رؤيا – لاهوتية علمية عقلية – معاصرة لرواية “الخَلق”
رؤيا – لاهوتية علمية عقلية – معاصرة لرواية “الخَلق” سفر التكوين
بقلم / نافع شابو
الجزء الأول : الخالق والخلق بين الأيمان والعلم والعقل
يقول يشوع بن سيراخ:
” بعدما تأملتُ في الكون رأيتُ أنَّ
حكمة الله في الكون
بعدهُ تأمَّلتُ مليّا صرتُ كالبدرِ : فأنا مليءٌ بالأفكار ، ولابدَّ من قولها
مقدمة
” في البدء خلق الله السماوات والأرض “سفر التكوين 1 :1″.
عجبني قول أحدهم في أحدى القنواة الفضائية عندما قال:”الأنسان هذا الكائن الذي خلقه الله على صورته فانّه لا يرضى بالمحدود لكنه يحاول دائما النظر الى اللامحدود الى الكمال ويضعه في هدفه النهائي .. أنّ السبب الحقيقي لذلك كُله لا يعرفه الا الذين ينظرون الى الهدف الأسمى وكرّسوا حياتهم لتحقيقه وهو السعي الى ما هو وراء هذه الحياة القصيرة الى الهدف الحقيقي ألا وهو التطلع الى خالق هذا الكون وهذه الحياة, الذي يغمرنا بمحبته اللامحدودة والفائقة الأدراك, وهؤلاء الناس هم اسعد الناس فتراهم يعيشون في فرح وسعادة وسكينة وراحة البال لأنهم حصلوا على أغلى وأثمن كنز , انّه كنز“الحقيقة والحياة”
.لقد شاعت مختلف التفاسير عن عملية الخلق ألأصلية ولازالت قائمة في شتى ألأديان .فسفر التكوين يقدم لنا عملية خلق تصدر من الخالق ألأوحد الذي هو مصدر كل وجود وكل حياة .
فمن ألأرادة الخلاّقة للخالق تنبثق كل الكائنات المعروفة مرتبة وفق نظام معين يرتبط بدرجة كمال كل واحد منها . وترجع فكرة الخلق الفوري أو اللحظوي الواردة في النص الكتابي الى رغبة المرء في ارجاع كل وجود مباشرة الى العقل ألألهي ، علما بأنِّ الكيفيات (وهي من اختصاص العلم وليست من اختصاص الدين) التي تتم بها عملية الخلق لا تدخل في دائرة اهتمامات مؤلفي سفر التكوين . وقد بلورت التناحرات الفلسفية والدينية خلال القرن التاسع عشر لدى الرأي العام التعارض بين الخلق والتطور لأن الباحثين آنذاك لم يعترفوا بالتطور إلاّ كانجاز لحظوي آني لأرادة الخالق . كما اننا لا نزال نلاحظ اليوم أنَّ بعض المسيحيين ، من انصار مفهوم الخلق اللحضوي ( أي قال الله كُن فكان) ، مضطرون لأن ينفردوا برفض هذه الحقيقة العلمية أو تلك ، أو لأن يتخلوا عن ايمانهم نهائيا .
انَّ التفسير الحرفي لسفر التكوين عن الخلق ، والذي لازال الكثيرون يتمسكون به ، يقود الكثير من المؤمنين الى التعصب ورفض
الحقائق العلمية . ليس الخالق ذلك الكائن الذي يعمل في لحظة البداءة فحسب ” في البدء خلق الله السماوات والأرض”تكوين 1 :1″
إن التفسير الحرفي للكتاب المقدس يتنافى مع روح الكتاب المقدس، ويحرمنا من الفهم العميق له، والكتاب ذاته يقول: “الذي جعلنا
قادرين لأن نكون خدّام عهد جديد ، عهد الروح لا عهد الحرف ، لان الحرف يُميتُ والروح يحيي” (2كو3 :6).
