الرباط-الجزائر-باريس: مثلث الاضطرابات – أحمد رباص
من جهة أخرى، هناك رياح جليدية وغير متوقعة قادمة من الجزائر. ومن ناحية أخرى، نسيم المغرب الصبور والمنهجي المستمر. في الوسط، تضبط باريس أشرعتها وتختار التيار الأكثر ملاءمة. لم يكن مثلث الرباط-الجزائر-باريس غير متوازن إلى هذا الحد من قبل.
ربما كان قابلا للتصور أن الجهود الأخيرة للتقارب بين فرنسا والجزائر من شأنها أن تؤدي إلى فترة من الهدوء في البحر الأبيض المتوسط. ولكن هذا كان من دون الأخذ في الاعتبار ميل الجزائر إلى تحويل كل حادث إلى دراما دولة، وكل خلاف إلى سبب للحرب، وكل انتكاسة دبلوماسية إلى أزمة وجودية.
الحلقة الأخيرة من حيث التاريخ تحمل كل السمات المميزة للمهزلة السياسية. تم اعتقال موظف قنصلي جزائري في فرنسا في قضية ار*ها*بية مفترضة، والآن الجزائر، مستشهدة بسيادتها المنتهكة، تستخدم كل الوسائل الممكنة: فقد أمرت اثني عشر مسؤولا فرنسيا بمغادرة الأراضي الجزائرية.
ومما لا مبالغة فيه القول إن رد الفعل كان غير متناسب. ومن جانبها، ترفع باريس صوتها أيضاً، ولكنها تحافظ على وهم الحوار. أمر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الثلاثاء، بطرد اثني عشر موظفا قنصليا جزائريا واستدعى السفير الفرنسي في الجزائر ستيفان روماتيه للتشاور. واستنكر قصر الإليزيه “التدهور المفاجئ” في العلاقات الثنائية، داعيا الجزائر إلى “إظهار المسؤولية”. في قلب هذه العاصفة، هناك هدف واضح: برونو ريتيللو. وتتهم السلطات الجزائرية
وزير الداخلية الفرنسي، الذي كان من أشد المؤيدين للخط المتشدد مع الجزائر، بتخريب العلاقات الثنائية. حتى أن وزارة الخارجية الجزائرية وصفته بأنه يتبع “ألاعيب قذرة لأغراض شخصية بحتة”.
ولكن بينما تتجه باريس والجزائر مرة أخرى إلى الخلاف، تعمل الرباط على تعزيز علاقاتها مع فرنسا. أكد وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، الذي استقبل نظيره المغربي ناصر بوريطة في باريس يوم الاثنين 14 أبريل، بوضوح دعم فرنسا “غير الملموس” لخطة المغرب للحكم الذاتي في الصحراء.
وقال إن “دعم فرنسا لخطة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب عام 2007، والتي تحظى بإجماع دولي متزايد، واضح ومتسق. وهذا يُشكل الأساس الوحيد للتوصل إلى حل سياسي عادل ودائم ومتفاوض عليه، وفقا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”. وكان هذا الدعم الذي قدم للمملكة بشأن قضية الصحراء المغربية هو الذي أثار في صيف عام 2024 خلافا بين باريس والجزائر. وبعد ذلك استدعت الجزائر، التي تدعم انفصاليي البوليساريو، سفيرها في باريس، مما شكل بداية لسلسلة طويلة من الخلافات الدبلوماسية، تخللتها محاولات خجولة لتخفيف التوترات.
المفارقة الجزائرية
هذا الموقف الفرنسي لا يترك مجالا للغموض. ويأتي هذا في أسوإ وقت ممكن بالنسبة إلى لجزائر. لأن الاعتراف الصريح بالسيادة المغربية على الصحراء ليس جديدا في حد ذاته. لكنه اليوم يتخذ بعداً رمزياً أقوى، في خضم الأزمة الجزائرية الفرنسية. إنها رسالة خفية موجهة إلى الجزائر: بينما أنتم تطردون، فإننا نبرم تحالفاً. بينما أنتم تتذمرون، نحن نتحرك إلى لأمام. وما هو التناقض الصارخ بين العلاقتين؟
من جهة أخرى، تضاعف الجزائر من تحركاتها العسكرية، وتستدعي السفراء، وتطردهم، وتطلق خطابات كاسحة. ومن ناحية أخرى، يواصل المغرب، دون الخروج عن تحفظه المعتاد، تعزيز علاقاته الدبلوماسية مع باريس بشكل سري ولكن حازم، وتعزيز شراكاته الاستراتيجية، وجني ثمار دبلوماسيته المستمرة والمنظمة والمثابرة.
إن المفارقة هنا هي: الجزائر، التي تحب أن تقدم نفسها كنموذج للسيادة المتعنتة، تجد نفسها اليوم معزولة وغارقة في تناقضاتها. لقد انفصلت عن مالي، واختلفت مع النيجر وبوركينا فاسو، وانغلقت على نفسها أمام المبادرات الفرنسية، وغرقت في عزلة بدت غير قادرة (أو راغبة) عن الهروب منها. وحتى الأمم المتحدة تشعر بالقلق إزاء هذا الأمر، وتسلط الضوء، بكلمات خافتة ولكن حازمة، على الافتقار إلى التقدم في العلاقات الجزائرية المغربية.
في هذه الأثناء، يتقدم المغرب إلى الأمام، دون أي تردد تقريبا. وهو يعمل على تعزيز دعمه في الأمم المتحدة، مستفيداً من الإجماع الدولي المتزايد حول خطته للحكم الذاتي، ومعززاً تعاونه مع الولايات المتحدة وأوروبا… وكل هذا من دون أي مظهر من مظاهر الانتصار. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما الذي تبقى من الدبلوماسية الجزائرية اليوم؟ خطاب دفاعي، ومواقف نارية، وحنين دائم إلى دور إقليمي لم يعد أحد يعترف به. أرادت أن تجسد صوت الجنوب، وهي الآن تتحدث إلى نفسها فقط. أرادت أن تلعب دور الوسيط في منطقة الساحل، لكن تم استبعادها. إنها تزرع عداءً شديدا تجاه المغرب، وتجد نفسها تعلق على نجاحاته من خلال بيانات صحفية غاضبة.
إنه أمر محزن. وهذا يكشف أيضا عن حقيقة مفادها أن القوة الجزائرية تبدو في حاجة إلى التصعيد باعتباره أكسجينا. وهذا ما يساعدها في الحفاظ على شكل من أشكال التماسك الداخلي، في بلد مليء بالشكوك والإحباطات الاجتماعية والرغبات في مكان آخر. وتصبح الدبلوماسية أداة للسياسة الداخلية: فالناس يطردون، ويدينون، ويشعرون بالسخط، ويبحثون عن كبش فداء لتحويل انتباه الرأي العام بشكل أفضل.
باختصار، تشهد الدبلوماسية الجزائرية انتكاسات وانقطاعات. خلاف ذلك تماما في المغرب الذي يعمل على تعزيز تحالفاته الدولية. ولقد أدركت باريس، بحكم استراتيجيتها المحكمة، أن الشركاء الجيدين لا يتبينون من خلال الانفجارات الدبلوماسية، بل من خلال ثباتهم، بعيداً عن الضوضاء. وفي هذه اللعبة يبدو أن الدبلوماسية المغربية قد خطت خطوة إلى الأمام. والجزائر، من جانبها، تعاني من الفراغ إلى حد ما… بسبب دورانها في حلقة مفرغة.
la quotidienne
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.