سألني أحدهم عن القيامة: ما معنى القيامة؟ وكيف نفهمها؟ وما معنى القيامة بالجسد؟
الكاتب: المطران سعد سيروب
سألني أحدهم عن القيامة: ما معنى القيامة؟ وكيف نفهمها؟ وما معنى القيامة بالجسد؟ وهل قيامتنا تشبه قيامة المسيح؟ اسئلة تطول الاجابة عليها ولكني ساحاول ان أعطي بعض الافكار عنها..
المطران سعد سيروب حنا
هذه المرة أطيل بعض الشيء لان الموضوع واسع جدا.. لكن ارجو قراءته بعناية وبتمهل.. 1. حدث الصلب والقيامة يبدو واضحاً التغيير في التعابير التي يستخدمها الإنجيليون عندما يرون قصة قيامة يسوع. فالصليب والموت كانت من الوقائع العلنية (كان يمكن لأي أحد من سكان اورشليم التثبت منها)، تختلف القيامة بأنها حدث ليش علني للجميع فقط للذين أمنوا به… حدثاً يعتمد السريّة، على الأقل في بداياته. يظهر يسوع فقط الى التلاميذ، أي الرجال والنساء الذين رافقوه في حياته وكانو قد بدوأ الايمان به. الاعلان الرسمي والعام للقيامة أعلنه الرسل في يوم الخمسين، يوم حلول الروح القدس على التلاميذ: “ذاك الرجل الذي اسلم بقضاء الله وعلمه السابق فق*ت*لتموه اذ علقتموه على خشبة بأيدي الكافرين، قد أقامه الله وأنقذه من أهوال الموت… ونحن باجمعنا شهود على ذلك” (اع 2/23-24، 32). إن هذه الشهادة هي شهادة إيمان. لأنهم لم يتعرفوا على يسوع بعيون الجسد وحسب، بل بعين الإيمان. فنحن إذا أمام شهادة ايمانية أصيلة وأصلية. 2. شهادة الرسل يجب علينا الانتباه إلى أصالة الطريقة التي يقدم بها التلاميذ الشهادة عن قيامة يسوع. تتميز هذه الشهادة عن بقية الأحداث التي مرّ بها يسوع في حياته. أولاً، لا نجد أحداً في لحظة القيامة. فقد مات يسوع ووضع في القبر، وقد ختم القبر من قبل الجنود، وفتح القبر فيما بعد ورأوا القبر فارغ. هناك من قد تسأل عن إمكانية تصوير قيامة المسيح بكاميرا سينمائية! في الحقيقة، لم يكن ممكن لهذه الكاميراً أن تسجل أي شيء على الإطلاق عن القيامة سوى اختفاء الجسد. تقدم قيامة المسيح كحركة تصاعدية متسامية للجسد الذي يُفلت من استمرارية الزمان والمكان، التي لا يمكن التفكير بوجودنا البشري خارجاً عنها. بهذا المعنى فالقيامة بالنسبة لنا سرّ كبير. ان هذه النظرة المعاصرة للقيامة تتطابق والتقليد ألرسولي. تكشف النصوص الإنجيلية عن التغيير الذي حدث في حياة يسوع بعد القيامة. فهو غير معتاد على طبيعة حياتهم بعدُ. يظهر ويختفي بكل حرية وبمبادرة خاصة منه. فهو يعيش في عالم “آخر”. كم نتمنى وصف هذا العالم، ولكنه يهرب من مخيلتنا وتفكيرنا كلياً، لانه عالم الله نفسه. وهذا ما يتكلم عن الرسول بولس عندما يذكر الجسد الروحي (1 كور 15/44)، لكي يثبت هذه الاختلافية وعدم الاستمرارية بين الجسد السماوية والجسد الأرضي. فالقيامة ليست إحياء لجثة هامدة، أو رجوع مؤقت إلى الحياة الأولى، بل إنها الدخول في عالم الله وحياته (فهي تختلف عن قيامة لعازر). فلا ينبغي تحميل الإشارات التي يعطيها الإنجيل والتي يصف بها قيامة يسوع اكثر مما تتحمل. فالقبر