الخالق هو الكائن الذي يخرج بأرادته الخلّاقة كل كائن وفي كل لحظة من العدم الى الوجود ، هو الكائن الذي يسيّر تاريخ الكون والبشر ليس بالضرورة عن طريق مداخلات سريعة ومتكررة ولكن بالأخص بالوجود الذي يمنحهُ ويديمهُ للكائنات بإرادته الخلّاقة وفقا للكيفيات التي يحددها هو وحده .لاتخضع هذه الكيفيات لأهواء الخالق ، لأنّ الخالق يلتزم بالغائية التي يوجه نحوها خليقته وينظمها ، وعلى هذه الشاكلة فأنّه يقدم لنا عالما يمكن فهمه ويشكل هذا العالم السبيل ألأولي للوصول الى معرفة الخالق .
لذا فأنّهُ ليس للمسيحي مطلقا ان يخشى وقوعه في تناقض بين الخليقة والخالق . بل بالعكس نجد الخليقة التي هي خاضعة لفهمنا تعكس لنا نور العقل الخلّاق … والواقع رجل العلم الحقيقي يعترف بوجود حدود لمجال طريقته العلمية . لايستطيع الأنسان أن يصل الى ألأيمان الا اذا بقي حُرّا بعيدا عن ألأستبداد سواء في المجال العلمي او النظري .
وبما ان المسيحي قد الف حضور الله في التاريخ فانه يستطيع ان يتصور التطور البيولوجي وكذلك تطور الكون وكأنّهما مجموعة من الكيفيات التي يسيرعليها الخلق أو كانهما تاريخ الخلق
غير أنَّ التعارض بين الخلق والتطور قد انحسر كثيرا عند المسيحيين حتى لدى ذوي الثقافة البسيطة منهم …في الواقع أنَّ حصر الخلق بعملية لحظوية آنية لم يكن قط من رأي أللأهوتيين بالخالق وبعمله (كآباء الكنيسة ومار توما ألأكويني الخ ..وحتى بعض المزامير ) ، انَّما هو في الحقيقة ثمرة قراءة حرفية جدا للصور الكتابية.(1)
أن الفكرة التي يعرضها سفر التكوين حول خلق الله للعالم – رمزيًا – في ستة أيام، يفتح المجال أمام فكرة خلق تدريجي للكون. ومن هذه الناحية فالكتاب المقدس أقرب إلى النظريات العلمية القائلة بالتطور منه إلى الأساطير الإغريقية القائلة بالعالم الأزلي.
وشرح أن ما من تعارض بين الإيمان والتطور، بل بين الإيمان وبعض الإيديولوجيات المادية التي تعلن بأن المادة وحدها هي موجودة. “إلا أن هذه النظريات ليست علمية بل فلسفية”.
هناك ثلاثة آراء عن علاقة الأيمان بالعلم وهي :
ألرأي ألأول : هناك من ينادي بأنَّ الفكر العلمي خطأ ومرفوض ، وانَّ الفكر الديني القديم هو صواب ويجوز مناقشته .
فهذا الرأي يقول باستحالة التقريب أو اجراء المصالحة بين المقاربة الدينية والمقاربة العلمية واستحالة التوفيق بينهما ، وإنَّ التناقض القائم بينهما جوهري وأبدي .
واصحاب هذا الفكر ، يعيشون في قوقعة بعيدا عن الواقع . ففي نظرهم أنَّ الفكر الديني يحارب العلم . وتاكيدا لهذا الفكر الديني ألأصولي ، قال أحد قادة الدين :
“دعو العقل يتعقَّل بأن يخضع للفكر الديني أيٍّ كان ” . بدون شك أنَّ من يتبنون هذا ألأتجاه يغيّبون العقل ويحتقرون المنهج العلمي .
الرأيْ الثاني : هناك من ينادون أنَّ العلم الصحيح والدين الصحيح يلتقيان ، وهؤلاء يخلطون بين منهجين لاعلاقة للواحد منهما بالآخر
هؤلاء لا يرون في العلم والأيمان أيّ تناقض ، وهم يمارسون أعمالهم وتجاربهم وأبحاثهم العلمية في نفس الوقت لهم ايمان راسخ بالخالق . ، فاصحاب هذا الرأيي ينادون بأنّ الدين يساند العلم ، ومتى حدث خلاف فالتصالح بينهما ممكن . وهذا أيضا ليس صحيحا دائما .
