طالع عد 3:4 ) ويسوع صار كاهناً على رتبة ملكي صادق ، بل صار رئيس الكهنة إلى الأبد ( عب 21:7) . وهنا نذكر بعض الشخصيات التي تبؤأت مناصب مختلفة في العهد القديم بهذا العمر .
1-يوسف الصديق كان في الثلاثين من عمره عندما خرج من السجن ومَثَلَ أمام فرعون ليعيّنُهُ وزيراً ( تك 47:41 ) .
2-داود كان إبن الثلاثين يوم مَلِكَ ( 2 صم 4:5 ) .
3-حزقيال النبي كان في الثلاثين من عمره عندما انفتحت السماوات فشاهد رؤى من عند الله بجوار نهر خابور ( حز 1:1 ) .
4-يوحنا المعمذان الذي ولد قبل يسوع بستة أشهر قد بلغ الثلاثين حين بدأ بإعداد الطريق أمام يسوع .
إنفرد يوحنا البشير في نقل أحداث عرس قانا الجليل الذي فيه إجترح يسوع أول معجزة ، والتي يسميها يوحنا ( آية ) ” 11:2 ” . في إنجيل يوحنا أستعمل يسوع كلمة آية مرتين في الآيات التالية : قال ( إذا لم تروا الآيات والمعجزات لا تؤمنون ! ) ” يو48:4 ” ( الحق الحق أقول لكم ، أنتم تطلبونني ، لا لأنكم رأيتم الآيات ، بل لأنكم أكلتم الخبز وشبعتم ) ” يو26:6″ .
أظهر يسوع مجده أمام تلاميذه الستة الأولين اللذين إختارهم في بداية رسالته التبشيرية . آلوهية المسيح ظهرت في ناسوته عن طريق المعجزات التي فيها رأوا مجده . أسماء التلاميذ الأوائل الذين تابعوا المسيح وحضروا العرس هم :
يوحنا وإندراوس اللذان كانا تلميذا يوحنا المعمذان ، وكانوا واقفين معه عندما سار أمامهم المسيح فنظر إليه المعمدان وقال ( هوذا حَمَلُ الله ! ) “36:1 ” فعندما سمعوا كلامه هذا تركوه وتبعوا المسيح . إندراوس أقتاد أخاه بطرس إلى يسوع وشهد له قائلاً ( وجدنا المشيح ) ” يو 41:1 ” . ويوحنا إقتاد يعقوب أخاه . ومن بعدهم دعى يسوع فيلبس الذي جلب بدوره نثنائيل الذي قال لفيلبس ( أمن الناصرة يخرج شىء صالح ؟ ) لكن بعد لقائه بيسوع ، إعترف بلاهوت المسيح ، فقال له ( رابي ، أنت إبن الله ، أنت ملك اليهود ) ” يو 49:1 ” فنثنائيل هو أول من إعترف بلاهوت المسيح وأعلنه ، والمسيح وضح له ولفيلبس وقال ( ..سترون السماء منفتحة ، وملائكة الله صاعدين نازلين فوق إبن الإنسان ) .
حدث قرية قانا بنظر الرسول يوحنا الذي كان حاضراً في العرس هو آية تثبت آلوهية يسوع فولد الإيمان لدى التلاميذ وغيرهم . ومن بعدها قدم يسوع آيات كثيرة لم تدوّن كلها في الإنجيل ( يو 30:20 ) . يوحنا الرسول لم يذكر في إنجيله إلا سبع معجزات فقط وهي ( 1- عرس قانا 2- شفاء طفل في كَفَرناحوم 3- شفاء مقعد بيت حسدا 4- تكثير الخبز والسمك 5- السير على المياه 6- شفاء أعمى منذ ولادته 7- إقامة لعازر ) ، بينما ذكرَ كل من متى ولوقا 21 معجزة ومرقس 18 معجزة .
