الحوار الهاديء

لم تعدْ ثورة جياع بل ثورة كرامة وطن وشعب

لويس إقليمس

لويس إقليمس     

 

لم تعدْ ثورة جياع بل ثورة كرامة وطن وشعب

لويس إقليمس

بغداد، في12 كانون أول 2019

أفرزت الانتفاضة التشرينية بأصالتها العراقية وبامتياز، شرائحَ على قدرٍ كبير من الوعي السياسي والمجتمعي والاقتصادي، بعد أن حاولت جهات مدسوسة وحانقة إلصاق تهمة البحث عن فتات الأسياد الفاسدين الذين ظلموا شعبهم لسنوات عجاف. وهؤلاء الفاسدون والمفسدون “سيعلمون أيَّ منقلبٍ سينقلبون” في وقت حالكٍ لن يُتاح لهم حتى لملمة ما تبقى لهم من حاجيات وأوراق ووثائق تدينهم، هُم ومَن والاهُم وسارَ في طريق الشرّ والفساد والظلم الذي ساروا عليه منذ سقوط الوطن بأيدي شلّة أعماها الفساد ورذيلة نهب المال العام وسرقة حقوق الشعب بأساليب ووسائل لا يقبلُها أيّ دين أو مذهب أو مجتمع فيه ولو شعرة من الضمير والوجدان الوطني. ولا ينطبق على الشلّة الحاكمة من أحزاب السلطة التي ماتزال متمسكة بتلابيبها عبر وصفات الجرم المشهود بالعن*ف والاعتقال والتعذيب والقهر والتهديد والخطف والاغتيال إلاّ وصفهم بأتباع مذهب الشياطين الذي اختطّه زعماء الكتل والأحزاب لتثبيت مواقعهم غير المرغوب بها من قبل الشعب الذي نادى بأعلى صوته: ” كفى! ارحلوا يا طبقة الفساد واللصوصية والنهب والق*ت*ل”!

لقد فاجأ الشباب الثائر في ساحات التظاهر والاعتصام من بغداد إلى البصرة، العالمَ بقدراتهم الثورية النابضة بالحيوية والفكر المستنير والصحوة الوطنية بحب الوطن والحرص الشديد بمواصلة سلميّتهم عندما طالبوا بعودة الوطن المسلوب إلى أهله الشرعيين، إلى شعب العراق الأصيل الذي ثخنت جراحاتُه وسُلبت مواردُه وأهينت قاماتُه وغُيِّبت طاقاته وعُطِّلت صناعتُه ووُئدت زراعتُه بسبب غياب الوازع الوطني والحرص السياسي لإدامة بقاء الوطن حرًّا منيعًا وغير تابعٍ للأجنبي الطامع. فمَن يتابع تصريحات ومداخلات وآراء المحتجين من شباب الثورة عبر الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، يُدرك حقًا قمّة الوعي الوطني الذي بلغته هذه الشريحة المنتفضة ضدّ الظلم والفساد واللصوصية في زمن الديمقراطية الطارئة المنقوصة. وهذه الشريحة النامية إذ تسجل ثلث النسبة السكانية الحالية، فهي بسبب هذا وذاك تستحق كلّ تقدير واحترام للإنصات إليها وتلبية مطالبها من دون تردّد ولا تأخير. ونتيجة للوعي المتزايد بالحفاظ على سلمية التظاهرات والاحتجاجات، جاء تحذير تنسيقياتها الحريصة على حياة المحتجين عبر منع جهات مجهولة ومدسوسة من محاولة اقتحام طائشة للمنطقة الخضراء دليلاً آخر على وعي شباب الانتفاضة ويقظة مَن يتولى تنظيمهم، بحث وُئدت المؤامرة في عقرها ونُسفت كلّ التحضيرات والتجهيزات التي استعدّت لها ميليشيات السلطة بهدف إطلاق مجزرة أخرى بحق المقتحمين المفترضين ومن ثمّ إسدال الستار على الثورة الشعبية السلمية، كما خططّت له جهات شيطانية لها باعٌ وخبرة بقمع الثورات.