الفارغ ليس دليلاً على القيامة بقدر ما هو علامة على التغيير الذي حدث في حياة يسوع. فلم يكن ممكن للتلاميذ استيعاب قيامة المسيح وجسده كما هو في واقعه امام الله. استخدم يسوع الوسائط المناسبة ليكشف عن ذاته للتلاميذ. ان القراءة الدقيقة للاناجيل ودراستها عن قرب يمكن ان تكشف لنا عن الاختلاف في بعض المعطيات. وهذا دفع الكثير من الدارسين للكلام عن “تدرج في الشهادة”. الا انه يوجد اتفاق تام بين الاناجيل على تاكيد حقيقة القيامة. يبقى الامر بأنه من الصعب التوفيق بين النصوص الانجيلية لبناء تسلسل زمني دقيق للحدث بشكل كامل. واية محاولة مثل هذه التي تريد تكوين رواية تاريخية متسلسلة ستنتهي بالفشل لا محال. ان رواية القيامة تختلف عن رواية الالام لانها تنتمي الى مستوى وجودي أخر. وهذا ما يفسر الاختلاف في بعض تفاصيل الروايات الانجيلية التي تحاول رواية حدثاً فريداً وأصيلاً. ولكن هذه الاختلافات في الرواية تظهر استقلالية معينة في الشهود وشهادتهم! 3. هل هناك أدلة تاريخية على قيامة المسيح؟ ان الاجابة على هذا السؤال يمكن ان يكون بـ “نعم” أو “لا”، أو بالا حرى يجب علينا قبل كل شيء الاجابة بـ “لا” لنتمكن من الإجابة بعدها بـ “نعم”. إن هذا ليس غموضاً مجازي، بل انه أمانة تتوافق مع أصالة حدث القيامة الفريد. الجواب الاول هو “لا”، لان قيامة يسوع هي خروج من التاريخ، حيث دخل المسيح بجسده الى عالم الله. يختلف الامر العلمي بموضوعه ومنهجه. العلم محدود باحداثيات المكان والزمان. فالعلم غير قادر على الكلام عن البدء الاول للاشياء والتاريخ، ولا عن نهاية التاريخ. فعندما يحاول العلم الاجابة على هذا الاسئلة يتحول الى فلسفة ولاهوت للتاريخ. ان قيامة يسوع، كما يعلنها الشهود الاوائل، هي الحدث الفصل: فما هو قبلها مكتوب في تاريخينا، ولهذا يمكننا تاريخه والكلام عنه بالمنطق التاريخي. ولكن الـ “بعد” هو خروج نهائي من التاريخ، لان يسوع أصبح “إنساناً سماوياً” (1 كور 15/ 49)، والذي يتحلى بصفات عدم الفساد والخلود، أي عكس الصفات البشرية والتاريخية تماماً. العمل لا يملك شيئاً بخصوص هذا النوع من الحياة. يمكن تمثيل حالة العلم بحالة ذاك الطبيب الذي يجد نفسه أمام شفاء عجائبي. فهو لا يملك كطبيب إلا التسليم بأنها ظاهرة غير خاضعة للتفسير الطبيعي. فالتاريخي سيحاول تفسير الحدث بالبحث عن ما هو قبل الحدث، أو سيقوم بتحليل الجثة، أو سيؤشر اختفاء الجثة ووان هذه الظاهرة غير قابلة التفسير من وجهة نظر تاريخية. لقد حاول أحدهم سرقة جثة شارلي شابلن، الا ان أحد لم يفكر بقيامة شارلي شابلن فقد تم استعادة الجثة فيما بعد. عموماً، لا يمكن الكلام دلائل تاريخية عن ما هو غير تاريخي بالمعنى العادي. فقيامة المسيح ليست تاريخية لانها لا يمكن أن تكون موضوعاً للبراهين التاريخية، النقدية والعلمية. انها حقيقة ما وراء التاريخ. فهي لم تمتلك شهود عيان بالمعنى العام، لأنه لم يكن ممكناً ذلك. لقد حاول اللاهوت الدفاعي الكاثوليكي