نص عرس قانا يندمج مع خط الإنجيل الرئيس . وهو إبراز سر المسيح المتجسد ، فحمل الناس على الإيمان بشخص يسوع كنبع النور والحياة والبِر . مجد الله في العهد القديم يدل على ثقل القداسة الإلهية الساحق ، وعلى وهبها الساطع ، وعلى قدرتها في تنوير ظلام الإنسان الخاطىء . وفي عرس قانا مُجِدَ المسيح بعد أن أُكتشِفَ في معجزتهِ الخارقة للقوانين وخاصةً في موضوع الخلق كأحياء الموتى ، فالماء الذي صار خمراً لم تكن عملية تحويل الماء إلى الخمر كما نقرأها في بعض الأناجيل البروتستانتية وليس كلها التي تقول ( ..الماء الذي تحول إلى خمر ) أما في ترجمات الكنائس الرسولية تقول ( الماء الذي صار خمراً ) أي ليس هناك عملية تحويل بل إنها عملية خلق مادة من مادة أخرى . إذاً لنسأل ونقول :
هل حقاً هي عملية تحويل ، أم هي عملية خلق ؟ وهل يجوز أن نحصل على الخمر من الماء بعملية تحويل ؟ الجواب : الماء يتكون من الأوكسجين والهيدروجين ، أما الخمر الأحمر ففيه نسبة قليلة من الكربوهيدات . يستخرج الخمرمن مادة عضوية سكرية أو نشوية قابلة للتخمير ؟ فلا يجوز أن نحصل من الماء خمراً بطريقة التحويل . إذاً يسوع لم يحول الماء إلى خمر ، بل صيَّرَالماء خمراً ، أي خلق من الماء خمراً . وعملية الخلق هي أعظم من تحويل مادة إلى أخرى . وفكرة الخلق بدأ بها يسوع منذ بداية رسالته ليثبت لنا بأنه فيه قد خلقَ كل شىء ( يو 2:1 ، قول 16:1) كذلك معجزة فتح عيون المولود أعمى بإستخدام الطين ، هل كانت عملية فتح لعيني الأعمى ، أم خَلقَ له عينان ؟ هذه المعجزة تذكّرنا بيوم خلق الإنسان الأول من الطين ، كذلك من التراب صنع طيناً عندما بللهُ بلعابه وعَجَنهُ ليدهن به عَينا الأعمى . كما نذكر معجزة إقامة لعازر المنتن من الموت ، فأنه لم يقيمه من رقاده ، بل خلقه ليعود إلى الحياة .
مريم العذراء سبقت يسوع والتلاميذ إلى العرس ، ويوحنا لا يدعو مريم باسمها ، بل دعاها أم يسوع بحسب العادات الشرقية إذ ندعو الأم باسم ابنها ( أم فلان ) .
وهؤلاء حضروا في اليوم الثالث ، والعرس كان يستمر لأسبوع كامل ( طالع تك 27:29 ، قض12:14 ، طو9:11 ) فكان موضوع نفاذ الخمر مسؤولية كبيرة بل ورطة للعريس وأهله لعدم قدرتهم الإلتزام بشروط الضيافة وخدمة الضيوف بالمستوى اللائق .
اليوم الثالث يرمز إلى المرحلة التي جاء بها يسوع . فالمرحلة الأولى هي فترة الآباء قبل الناموس ، والثانية هي في ظل الناموس ، والثالثة هي عهد النعمة والمصالحة ، العهد الجديد .
كما يرمز اليوم الثالث إلى قيامة المسيح من القبر فأظهر قوة مجده بقيامته ، فأمنوا به كل التلاميذ والنسوة الأولين ومن بعدهم فسح المجال لإيمان أبناء الكنيسة بالسر الفصحي العظيم .
