الرياضة في قبضة السوق الرأسمالية – لوله حميد
لم تعد الرياضة مجرد ممارسة بدنية أو ظاهرة ثقافية تعبّر عن الانتماء والشغف، بل أصبحت اليوم إحدى الأدوات الرئيسية في يد النظام الرأسمالي العالمي. كرة القدم، التي كانت تُعرف بأنها لعبة الشعوب والمحرومين، تحولت تدريجيًا إلى بورصة مفتوحة تتحكم بها الشركات الكبرى والبنوك والمؤسسات المالية. أصبحت الرياضة سوقًا ضخمة لا تقل شأنًا عن أسواق الطاقة أو العقارات أو التكنولوجيا، تدور فيها المليارات، وتُدار بالعقلية الربحية المجردة.
حينما تدخل البنوك إلى عالم الرياضة، فلا يمكننا اعتبار الأمر طبيعيًا أو بريئًا. عندما يموّل بنك مثل “جي بي مورغان” مشروعًا رياضيًا بمليارات الدولارات، فإننا نكون أمام مشهد اقتصادي متكامل، لا علاقة له بروح الرياضة أو أخلاقياتها. هذا التمويل لا يأتي من باب الدعم الثقافي أو المسؤولية الاجتماعية، بل هو استثمار محسوب بدقة، الغاية منه تعظيم الربح وجني العوائد من خلال استغلال جماهيرية الرياضة وعاطفة الملايين.
الأندية الرياضية الكبرى، خاصة في أوروبا، لم تعد كيانات اجتماعية تعبر عن مدنها ومجتمعاتها، بل أصبحت شركات ضخمة تعمل وفق قوانين السوق. هذه الأندية باتت تتعامل مع اللاعبين كأدوات قابلة للبيع والشراء، وتحدد قيمتهم بناء على مردودهم التجاري لا فقط على عطائهم في الملعب. اللاعب لم يعد رياضيًا فقط، بل أصبح منتجًا تسويقيًا، يتم تقييمه بحسب عدد المتابعين له على وسائل التواصل، وقدرته على بيع القمصان، وجذب الرعاة.
حتى الجماهير، التي كانت في الماضي روح الرياضة، لم تعد تُعامل كعنصر فاعل ومؤثر، بل كزبون دائم يجب استهدافه واستهلاكه. يُنظر إلى المشجعين اليوم باعتبارهم أدوات استهلاكية، يتم الترويج لهم، وتسويق البضائع والعروض والعقود من خلالهم، وتحويلهم من محبين أوفياء إلى مستهلكين لا يملكون صوتًا حقيقيًا في قرارات الأندية أو سياسات اللعبة.
المثير في هذا التحول أن الأمر لا يقتصر على التفاصيل التجارية فحسب، بل يمس جوهر الرياضة نفسها. إن تحويل المنافسة من منظومة مفتوحة إلى أخرى مغلقة، تحكمها قوى السوق، وتُقصى منها الفرق الصغيرة أو الفقيرة، يعني نهاية قيم العدالة والتكافؤ التي قامت عليها الرياضة. لقد بات واضحًا أن الهدف من هذا التحول ليس فقط جني الأرباح، بل أيضًا فرض هيمنة اقتصادية وثقافية على اللعبة، تقودها الأندية الغنية، وتديرها البنوك العالمية.
إن الرأسمالية لم تترك مجالًا دون أن تضع يدها عليه، وها هي اليوم تعيد تشكيل الرياضة بما يخدم مصالحها. ما نراه ليس تطويرًا للرياضة، بل تسليعًا لها، وق*ت*لًا لروحها الاجتماعية. الملاعب تحوّلت إلى مسارح للعروض التجارية، واللاعبون إلى علامات تجارية، والجماهير إلى زبائن. لا أحد اليوم يتحدث عن القيم، أو عن الانتماء، أو حتى عن متعة المشاهدة، بل كل شيء يدور حول الأرقام والعقود والأسواق.
هذه الأزمة ليست أزمة كرة القدم وحدها، بل أزمة المنظومة العالمية التي تخضع كل شيء لمنطق السوق. لقد صار سؤال “من يربح؟” أهم من “من يفوز؟”، وتحول الشغف إلى سلعة تُباع وتُشترى، وتحول اللاعب إلى رقم في قائمة استثمارية، وتحولت الرياضة إلى أداة مالية بحتة.
إذا كنا نرغب فعلًا في استعادة المعنى الحقيقي للرياضة، فعلينا التفكير عميقًا في كيفية مواجهة هذا التوحش الرأسمالي. لا يكفي أن ننتقد أو نرفض، بل يجب أن نعيد النقاش إلى جذوره: من يملك الرياضة؟ ولمن يجب أن تكون؟ هل نسمح بتحويلها إلى سلعة، أم نحافظ عليها كمساحة إنسانية وجماعية مفتوحة؟ هذه هي الأسئلة التي يجب أن نطرحها قبل فوات الأوان.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.