البرهنة على القيامة من وجهة نظر تاريخية بحته كردة فعل على العقلية العلمية السائدة. فقد اعتقد بوجود أدلة تاريخية تثبت قيامة يسوع، كتلك التي يملكها موت يسوع. فبدلاً من تحليل القيامة بصورة أصيلة، لجئت إلى تعابير تقليدية مطبوعة بالمادية. فقد حاول اللاهوتيون في كثير من الأحيان تصوير قيامة المسيح وكأنها رجوع إلى الحياة السابقة. ان القول بان القيامة ليست حدثاً تاريخياً لايعني ابداً انها غير حقيقية. ليس كل حقيقي ضرورة تاريخي بالمعنى العلمي! فالقيامة هي حدث حقيقي في شخص المسيح، الانسان التاريخي. علينا أن نقول بان القيامة هي حدث تاريخي ايضاً. هناك أدلة تاريخية تؤكد وتقول بان أشخاصاً شهدوا هذه القيامة لأنهم امنوا بها. فشهادة الرسل تشكل مدخلاً وعلامات للدخول في تاريخية القيامة. يمكن لاي تاريخي ان يتحقق من قيمة الشهادة التي يقدمها التلاميذ عم يسوع القائم. فالقيامة هي حدث تاريخي من جهة الـ “قبل” في حياة يسوع: حياته وأعماله واقواله وموته… 4. القيامة حدث ندركه ونعرفه بالايمان إن كل ما ذكرناه يعني ان القيامة حدث يمكن الدخول إليه بواسطة الايمان. فعبارة “إن يسوع قام من بين الأموات” ليست عبارة تجريبية أو يمكن التحقق منها علمياً. إن القيامة تعبير عن فعل إيماني يحتوي في ذاته على المصداقية. تشير الأناجيل بان يسوع ظهر فقط للتلاميذ الذين امنوا به. هذا يجعل من القيامة موضوعاً للشهادة الايمانية عن حدث وقع في التاريخ. فالقيمة مرتبطة بالمعنى الذي تشير إليه. فلا يمكن التعرف على القيامة إلا من خلال المعنى الذي تحمله. فخلف القيامة يقف كل ثقل العهد القديم وكل ثقل حياة يسوع التي جعلت من القيامة حدثاً خلاصياً. اليوم، الايمان بالقيامة يصبح مستحيلاً دون الشهادة الحية التي تقدمها الكنيسة في عالمنا. هذا ما يجعل من الواقع المسيحي شهادة حية يتم التعبير عنها بالكلمات، الاحتفال والطقوس. فالوجود المسيحي مدعو إلى الاشتراك في القيامة بشكل سريّ. إن هذا يكشف أهمية الشهادة المسيحية اليوم في عالمنا لإذاعة القائم من بين الأموات، لا بالكلمات بل بالحياة. 5. قيامة الجسد يقول الفيلسوف الوجودي غابرييل مارسيل (1889-1973) على أن الجسد غير خاضع لصفة التملّك: فالتملك يستند في منطقه على أن يكون الموضوع خارجاً عنّي، ويقوم على إمكانية احتفاظي بالشيء أو تركه. لا ينطبق هذا المنطق على “جسدي”: يمكنني أن أراه أو ألاحظ حركاته ولكنني لا يمكن أن انزعه أو أتخلى عنه. أنا وجسدي واحد، أنا هو جسدي. فأنا في ضحكتي، ابتسامتي، في حزني وغضبي حاضر شخصياّ كذات فاعلة. يجب أن نميّز بين جسدي عضوي خاضع لكل القوانين التي تخضع لها بقية الأجسام العضوية الحسية وبين جسد إنساني، الذي يشير إلى الجسد في بعده الشخصي الوجودي. يعبّر الإنسان عن نفسه ويحقيق ذاته من خلال وجوده في الجسد وبواسطة الجسد. الجسد يعبّر عن الإمكانية الواقعية لوجودي وتواصلي مع الآخرين والعالم. يشير الجسد إلى مجموعة العلاقات والتحقيقات التي يصوغها ويكوّنها