في اليوم الثالث من العرس نفذ الخمر ، ويسوع حضر في ذلك اليوم تحديداً وهو اليوم المناسب لمساعدة أهل العرس ، لكن يسوع لم يأخذ طرف المبادرة لمساعدة أهل العرس ، بل مريم هي التي أخبرتهُ بما حدث لأهل العرس ، فقالت له :
( ليس عندهم خمر ) فبهذه العبارة لم تفرض رأيها وتطلب معجزة بصيغة أمر ، بل قولها لا يتعدى على إبراز حقيقة ما يجري في العرس فقط ، وهذه الحاجة ليست خاصة بها ، بل للغير بسبب محبتها وتضامنها مع الآخرين . وكان لمريم الثقة الكاملة لأن يلبي إبنها الطلب . وهي التي دفعت إبنها للعمل ولإجتراح المعجزات لخدمة البشرية ، وطلبها كان عمل شفاعي لتصبح هي أول شفيعة في العهد الجديد .
رد يسوع عليها قائلاً ( ما لي وما لك ، أيتها المرأة ؟ ) كلام يسوع عسير الفهم ، فليس أيضاً سهل التفسير لغرابتهِ . فهناك من يعتقد بأن يسوع قال لها
( الأمر لا يعنيني ، أو دعيني وإتركيني ) كما يعتقد البعض بأنه قد زجرها بسبب إخباره بحقيقة ما يحصل في العرس . فكيف لإبن الله الذي أوصانا بقوله ( أكرم أباك وأمك ) يخالف وصيته ! أم في رد يسوع عمقاً لاهوتياً فعلينا أن نصل إلى غايتهِ لأنه في الحال قام ليلبي طلبها ، بل ليكرمها بكل إحترام ، ومن أجل طلبها قام ليعمل المعجزة . أما عن التفسير الصحيح لقول يسوع لأمه فيرتبط بحقيقة الإختلاف والتفاوت بينه وبينها ،عبّرَ عنه القديس يوحنا ذهبي الفم بأن المقصود هو المسافة الكيانية التي تفصل بين المسيح وأمهِ . أي هناك مسافة بين يسوع ومريم ، بين الله والإنسان ، وأن لا شىء يجمع بين إبن الله وبين مريم ، لأن ما تزال هناك هوة تفصل بين الأثنين بسبب خطيئة الأبوين . يسوع هو رب العهد الجديد ومريم تمثل العهد القديم ، وتلك الهوة لم تردم بعد ، سيردمها يسوع عندما تأتي ساعته ، أي عندما يصلب ويدفع الفِدية عن الإنسان الخاطىء ، بعد ذلك سيفتح الطريق وتتم المصالحة . أما عبارة ( يا إمرأة ) فلا يقصد بها التصغير أو إزدراء أو قلة الإجلال والإحترام لأمه ، فقد كررها وهو على الصليب ( يو 26:19 ) فما كان يقصده هو الإحترام ، وتساوي القول ( يا سيدة ) وفيها الإحترام أكثر مما يقول لها يا أمي ، وكذلك لكي لا تصبح أمه فقط كرر قوله لها على الصليب ( أيتها المرأة هذا أبنكِ ) أي يوحنا البشير ، ولأنها ستصبح أم كل المؤمنين أيضاً وليس أم يوحنا فقط . في صلاة السلام الملائكي باللغة السريانية نقول (ܡܵܪܬܝ ܡܲܪܝܲܡ ܝܸܡܵܐ ܕܐܵܠܲܗܵܐ) أو ( مارت مَريمْ يِمِّدْ آلَها ) أي ( سيدة مريم أم الله ) ، وعندما نقول ( إمرأتي ) أي ( مرتي ) فتفسيرها هو ( سيدتي ) وهكذا تحترم المرأة في المسيحية . وقد يكون في قول يسوع ( يا إمرأة ) إشارة لما ورد في ( تك 13: 15، 20 ) فأمه هي حواء الثانية التي بنسلها تسحق رأس الحية فتصبح أماً لكل حي . العذراء فهمت ما قصده بكلامه ، والتي وضعت ثقتها الكاملة به وبقدرته لهذا تيقنت بأنه سيلبي طلبها ففتحت فمها لترشد الناس بإيمانها وطاعتها وإستسلامها لطريق الحياة الجديدة مع الذي تجسد فيها من الروح القدس . فقالت للخدم ( مهما قال لكم فإفعلوه ) وكلامها هذا لم يقتصر لعمال العرس فحسب بل سيستمر إلى نهاية العالم لتقول لكل البشر ( إعملوا ما قاله لكم إبني في إنجيله المقدس ) .