الرأيْ الثالث وألأخير : هناك من ينادون بأنَّ الفكر العلمي مستقل كُلّيّة عن الفكر الديني ، فالفكر العلمي يرتبط بمنهج دراسي ، والفكر الديني يرتبط بالأيمان المباشر بالله وبعلاقة ألأنسان بربِّه وبالآخر ، هؤلاء يسمحون للعلم أن يتقدم ولا يخلطون بين العلم والدين ، وهذا الفريق يرى ، أنَّ للدين دورا في استخدام البشر للوسائل العلمية والتكنولوجية ، فلا يجوز ، استخدامها لألحاق الضرر بألأنسان ، بل لخدمة ألأنسان ، وتحقق سعادته ، ومن هؤلاء من يحاول أن يجد مفاهيم جديدة للفكر الديني في علاقته بألأنسان في عصر ألأستنارة العلمية . أصحاب هذا الرأيي يتقبلون النظريات العلمية في مجالات الكونيات والفيزياء الفلكية والبايلوجيا والكيمياء والطب …الخ ويفهمون مضامينها ولايجدون فيها تناقضا مع الوحي ألألهي والأيمان الذي تلقوه . وكلِّ ما يحقِّقه العلم من اكتشافات و أنجازات ونتائج تقود حتما الى الأيمان .
فالنزعة التوافقية أو التطابقية بين العلم والأيمان ، لدى هؤلاء وأيمانهم بأنّ انجازات العلم ونتائجه ، يسيران بخط متوازي مع ألأيمان ، للبحث عن الحقيقة .
ومن الذين يقفون مع الرايْ الثالث هو العالم الفرنسي”تيار دي شاردن” الذي يقول:
“مهما تكن التطورات العلمية مسيطرة على المادة وعلى تحويل القوى الحيويّة ، فما علينا أن نخشى بان هذا التقدم سيحملنا دائما ، وبشكل منطقي ، الى أن ندع جانبا نوابض الجهد ألأخلاقي والديني . لكن علينا أن نتأكَّد أنَّ ذلك التطوُّر سيكون لتقوية تلك النوابض ودعمها “.(2)
قبل الدخول الى شروحات سفر التكوين الفصول الثلاثة الأولى علينا ان نعرف مقدما الحقائق التالية عن الأيمان ومقارنته بالعلم
والعقل:
أولا : الأيمان والعلم
يقول احد اللاهوتيين: “-الكتاب المقدس هو كتاب دين، أي أن الهدف منه ليس هدفاً علمياً ولا فلسفياً ولا تاريخياً. لذلك فهو لا يحاول أن يشبع فضولنا في شرح الحقائق العلمية وفي كشف الأسرار المخفية. والمقصود بأنه كتاب دين هو أنه كُتب لكي يحدّثنا عن العلاقة بين الإنسان والله، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان والكون…، وعن مصير الإنسان النهائي، فهدفه هو “لماذا” خُلقت الأشياء والإنسان والكون؟. أمّا العِلم فهو يبحث عن “كيف” خُلقت وكيف تكوّنت الأشياء والإنسان والكون ؟، ومن ثَمَّ فلكل منهما مجاله الخاص فالعلم لا يستطيع أن يدعي وجود أو عدم وجود الله، لأن الله خارج مجاله، وكذلك الدين لا يستطيع أن يدعي بأننا لسنا في حاجة إلى العلم لأن الإنسان في حاجة دائمة إلى معرفة: لماذا؟ وكيف؟، وإلا أضحت معرفته عرجاء ناقصة”.