الشخص من خلال وجوده. الجسد هو المكان أو المجال الذي فيه يحقق الإنسان حياته. يحكم الإنسان بنفسه على حياته وتعابيره الجسدية المختلفة. إنه قادر على وضع حدّ للوجود، بالا*نت*حا*ر. الألم هو المسافة بين انفتاح الإنسان وحدود وجوده البشري. نحن أمام قطبية مزدوجة تكشف عن ذاتها بأوجه مختلفة. إن عدم التطابق هذا نشهده في العجز البشري وضعفه الجسدي والفشل الذي يصيب الكثير من أفعاله. أن تعدد الأفعال وكثرتها تصبّ في “وحدة” الشخص البشري وهذا هو البعد الذي يمكن اعتباره موضوعياً. ومن جانب آخر، نملك جانباً غير قابل لتحويله الى جانب موضوعي والذي لا يخضع لصفة التملك: وهو “الشخص” البشري كمصدر لكل أفعاله، الذي يتأمل ويبادر ويحكم على كل شيء. يمكننا الكلام عن “أنا” كمنبع أو كقطب ذاتي، وهذا هو “الروح” في اللغة الكلاسيكية، الذي يجعلني غير قابل للاستبدال والخلط مع الآخرين: فهذا المركز الشخصي الروحي يجعلني فريداً أمام الجميع وفي كل ما أقوم به. ان عدم الاستمرارية بين حياة يسوع الأرضية والتغيير الذي طرأ على حياته بعد القيامة لا يسمح بمعاملتها كظاهرة علمية. فالتغير في الحالة الجسدية غير قابل للتشبيه. فلا نملك صورة واضحة عن حالة الجسد بعد القيامة في عالم يختلف عن عالم الزمان والمكان الذي نعيش فيه. كل ما نملكه هو علامات، انطلاقاً من الرواية الإنجيلية عن يسوع القائم. تريد المسيحية بتأكيدها على قيامة الجسد إبراز التواصل بين الجسد المائت والجسد القائم من خلال عدم التواصل بين الجسد المائت والجسد القائم. إن عدم التواصل، والذي لا يمكن تصوّره، يتعلق بالجسد من جهة إنسانيته ومن جهة عدم انفصاليته عن الحالة البشرية الوجودية، ومن جهة كونه يجمع في ذاته كل التاريخ ويمثل التعبير الامثل عن شخصية متكاملة. إن القيامة هي ضمان لتناغم الحالة الروحية والجسدية. فالتناقض بين الروح والجسد، الذي حاول الفكر الفلسفي والإنساني تجاوزه من خلال مسيرته الطويلة، يجد المصالحة في الجسد الممجد للقائم من بين الأموات. إن جسدنا هو روحي في بنيته الوجودية. يصبح جسدنا بعد القيامة روحياً بصورة كاملة. إن القيامة تعني طريقة جديدة للتواصل والاتصال. فجسد يسوع لم يعد خاضع لحدود الزمان والمكان، ولذا فان يسوع مع التلاميذ تغيير ليلبس صورة جديدة، التي يكشف يسوع من خلالها ربوبيته. يعرف الانسان حق المعرفة بانه كائن واجب الموت، وهو يعيش وجوده متارجحاً بين مصيره المحتوم ورغبته في الحياة للأبد. يشعر في أعماقه بهذه الحاجة الملحة إلى الخلاص: فالخلاص يعني أن نحيا، إن نحيا بصورة كاملة وبصورة مطلقة. الخلاص هو ان نعيش سعداء في الحب، متصالحين مع انفسنا والاخرين والكون والله. فكل إنسان إذا، مسكون من رغبته العميقة بالقيامة من بين الاموات، الحاضرة في أعماقه. فهذه الرغبة ترتبط بوجودنا كأناس. إن هذا الرجاء تحقق في شخص يسوع المسيح وقيامته دليل على ذلك ونحن نتحد به بواسطة الايمان. فلا يوجد إيمان بدون رجاء، ولا رجاء بلا إيمان.
..