أضاف يسوع وقال لأمه ( لم تأتـي ساعتي بعد ) . موضوع ” الساعة “ من المواضيع الخاصة في أنجيل مار يوحنا الحبيب ، ونلقى هذا التعبير ( 26 ) مرة في إنجيله . ويعني يسوع ب ” الساعة ” التي تبدأ من عرس قانا عندما أثبث لاهوته إلى ساعة تألمه وموته وقيامته . أما أمه فتقصد ساعة عمل المعجزات التي قد حانت . ويسوع يعلم منذ عمادهِ في نهر الأردن بأن مهمتهِ المسيحانية قد بدأت . أجل ساعة يسوع قد حانت لهذه الأسباب وهي : أنه تعمد على يد يوحنا المعمذان ، ذهب إلى الصحراء وصام أربعين يوماً ، والدخول إلى الصحراء يرمز إلى التهيؤ للدخول إلى مرحلة جديدة كما فعل شعب إس*رائي*ل في الصحراء قبل دخوله إلى أرض الميعاد . وفي البراري دخل التجارب وأنتصر ، ومن ثم جمع له عدد من تلاميذه ليبدأ بالتبشير بكلمة الإنجيل وعمل المعجزات ، فالعذراء كانت تعلم بمجىء ساعته لعمل الآيات ، فأرادت مد يد العون لأهل العرس ، إذاً أنها لن تخطأ في الوقت . بل وقت إجتراح الآيات والتبشير بملكوت الله قد حان ، وبعد عرس قانا سيتجه يسوع مع أمه وتلاميذه إلى كفرناحوم وهناك أيضاً سيعمل معجزة أخرى .
أما الساعة التي قصدها يسوع بأنها لم تأتي بعد ، فهي الساعة التي يعطينا فيها الخمر الحقيقي وهو دمه الثمين على الصليب . وبكلامه هذا ربط يسوع خمر قانا مع خمر العلية . ربط ساعة خمر قانا مع ساعة العشاء الأخير التي فيها يعطينا الخمر الحقيقي الذي هو دمه وتلك الساعة لم تأتي بعد . فالخمر الذي طلبته العذراء ، ساعته قد حلَّت لهذا قام في الحال وإتجه إلى المكان الذي فيه الإجران الستة الحجرية . لماذا ستة إجران ؟ العدد ستة ناقص ، ويرمز إلى العهد القديم الذي لم يكمل فيه الوحي .أما العدد الكامل فهوالرقم سبعة ، فالمفسرون يستنتجون بأن العهد القديم لن يكمل إلا بمجىء المسيح .
في العهد القديم إستخدم ست إجران بعدد أيام العمل في الأسبوع لأن في يوم السبت لا يجوز العمل ولا يسمح فيه التطهير لكونه يوم الراحة . كانت الإجران من حجر لأنها سهلة للغسل ، ولا بد من غسلها من الأتربة والحشرات ، بينما لو كانت من فخار لوجب تحطيمها إذا تنجست ، كما لو سقط فيها حيوان فمات ( طالع أح 11: 33) . يسوع لم يأتي ليكسر أو يحطم أو يلغي العهد القديم ، بل جاء ليكمله ، فبدل تطهير الجسد بالماء ، جعل الماء كمادة لتطهير النفس في سر المعمودية ، بل جعل الماء خمراً لكي يطهّر الإنسان من الخطيئة في سر الإفخارستية ، وسيكمله على صليب الجلجلة بملء الأجر السابع عندما تأتي ساعته .