– من جهة أخرى يجب أيضا أخذ “الكوسمولوجيا” (علم الكون ) بعين الأعتبار وما كانت عليه معرفة الكون في ذلك الزمن (زمن تأليف الكتاب )في تفاصيليه . ومثال على ذلك قضية العالم “غاليليو” الذي اثبت دوران الأرض حول الشمس في حين العلماء والكنيسة ، في زمنه ( القرن السابع عشر ) كانوا يعتقدون ان الأرض هي مركز الكون والشمس تدور حولها .إنّ مقاربة العالم انطلاقا من التطور قد قلب رأسا على عقب صورة عالم ثابت . فإذا كان لكل جيل ، بفضل تقدم المعرفة ، نظريته الجديدة (الأنفجار الأعظم بك بنك قبل حوالي 14 مليار سنة على سبيل المثال ). هذا يقودنا الى انه ليس بوسع أي نموذج علمي او ديني ان يتطابق مع البداية المطلقة .(3)
يقول العالم جون لينكس
-العلم لايستطيع بالمحسوسات ألأختبارية ان يبرهن وجود الله بمعادلات رياضية او تجارب مختبرية . ولكن يستطيع من خلال نتائج الأكتشافات العلمية ، ان يصل الى يقين بوجود مصمّم لهذا الكون والخلائق ..العالم الملحد يقول :العقلانية تأتي من اللاعقلانية ، والعقل يأتي من المادة ، وحتى معالجة المعلومات في الخلية الحيّة ظهرت من خلال قوانين الطبيعة . بينما تفسيرالكتاب المقدس هو:
“في البدء كان الكلمة(يوحنا 1 :1) ، وكان اللوغز(الكلمة) ، والأنسان اصله من الله وهو صورة الله ومثاله على الأرض (تكوين 1 :27 ).وهو ابن السماء (روحيا ) وإبن ألأرض (ماديا) .لأن الأنسان روحٌ وجسد ولا يمكن فصلهما ، وهذا منطقي تماما ..فالمؤمنين بالله يقولون بان سبب قدرتنا على تلقي العلوم وفهمنا المحدود لعمل الكون هو أنّ الله الذي خلق الكون هو المسؤول عن نشأة عقل الأنسان من الأساس.. إنّ القصة القديمة للعلم هي المادية العلمية للعلم ، التي تنادي بأنّ المادة وحدها هي الموجودة ،وإنّ كل الأشياء يمكن شرحها من خلال المادة وحدها” هذا ما يعتقد به العلماء الماديين وهو الفكر “الوجودي” .
بينما المؤمن بالخالق يعطي جوابا على الأسئلة المحفورة في ضمير (الوجدان ) البشري . على ألأرض ، نحن لسنا وحدنا ولم نسقط هنا بطريق الصدفة و لا بالخطأ ، كما أنّنا لسنا فضالة أيضا . نحن نؤمن بأن التصميم الألهي يرمي الى جمع شمل كل البشر بابنه الحبيب يسوع المسيح (الكلمة) .لأنَّ كُلِّ شيء قد خُلق به وله و“كُلّ شيء يثبت فيه “ وكل شيء به كون ، الكائنات المنظورة وغير المنظورة (الرسالة الى اهل قولسي 1 :16 ،17) . المسيحيين يؤمنون بانّ الله الآب خلق كل شيء بإبنه الذي هو الحكمة ألأزلية .(4)
-إنّ العلم لايستطيع مناقضة الكتاب المقدس ، لأنّ الخالق هو مصدر العلم والوحي . ومن ناحية أخرى ان حقيقة الوحي تبحث في اللامنظور ، في حين ان الحقيقة العلمية تبحث في الكون المنظور .ومهمة العلم هو عرض كيف ومتى ؟ ولا يستطيع ان يجيب على أسئلة : من اين ولماذا ؟ . فعلى سبيل المثال الكتاب المقدس وحده يستطيع ان يجيب عل ألأسئلة التالية : من خلق العالم ؟ ولماذا ؟ومن اين اتى الأنسان وما هو مصيره ؟ ومن اين يأتي الشر؟ والألم ؟ والخطيئة ؟ والموت ؟
فسؤال لماذا ؟ ليس من اختاص العلم بل هو من اختصاص اللاهوت ، بينما سؤال كيف ؟ فهو من اختصاص العلم . فمثلما توجد قوانين فيزيائية تحكم العالم الطبيعي ، هناك أيضا قوانين روحية تحكم علاقتنا بالله الخالق.