إن هذه الروحية العالية بحب الوطن والنابعة من جوهر الوجدان العراقي الأصيل كان لها تأثيرُها الكبير على شرائح كثيرة في أوساط المجتمع، من عشائر ومثقفين وأكاديميين ومحامين ونقابات على تنوعها علاوة على الدعم اللاّمحدود من شخصيات سياسية ومستقلة من خارج الحدود، إشادةً بالوعي الكبير للمنتفضين وهُم يسطرون ملاحم البطولة بصدور عارية بوجه الرصاص الحيّ لطغمة الفساد التي غادرها الخجل والحياء والضمير طيلة سطوة الحكومات الشيعية المتعاقبة منذ السقوط في 2003. ولن يستكين صوت الشباب الثائر أو يصمت مهما حاول زعماء الكتل وأحزابُ السلطة تقديم جرعات تخديرية من إصلاحات ترقيعية غير مجدية لا تغني ولا تسّمن. كما أنّ الاحتجاجات لن تتوقف وتيرتُها حتى تحقيق جميع مطالب الشعب التي تجاوزت مرحلة المطالبة بالقوت الآدمي والوظيفة المحترمة التي يستحقها كلّ مواطن، سيّما وأنّ سياسيّي السلطة المرفوعة عنهم شرعيتُهم من قبل الشعب المنتفض لم يصحوا بعد من غفوتهم وحالة أحلام اليقظة التي مازالوا يتقيدون بها ويوهمون النفس بقدرتهم على إقناع الشعب والشباب منهم بصورة خاصّة بالعودة إلى منازلهم وأعمالهم، وكأنّ شيئًا لم يكن!

من هنا، ليس من الممكن ولا من المعقول إسدالُ الستار بهذه البساطة عن ثورة شعبية انتفض فيها شعبٌ بشبابه وشيبه، بذكوره وإناثه، بنسائه ورجاله وهم يطالبون بعودة وطن مسلوب وبحقوق مشروعة من أمن وخدمات ورفاهة يستحقها كلّ مواطن عراقي. وهلْ من السهولة طيّ صفحة الدماء الزكية التي أُريقت على أيدي نظام فاشيّ بحكومة ق*ت*لت شعبَها بهذه الخسّة وهذا الحقد واستخدمت أسوأ أشكال العن*ف والق*ت*ل والخطف والتهديد والقوة المفرطة بحق متظاهرين سلميّين طالبوا برحيل طغمة فاسدة أتت على ثروات البلاد وأفرغت خزائنَه وسرقت أموالَه لصالح اتباعها وأحزابها وكتلها ومَن ينتمون إليها ويأتمرون بأوامرها من خارج الحدود؟

شهادة أمميّة  

لقد وعى العالم أجمع لما يجري من ممارسات إجرامية غير أخلاقية ولا وطنية بحق شباب عزّل أرادوا لثورتهم أن تبقى سلمية حتى تحقيق النصر وتلبية المطالب المشروعة بالعيش في كنف وطن آمنٍ يحترم مواطنيه ويمنح لهم حقوقهم الوطنية بخدمات آدمية وأمن واستقرار. ونظرًا لاستخفاف السلطة الحاكمة بهذه المطالب المشروعة في بداياتها وتعقيد المشهد في تطورات لاحقة، فقد ازدادت المطالب ولن يرضى الشارع بعد اليوم إلاّ برحيل لفيف الطبقة الحاكمة ومغادرة أحزاب السلطة وحلّ ميليشياتها وإنهاء دور ذيول الجارة إيران التي أرادت من هيمنتها على العراق كي يكون رئة تتنفس منها للتخفيف عن العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي بدأت تُؤتي ثمارَها حين انتفض شعبُها هو الآخر على فساد حكومة ونظام ولاية الفقيه بعد سقوط المقدّس فيها. فالعن*ف المفرط ضدّ متظاهرين سلميين كان ومازال موقع إدانة واستنكار من المجتمع الدولي ومن دولٍ غربية أعربت عن سخطها واستيائها ومخاوفها من مواصلة أجهزة القمع المنفلتة الخارجة عن القانون بحق المتظاهرين.