كان يسع كل واحد من الإجران مقدار مكيالين أو ثلاثة ( أي ما بين 80 – 120 لتراً ) فتكون الكمية بين ( 480- 720 ) لتراً . كانت مياه الأجران تستخدم لتطهير الأرجل قبل الدخول إلى قاعة العرس ، أي كانت الإجران تحتوي على ماء لتطهير الجسد بحسب شرائع العهد القديم ، ويسوع سينفخها بروح جديدة لتستخدم لتطهير النفس في المعمودية . أعطى يسوع الخمرة الجيدة بوفرة لأنه يعطي بسخاء ، وذلك ليكفي لأهل العرس للأيام الباقية من العرس .
ذهب يسوع عند الإجران وطلب من الخدم ملأها ولم يأمرهم بالغرف منها إلا بعد أن طفحت الأجران ، أي طفحت النعمة فقال لهم ( إغرفوا الآن وناولوا وكيل المائدة ) . لم يكتب يوحنا أي تفاصيل أخرى قام بها يسوع ، فهل صلى على الماء ليصبح خمراً ، أم أمر في الحال ليغرفوا ويقدموا ؟ المسيح لم يصلي على الإجران بل بسلطان كلمته جعل الماء خمراً ، تقول الآية جعله خمراً ولم تقل حَوّلَ الماء إلى خمر ( طالع يو46:4) ، أي خلق طبيعة الخمر من الماء خلقاً . تم تنفيذ أمره من قبل خدام العرس ، ومن ثم تمت المعجزة ، قدم الخدم الخمرة إلى وكيل المائدة أولاً ، فعندما ذاقها دعا العريس ليقول له كلاماً فيه قدر من السخرية ، فقال ( كل أمرىءٍ يقدم الخمرة الجيدة أولاً ، فإذا أخذ الشراب في الناس ، قدم ما كان دونها في الجودة . أما أنت فحفظت الخمرة الجيدة إلى الآن ) ويقصد بكلامه أن الناس في البداية يميّزون الخمرة الجيّدة قبل أن ينال منهم الخمر ، أي قبل السِكرِ، فبعدما يتناولون قدراً منه يقدمون الأردأ . كلام وكيل المائدة سلط الضوء على العريس لمدحه أيضاً على الخمرة الجيدة ، إضافة لما إحتوى كلامه من إظهار الغرابة في التصرف . لكنه لا يعلم بأن العريس لا يدري من أين أتت تلك الخمرة الجيدة ، بل الذي يعلِم هو العريس الحقيقي يسوع الذي قدم خمر العرس تحت ستار عرس القرية ، كان عرسه هو . وكأن عرس قانا كان نموذجاً مصغراً للكنيسة ، والخمر يرمز إلى الفرح والحب الذي فقد في العرس بسبب نفاذ الخمر ، تقول الآية ( حبك أطيب من الخمر ) ” نش 2:1″ . وفي العهد الجديد الخمر يرمز إلى الإفخارستيا ، والعريس يرمز إلى المسيح الذي يقدم لعروسته دمه المبارك ، أي كان عرس الحمل المسيحاني الذي بشر يوحنا المعمدان بمجيئه فهيأ له الطريق ، وقال عن هذا العريس الإلهي ( من يأخذ العروس ، فهو العريس ، أما صديق العريس ، وهو الواقف يسمعه ، فيستولي عليه الفرح لهتاف العريس . هذا هو فرحي قد تم . لا بد له من أن يعظم ، ولا بد لي من أن أصغر ) ” يو 29:3″ .
إذاً سر قانا الجليل قائم كله على وجود هذا العريس المستتر ، أو نقول في عرس قانا بدأ يظهر نفسه للعالم . وهذه أول معجزة قام بها المسيح دَوَّنها الرسول يوحنا في إنجيله .