. لذلك كان من المستحسن أن نميّز ، ومن دون تضاد ، بين لغة الأيمان التي تهدف الى الجواب عن “لماذا “ (البحث عن معنى ) وبين لغة العلم التي تسعى الى تفسير الكيفية (تداخل الأسباب).
فلا يحق للمؤمن ان ينكر ما توصل اليه العلماء استنادا الى الدين، ولا يحق للعلماء انكار معطيات الدين استنادا الى العلم . فعلى سبيل المثال يعلّم الكتاب المقدس ان الله هو الذي خلق الكون وجميع الكائنات وما يرى وما لايرى . وأما العلم فيقول ان الكون بدا بانفجار عظيم قبل حوالي 14 مليار سنة . لا تناقض بين التاكيدين لان المهم ان الكون هو نتيجة قرار الخالق بغض النظر ان كان الخلق مباشرا او غير مباشر. لاجدال أنّ العلم يعلّمنا أشياء مهمة كثيرة عن العالم الطبيعي . لكن السؤال الحقيقي هو : هل هذه الأشياء هي أدلّة تشير الى أي آخر أبعد منها؟ الأجابة كما يقول العالم ” ستيفن مير “: نعم . فالعلم يعلمنا أشياء حقيقية ، وبعض هذه الأشياء الحقيقية تشير الى الله.
فرواية خلق الكون في سفر التكوين الأصحاح الأول والثاني هي رواية لايهتم الكاتب كيف خُلق الكون ولا زمن خلق الكون بل يوصّل أفكار جوهرية وجودية أساسية بطريقة رواية وبطريقة خبرية لينقل الصورة لخلق الكون . فالخبر ليس الّا اطار اسطوري قصصي . والحقيقة لاتكمن في الروايا . ولكن الحقيقة موجودة بمعاني الرواية . مثال اذا ناقشنا خبرخلق الكون والحياة والأنسان في 7 أيام او 7 مليارات سنة نحن هنا نخلط “خارج الأستكان “ كما يقول المثل الشعبي
ففي نفس الوقت يمكن ان يكون الأنسان مؤمنا وعلميا ، كما يمكنه أيضا ان يكون غير مؤمن . فالعلم في حدّ ذاته ، ووفق طروحاته الخاصة لايبعدنا عن الله وقد لايقودنا اليه .إنّه من مستوى آخر.(5)
الأسئلة الوجودية المتعلقة عن “الخلق” و”الحياة ” و”الموت” لافائدة من البحث عنها في موسوعة علمية عمّا إذا كان هناك إله او حياة بعد الموت . كذلك فإنّ الموسوعة العلمية لاتدلّنا الى الطريقة التي يجب علينا أن نعيش بها حياتنا لكن تساعدنا على تشكيل حكمتنا الخاصة عن الحياة .
” لماذا ينوجد شيء ما بدلا من لاشيء، ولماذا أوجد هذا الشيء ما الحياة والوعي والعقل والذكاء والتفكير؟ كل محاولات العلماء للإجابة على هذه الأسئلة باءت بالفشل(لأنها أسئلة وجودية ليست من اختصاص العلم الأجابة عليها).(6)
راجع كتاب عالم صوفي للكاتب جوستاين غردر
-لايستطيع العلم الأجابة على سؤال لماذا هذا الكون موجد ؟ او لماذا خُلقنا؟ ومن أين أتينا؟ ولماذا نعيش ؟ ولماذا نموت؟ . العلم هو تحليل لواقع موجود لايعرف شيء عن ما قبل الوجود . فالوجود له قوانين طبيعية فيزيائية وله بداية في الزمن ويستطيع العلم أن
يحلل كيف تطور الكون وتطورت الحياة ولكن لايستطيع ان يعرف مصدر الكون او مصدر الحياة ، او بمعنى اخر من اوجد الكون والمادة والحياة . بينما الوحي الألهي والأيمان يعطيان المعنى لكل شيء لأن هناك سبب(علّة) لهذا الوجود والله الخالق هو السبب ، لأنَّ الله ازلي لا متناهي (ولايخضع للزمان والمكان وقوانيننا الطبيعية ) قادر على ان يخلق الكون ويطوره .