بهذا الصدد، هذا أكدته ايضًا ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة جينين يلاسخارت في تقريرها الصارخ أمام مجلس الأمن يوم الثلاثاء 3 كانون أول 2019، وفيه تطرقت بصراحة إلى حقيقة وجوهر حُكم أحزاب السلطة وسطوة ميليشياتها المنفلتة الخارجة عن سيطرة أجهزة الدولة التي تعيث في بلاد وادي الرافدين فسادًا بلا رقيب ولا حسيب وتمارس أشكال القمع والق*ت*ل المتعمد والاختطاف والاحتجاز التعسفي على أيدي رجال مسلحين ملثمين مجهولين. كما كان لزيارتها قبل ذلك في جولتها الاستطلاعية المشهورة لموقع التظاهر في ساحة التحرير أثرُها في نفسها حين تكشفت الصورة لما يجري فيها وعليها بلقائها مع نماذج من المتظاهرين الذين أكدوا لها “حاجتهم لوطن” يشعرون فيه بأمان ويعيشون على أرضه حياة تليق بشعبٍ له ماضٍ مشرّف والاستفادة من طاقاته وموارده بهدف مغادرة حياة الفقر والجوع والحرمان التي حصرهم فيها ساسة الصدفة منذ السقوط في 2003 بدعم الغازي الأمريكي. وفي آخر تقرير للبعثة الأممية أشارت فيه صراحة إلى “استمرار ارتكاب اعتداءات وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك انتهاكات للحقوق في الحيا ة والسلامة البدنية والحرية والأمن الشخصي وحرية التجمع السلمي وحرية التعبير”.

كما كان لشهادة رئيس إبرشية الكلدان في أربيل المطران بشار وردة لجلسة مجلس الأمن المذكورة، وقعُها الكبير في صفوف الحضور بتأكيده على حق المواطن بالعيش في دولة مدنية تحترم كرامة الإنسان وتضمن له الحياة وفق مبدأ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص للجميع. فيما شدّد أيضًا على “حقيقة الدلالات الكبيرة التي منحها الشباب في قيادة التظاهرات بوجود إرادة وطنية صادقة للفوز بوطن مستقلّ ومتحرّر من أيّة تدخلات خارجية بحيث يعيش المواطن في بلدٍ يحترم التعددية وكل مكوّناته”، مع تأكيده بتأييد المسيحيين وسواهم من المكوّنات المهمّشة لهذه التظاهرات أملاً بتغيير النظام السياسيّ الفاشل القائم.

أمام هذه الشهادات التي نقلت صورة حية عن واقع الحياة بعد 2003 في العراق، وما تعرّض له الوطن من انتكاسات وإخفاقات وتداعيات، وما طالَ المواطن من خرق واستخفاف بالحقوق وتهجير ونزوح بسبب سلوكيات أحزاب السلطة ومَن يواليها حين أهملت حقوق المواطنة وسعت عوض ذلك للتأبيد والتأسيس لنظام محاصصاتيّ مقيت منذ قدوم ديمقراطية الدجل، كان لا بدّ للمجتمع الدولي أن يتخذ قرارات للحدّ من حالة الانفلات في السلطة وغياب مؤسسات الدولة المدنية. وهذا ما يترقبه العراقيون جميعًا في القريب العاجل كي يأخذ المجتمع الدولي دوره الحقيقي والفاعل بوضع حدّ لحالة انهيار الدولة إلى منزلقات لا تُحمد عقباها، ما يتطلب مراجعة صريحة وجادّة لواقع وطبيعة النظام السياسي القائم الذي أثبت فشلَه الذريع في خلق وطن قويّ لجميع المواطنين وليس لفئة فاسدة وحاشيتها ومَن يدعمها من خلف الأسوار. وكلّنا أمل ببلوغ الحراك الشعبي والشبابيّ مبتغاه قريبًا جدًّا، بالتأسيس لدولة عراقية جديدة بعيدة عن مبدأ المحاصصة الذي اخترعه الغازي الأمريكي بعرفٍ سياسيّ مدسوس وماكر وأوهم الشعب بنواياها الخبيثة. لقد كان الفساد إحدى نوافذ هذا النظام السياسيّ المحاصصاتيّ. وهو يشكل اليوم أهمّ بنود الإصلاح المطلوبة من جانب المحتجين والشعب على السواء. وحينها فقط، سيعود العراق وطنًا سعيدًا وأمنًا للجميع بعد اغ*تصا*به ورهنه من فئات لا ولم تعرف حب الوطن ولم تراعي حاجات أهله، لأنها ببساطة لا تمتُّ لوجدانه وكيانه وتاريخه بأيّة صلة.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!