يقول بعض المفسرين ، من الممكن ألا يكون الماء قد صار خمراً إلا ساعة الإستسقاء ، ولكن النبع موجود ، وهو يفيض نوعاً وكماً وعن كل الآمال ، فتأويل خمرة قانا كرمز لنعم العهد الجديد تثبته وفرة العطاء من الخمرة الطيبة . إذاً ما ذاقه وكيل المائدة كان خمراً مختمراً وليس عصيراُ غير مختمر كما تؤمن به الكنائس الغير الرسولية فيقدمون في كنائسهم عصير العنب الغير المختمر عندما يحتفلون بموت وقيامة المسيح في صلواتهم كذكرى فقط لا يدعون الروح القدس ليحول فيها الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح ، أي يكتفون بقول الرب ( إعملوا هذا لذكري ) .
كان عدد تلاميذ المسيح الحاضرين ستة ، أي كان عددهم ناقصاً ، سيكمله يسوع لاحقاً ليصبح عددهم إثني عشر تلميذاً كأسباط بني إس*رائي*ل . وعدد الإجران أيضاً ستة ، وملء الكمال هو في العدد سبعة . إذاً يسوع لم يعطي لهم كمال النعمة في تلك الأجران . عندما قالت أمه ( ليس عندهم خمر ) قال لها ( ساعتي لم تأتي بعد ) بهذا ربط خمر قانا بخمر العلية ، أي إنتقل يسوع من الطلب المادي لأهل العرس إلى طلب روحي بدون أن يعلن ذلك في حينها صراحتاً . ينتقل من خمرة العرس إلى ساعة موته حيث الخمر الحقيقي الذي ينزف من جروحه الأربعة ومن قلبه عندما يطعن بالحربة .
الماء الذي صار خمراً سيصبح الخمر ايضاً دماً . لهذا فبعض آباء الكنيسة ، ومنهم إيريناوس ، وأكثر من مفسر كتابي يرون فيها رمز للإفخارستيا . ولكنهُ يصعب التثبيت بصورة أكيدة أن الإنجيلي يوحنا كان يرى فيها سر الإفخارستيا . وقد يكون من الخطأ حصر معنى الآية في هذا الرمز ، وإنما يجب الإقرار بأنه قد تحقق في الإفخارستيا ما كانت ترمز إليه إعجوبة قانا ، فالمسيح العريس يقدم لعروسته الكنيسة المقدسة كأس الخمرة الكاملة التي لا تنضب من بيت القربان ، إنها محتويات الإجر السابع الذي ملأهُ يسوع من دمه على الصليب ، إنه نبع الفرح الحقيقي والحياة الأبدية لعهد جديد . قال لتلاميذه . أفضل مما قيل في العهد القديم : ( … هلموا واشربوا من الخمر التي مزجت ! ) ” أم 9: 5 . سير 17:24 ” .