ثانيا : العقل والأيمان
يقول العالم “جون لينكس”
اليونانيّون توصَّلوا الى الله عن طريق العقل (ومنهم افلاطون) وقالوا يجب ان يكون هناك مُثل عليا مصدر كلِّ المثل في العالم ، ويجب ان يكون هناك مهندس للكون (ومنظّم ) وخالق وهو جميل وهو الحقيقة المطلقة . ولكن لايمكن فهم الحقائق الألهية دون الأيمان وعيش هذا الأيمان بعلاقة مع هذا الخالق وليس فقط المعرفة عنهه” انتهى الأقتباس
كتب المستشرق الكبير ماسينيون : ” الله إكتشاف وليس إختراعا” .بينما يدَّعي ماركس بأنَّ ألأنسان خلق الله على صورة أمانيه . ولكنه لم يوضِّح لنا من أين للأنسان المحدود هذه ألأماني اللامحدودة؟ . من أينَ هذا العطش إلى ألأبدية؟ .
“ألألحاد يجاوب على سؤال هام ألا وهو كيف تنشأ فكرة الله؟ ولكنه لايستطيع ألأجابة على السؤال ألأهم ألا وهو لماذا تظهر هذه الفكرة (فكرة ألأيمان بالله) في ألأنسان ” ؟(7)
يقول البابا يوحنا بولس الثاني عن موضوع العقل والأيمان :” إنّ الله ، بوصفه ينبوع حُبّ ، يريد ان يُعرّفنا ذاته وما يحصله ألأنسان من معرفة الله يساعده في استكمال كل معرفة أخرى تتعلق بمعنى وجوده . العقل لوحده لايستطيع كشف سر الله ،لأن هناك حتى اسرار كونية لايستطيع العقل كشفها ولكن يؤمن بها . المجمع الفاتيكاني الأول يعلّمنا أنّ الحقيقة نحصلها عن طريق “الفكر الفلسفي”
والحقيقة الصادرة عن الوحي الألهي . وهما لايختلطان والواحدة لاغني عن الأخرى . صنفان من المعرفة متميزان ليس من حيث المصدر فقط بل من حيث الموضوع أيضا .اما من حيث المصدر ، فلأنّ المعرفة الأولى (الفكر الفلسفي ) تتوسل العقل الطبيعي . وامأ الثانية (الوحي الألهي ) فتعتمد ألأيمان الألهي للوصول الى المعرفة. وأمأ من حيث الموضوع ،فلأنَّ هناك ما يتخطّى الحقائق التي يستطيع العقل الطبيعي أن يحصّلها ، وهو مجموع ما يقدّمه لنا ألأيمان من :أسرار مطويّة في الله تعجز عن معرفتها إذا لم يكشفها الله لنا ، والواقع انّ الأيمان المرتكز على شهادة الله والمدعوم بالنعمة العلوية هو من غير مستوى المعرفة الفلسفية …..بينما ألأيمان الذي يستنير ويهتدي بالروح فهو يجد في بشرى الخلاص (ملئء النعمة والحق) ، ” والكلمة صار بشرا وعاش بيننا فرأينا مجده ، مجدا يفيض بالنعمة والحق “(يوحنا 1: 14) ، الذي أراد الله ان يكشفه لنا في التاريخ وبطريقة حاسمة بابنه يسوع المسيح ،
الذي كشف لنا “سرّ الله “ أي نور الله في وجه يسوع المسيح . وهذا الكشف عن الله في التاريخ يتميز بطابع خلاصي .(8)
يقول الأب “بولس الفغالي ” في موضوع “ألأنسان بين العقل والأيمان”:
اذا اخذنا الشرق سنكتشف انّ من خلال الطبيعة يكتشف ألأنسان الله ولكن لايكون الاّ بالوحي .الوحي هو نعمة فريدة من الرب يأتي الى الشخص يختاره الله ، والشعب العبراني، في العهد القديم ، اكتشف الآله الواحد وبعد المنفى اصبح اله واحد وتركوا الآلهة الأخرى
السؤال المطروح ، كيف تهيأ العقل البشري لأكتشاف الله ،أي انّ هناك من تكلم عن الحقيقة قبل المسيح ؟
هناك ثلاثة أمور :
1 – المستوى الحسي ، حيث الأنسان وجد البحر والشمس والقمر . وجد انّ الأنسان يزول (يموت) ولكن الشمس والقمر والنجوم باقية ، هذه القوى الخفية ، فكان ذلك سبب عبادة الأنسان لقوى الطبيعة (الشمس والقمر والنجموم).
