آراء متنوعة

ثورة السودان لا تقاد بالشهادات

ثورة السودان لا تقاد بالشهادات

انحياز صارم للمهمشين
منذ أن بزغ فجر ثورة ديسمبر، تسلل إلى المشهد خطاب جديد حاول أن يُؤطِّر الثورة داخل مفاهيم مستوردة، لا علاقة لها بتضاريس الواقع السوداني ولا بأعماقه الثقافية والاجتماعية. ساد الاعتقاد بأن المرحلة الانتقالية لا تليق بها إلا أسماء من حملة الشهادات العليا، وذوو الخبرات الدولية، والمتقنون للغات أجنبية. تهافتت الأحزاب والكيانات السياسية على تقديم مرشحين بسير ذاتية لامعة فيها دكتوراه من أوروبا أو منصب سابق في الأمم المتحدة أو ورقة بحثية في مؤتمر عالمي. بدا الأمر كأنه مزاد مغلق للنخبة يُدار بلغة لا يفهمها الشعب الذي صنع الثورة.

هذا الاتجاه لم يكن فقط انفصالا عن نبض الثورة بل كان نكوصا عن جوهرها. فالثورة السودانية لم تكن ثورة مطالب ناعمة قابلة للتفاوض في المكاتب بل كانت تمردا عنيفا على عقود من الظلم والتمييز والتهميش. خرجت من الأحياء الشعبية، من أطراف المدن، من معسكرات النازحين، ومن أحلام الشباب الذين ولدوا في ظل القمع الإسلامي ولم يعرفوا يوما معنى الاستقرار أو العدالة. ولذلك، فإن محاولات تطويع الثورة لتناسب مقاسات النخبة لم تكن إلا ضربا من خيانة فكرية لما خرج الناس لأجله.

نحن لا نحتقر الشهادات ولا نُقلِّل من شأن الكفاءات، ولكننا نرفض أن تُصبح الأكاديمية وحدها مرادفا للوطنية، أو أن تكون اللغة الأجنبية أكثر قيمة من القدرة على الإنصات لهموم المواطن. ما قيمة وزير يتقن خمس لغات، لكنه لا يفهم لغة الفقراء؟ ما جدوى مدير سابق في اليونيسيف إذا كان عاجزا عن النزول إلى سوق شعبي وسماع الناس؟ بعض من وُصفوا بالتكنوقراط كانوا أكثر بُعدا عن الثورة من أيِّ موظف نظامي سابق. تدرّبوا على التحفظ، وانغلقوا على البيروقراطية، وتكيّفوا مع ثقافة تجنب الصدام، بينما الثورة هي فعل مواجهة، وهي انحياز صارم للمهمشين.

◄ الثورة السودانية في حاجة اليوم إلى من يُعيدها إلى جذورها، من يُجدد عهدها مع الشارع، من يُوقظ شجاعتها بعد أن نال منها التكنوقراط وأفرغوها من مضامينها

التغيير الحقيقي لا يأتي من أعلى بل من قاع المعاناة. من جرّب التشريد يعرف كيف يُدار ملف النازحين. من سُجن بسبب رأيه يفهم معنى الحريات. من عاش التهميش لا يحتاج إلى تقرير تنمية بشرية ليشعر بالوجع العام. هؤلاء هم الذين تُبنى بهم الثورات. لا في شكلها الرومانسي، بل في معناها النضالي، اليومي، المتجدد. ولذلك، فإن من الخطأ أن نقيس أهلية القيادة بثقل الشهادة، بدلا من أن نقيسها بعمق الالتزام الأخلاقي والنضالي بقضايا الثورة.

الثورات لا تحرسها العقول وحدها بل تحرسها القلوب المشتعلة بالأمل والأجساد التي تحملت القهر والأصوات التي هُدّدت بالسلاح لكنها لم تصمت. حين نقول إن على النازحين والمهمشين أن يتسلموا زمام المبادرة، فإننا لا نطلق شعارا عاطفيا بل نطرح رؤية لعدالة تمثيل غائبة. لماذا يكون أبناء الخرطوم وحدهم في الوزارات بينما من دفعوا الثمن الأكبر للحرب والإقصاء في الأطراف؟ لماذا يستأثر المركز دائما بصناعة القرار؟ الثورة التي لا تُعيد توزيع السلطة على أساس المشاركة الحقيقية، تفقد مصداقيتها مهما حسُنت نواياها.

اق*ت*لاع الحركة الإسلامية لا يتم فقط بتغيير القوانين أو تفكيك التمكين الإداري، بل يتطلب تفكيك منظومة كاملة من الوعي الزائف الذي زرعته في المجتمع. هذا الوعي لا يُجابه بالتقارير الفنية بل يُجابه بمن عرف كيف اشتغلت ماكينة الخداع، بمن صمد في وجه غسل الأدمغة، بمن خاض المواجهة مع سلطة كانت تمتلك كل شيء، لكنه امتلك الإيمان. من واجه الموت من أجل ألاّ تُحكم البلاد باسم الله زورا، هو الأجدر بأن يُحكم له اليوم باسم الشعب.

أما الذين لا يزالون يظنون أن الثورة شأن نخبوي، وأن التغيير لا يصنعه إلا من جلسوا في مؤتمرات السياسة العالمية، فهم ببساطة لم يفهموا معنى الثورة. الثورة ليست حدثا تقنيا، بل وعي متراكم، وذاكرة جماعية، وجراح مفتوحة، ومطالب شعب لن يغفر لمن حاول ركوب الموجة دون أن يكون من صانعيها. لقد آن الأوان أن يُفسح المجال لوجوه جديدة، لا تملك ألقابا أكاديمية، لكنها تحمل مصداقية لا يملكها أصحاب الشهادات. آن الأوان أن نسمع لنساء فقدن أبناءهن، لشباب فقدوا أحلامهم، لكبار سن شُرِّدوا، لصغار لم يعرفوا الطفولة. هؤلاء هم صانعو التاريخ الحقيقي.

الثورة السودانية في حاجة اليوم إلى من يُعيدها إلى جذورها، من يُجدد عهدها مع الشارع، من يُوقظ شجاعتها بعد أن نال منها التكنوقراط وأفرغوها من مضامينها. فليتقدم من عاشها، ولينسحب من زاحمها بسيرته الذاتية دون روح.

الثورة لا تديرها السيرة الذاتية، بل ضمير حي، ويد نظيفة، وقلب لا يخشى الوقوف في وجه الظلم.

د. عبدالمنعم همت
كاتب سوداني مقيم في الإمارات

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!