كان دور مريم في العرس قوياً ، فهي أول من حضر إلى العرس قبل يسوع وتلاميذه ، لم تحضر مع إبنها لأنهم كانوا إثنان ، كل منهم من عهد ، فمريم التي ما زالت من بنات العهد القديم طلبت من رب العهد الجديد لتلفت إنتباهه إلى موضوع نفاذ الخمر ، والمشكلة التي بدأت تهدد فرح العرس . بدون شك يسوع كان يعلم بتلك الحقيقة لكنه ظل صامتاً دون أن يحرك ساكناً ، لأنه هو المعطي فعلى المحتاج أن يلجأ إليه ، فالعذراء التي كانت تعلم بقدرته وبمحبته وعطاءه تدخلت لتعبرعن دورها المهم في معجزة قانا فدفعت إبنها لكي يحل المشكلة التي حلت بأهل العرس ، وبالفشل الذي يعانوه أمام المدعويين ، فرد يسوع عليها كان يحتاج إلى فهمه بنبرة الصوت والحركة ، إضافة إلى الجو العام المحيط بهما . مريم فهمت أن نظر إبنها ينفذ إلى أبعد واسمى من هموم الساعة الحاضرة ، ويصل إلى نقطة في المستقبل القادم ، فكل الحاضر كان يتوق إلى تلك الساعة وهي ساعة أن يعطي للبشرية الخمر الحقيقي على الجلجلة ، مريم فهمت عمل إبن الله ومحبته ، فأنه سيفعل ما تريد لأن الساعة التي تقصدها قد أتت ليعطي لأهل العرس الخمر الذي هو رمز للخمر الحقيقي الذي ساعته لم تأتي بعد . بسبب ثقتها الكبيرة بإبنها ولطاعتها وإيمانها المطلق بإبنها لجأت إليه ليحل المشكلة ، فمريم هي أول من آمنت بيسوع بعد أن بدأ بنشر رسالة العهد الجديد ودخلت في سره ، لهذا عندما خرجت من العرس خرجت معه لأن الإثنان أصبحا واحد . وهكذا سيصبح كل من يؤمن بالمسيح واحداً معه . أما التلاميذ الستة فآمنوا بعد خلق الخمر من الماء لأن يسوع أظهر لهم آلوهيته وقوة مجده في الخلق ( يو 11:2 ) وأثبت لهم أنه المشيح المنتظر ، والعريس الحقيقي ، ومؤسس العهد الجديد في إجران الديانة اليهودية العاجزة عن تطهير الإنسان بمائها ، بل أنتهى دورها . صب يسوع الخمرة الجديدة ( المحفوظة إلى يوم العشاء الأخير ) أي التي أحتفظ بها الله إلى زمن النعمة والمصالحة . وفرة خمر عرس قانا وجودتها هما صورة لعطاء الله ومحبته للجميع ، لم يأتي أحد إلى يسوع إنساناً ويطلب منه إلا وأعطاه ، فكيف لا يلبي طلب العذراء إمه التي لها مكانة خاصة في تجسده وحياته وحتى يوم صلبه .
أخيراً نقول : حضور يسوع في العرس يرمز إلى حضوره في الكنيسة بين أبنائه ليعطيهم من جسده ودمه ، هو العريس الحقيقي والكنيسة هي العروس ، بدأ خدمته وأثبت لاهوته في عرس قانا بعد أن لجأت إليهِ أمه فأعطى لأهل العرس الخمر الصالح لأرتواء الجسد . فهل كانت العذراء مريم مستعدة لأن تطلب من إبنها لكي يعطي للعالم الخمر الحقيقي الذي يروي النفس ويخلص الروح ؟ الجواب نعم لأنها أفضل من إبراهيم الذي نفذ أمر الرب بتقديم إبنه ذبيحة له .
عند الصليب أعطى فعلاً للبشرية الخمر الحقيقي ودفع صك الخطيئة ، فبنسل المرأة ، يسوع المسيح ، تم إملاء الإجر السابع . في يوم مجيئه الثاني ستلتحم كنيسته الأرضية مع السماوية ، فعلاقته بالكنيسة هي كعلاقة العريس بالعروس ، وخدمته للعالم ستستمر إلى أن نجد عرس الحمل في ذلك اليوم فنفرح ونتهلل . تقول الآية ( لنفرح ونبتهج ! ولنمجد الله لأن عرس الحمل قد حان ، وتزينت عروسهِ وخوِّلَت أن تلبس الكتان الأبيض الناصِع ) ” رؤ 19 : 7-9″ .
توقيع الكاتب ( لأني لا أستحي بالبشارة ، فهي قدرة الله لخلاص كل من آمن ) ” 16:1 “.
المصادر
1-الكتاب المقدس
2- كتاب ( المعجزات ) تأليف الأب فرنسيس يوسف المخلصي .
3-كتاب ( قراءة في إنجيل يوحنا ) للأب دوناسيان ملا اليسوعي .
4- محاضرة المونسيور د. بولس الفغالي .