2 – المستوى الثاني ، بدأوا يطرحون السؤال العقلي . العقل اليوناني انطلق من الداخل ، مثال ارسطو انطلق من الحياة الداخلية ليصل الى المحرك الأول أي هناك مثال والكل يأخذ منه .
العالم الشرقي لم ينطلق من العقل بل من الوقائع المحدودة مثل فيضان نهر دجلة والخراب والحروب حيث الباب*لي*ون دمّروا المدن. أي هناك قوى الشر في الطبيعة
في بلاد النهرين (العراق حاليا) اكتشفو “مردوك “ الذي أوقف عالم الشر في الكون وهذا الإله جعل الترتيب والنظام ، وعنه أُخذ العهد القديم ” في البدء خلق الله السماء …وفصل النور عن الظلمة “
انطلقوا عن تركيب الكون ، الوحي هو الذي قال لنا ، لولا الوحي لا احد يستطيع ان يقول . وبهذا الوحي استطعنا تحديد العلاقة بين الله والأنسان . ومن خلال يسوع المسيح يريد الله ان نصبح عائلة واحدة.
نعم الكتاب المقدس (العهد القديم) هو خلاصة الفكر الشرقي على ضوء الوحي .ألأنسان يجب ان يعمل قفزة (بالوحي) ليصل الى الله بالأيمان وليس بالعلم.
العهد القديم ينطلق من الواقع حيث انّ الأنسان أراد ان يتكلم عن الخلق . الوحي تَدَخَّلَ واخذ تصاوير وعبارات عن الحضارات ولكن نقّاها . الكتاب المقدس ليس مُنزّل ليس كحرف ،انا استخلص منه المعنى الروحي مثال :اشعيا النبي نال الوحي ولكنه عبّر بكلمات البشر . فعندما نقرا نص اشعيا النبي نصل الى الوحي ولا ناخذ حرفيا اقوال اشعيا .
هكذا نص سفر التكوين يجب ان ننطلق من الحرف لنصل الى الروح أي ننطلق من التفسيرالحرفي لنصل الى التفسير الروحي . (وهذا ماقاله يسوع لرجل الدين اليهودي نيقاديمس : ان لم تولد من الماء والروح لن تدخل ملكوت الله).(9)
——————————————————————————————————-
المصادر
(1)
كتاب لمجموعة من العلماء واللاهوتيين “الخلق والتطور …حوار بين العلم وألأيمان”
(2)
كتاب “العلم والمسيح” تيار دي شاردن
(3)
الأب بولس الفغالي تفسير سفر التكوين
(4)
(راجع كتاب الصراع بين الأيمان والألحاد العلمي للعالم جون لينكس).
(5)
كتاب “القضية … الخالق ” للكاتب لي ستروبل
(6)
كتاب “عالم صوفي ” للكاتب جوستاين غردر
(7)
كتاب اللاهوت الدفاعي لنخبة من المؤمنين
(8)
كتاب العقل والأيمان للبابا يوحنا بولس الثاني
(9)
بولس الفغالي في برنامج “المنبر الحر” على قناة النور مع جورج رحمة في 21-11 2003