الدستور لن يكتبه إلاّ المستقلّون والمؤمنون بصوت الشعب وقوة الوطن
لويس إقليمس
الدستور لن يكتبه إلاّ المستقلّون والمؤمنون بصوت الشعب وقوة الوطن
بغداد، في 30 تشرين أول 2019
من أجمل ما صدر من شعار من بين شعارات مشروعة ووطنية جميلة رفعها المتظاهرون المنتفضون شعار “نريد وطن” و “ماكو وطن، ماكو دوام”. شعارٌ ينمّ عن حرقة في قلوب المتظاهرين الذين تقاطروا تلبية لنداء الوطن الجريح والشعب الغاضب المقهور. فملأوا الساحات وافترشوا الشوارع وجالوا بأعلام الوطن المفقود منددين باستغلال أحزاب السلطة وغيرهم من الانتهازيين والمدّعين الدفاع عن الدّين وحماية لمذهب. يقينًا، فإنّ معظم الشعارات المرفوعة طيلة الأيام السابقة من عودة التظاهرات “التشرينية” الصادمة، الشخصية منها والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والطبقية والوطنية، كلها نالت رضا عامة الشعب والنخب الثقافية والأكاديمية وحتى السياسية المؤمنة بكرامة الوطن والانتماء الصادق إليه والحرص على حفظ أمانه وسلامه وصيانة حضارته وتعزيز عروبته وعودته الطبيعية إلى مكانته الوطنية والإقليمية والدولية.
ولعلّ من بين المطالب الكبرى التي شكّلت صدمة لدى عدد كبير من ساسة الصدفة والمتطفلين على الشأن السياسي والاقتصادي والمالي وغيرهم من الماسكين بمفاتيح أبواب ونوافذ السلطة والجاه والثروة بادّعاءات المظلومية السياسية والاتنية والمذهبية وغيرها من أشكال التظلّم المنتهي بالتقادم، تلك التي تتعلق بضرورة تعديل الدستور الأعرج الذي أتاح لأمثال العديد من هؤلاء السياسيين الدخلاء كي يعيثوا في أرض العراق فسادًا ويستغلوا ما فيه من ثغرات لتجييرها لصالحهم ولخدمة أحزابهم وأتباعهم ومكوناتهم بحجة إقرارها فيه في غفلة من الزمن الماكر. والجميع يعرف كي كُتبت بنود دستور البلاد في 2005 وفق مصالح الكتل المتنفذة آنذاك وبدعم واستشارة من الحاكم المدني الماكر بريمر الذي ضمّنه هو ومستشاروه الماكرون مثله بنودًا مفخخة قابلة الانفجار في أية مواجهة مرتقبة بين الأحزاب. وهذا ما حصل ومازال يجري بين الكتل المتنازعة على الثروة والسطوة والمناصب بكلّ ما لديها من قوة سلطوية وعزيمة شرّيرة لا تريد قبول غيرها شريكًا إلاّ ذليلاً. وهذا ما يفسّر أيضًا الذلّة التي وجد أتباع المكوّن السنّي قد اضطرّوا لاتشاحها لغاية الساعة بدراية منهم أو بغيرها بسبب عزوفهم عن المشاركة في صياغة الدستور آنذاك وترك الأبواب مشرّعة لباقي أتباع الكتلتين الكبيرتين من الشيعة والكرد حصرًا كي يفرضوا أجندتهم الطائفية والاتنية ويثبتوا مصالحهم ويرفعوا ورقة “الفيتو” بوجه أية تعديلات محتملة قادمة حينما ضمنوها شرط فقرة الرفض المقرونة بثلاث محافظات. وكان يُقصد بها بطبيعة الحال، مصلحة المكوّن الجانب الكردي الذي نال حصة الأسد من الدولة الفدرالية في كلّ الظروف والأزمان وعلى تعاقب الوزارات الشيعية الفاشلة مذ ذاك إلى جانب ضمان التصرّف بثرواته الطبيعية ضمن الإقليم والتي ظلّت عصيّة على الحكومات الشيعية المتعاقبة. فحينًا كانت المهادنة والتوافقية بين الإقليم والمركز وفي أخرى يشتدّ الصراع من دون نتيجة وفي غيرها وآخرِها بالذات كانت المجاملة والتنازل على حساب مصلحة الوطن وباقي المحافظات التي حُرمت من مواردها.
إن مجلس النواب الموقر بقراره الأخير بتشكيل لجنة من نوابه للنظر ببنود الدستور واقتراح تعديلات عليه خلال أربعة أشهر بغية تلبية مطالب المحتجين ومن أجل امتصاص غضب الشعب وتهدئة الخواطر والتقليل من نقمة العامة والخاصة، قد أوقع نفسه في إشكالية كبيرة أخرى حين أوكل هذه المهمة الضرورية والمطلبية للنواب الحاليين حصرًا. والسبب بات واضحًا وجليًا، وهو فقدان الثقة والمصداقية بممثلين خاب ظنّ الشعب بهم طيلة الدورات السابقة لهذا المجلس بسبب ما أصاب العمليات الانتخابية في كلّ مرة من تزوير وبيع للمناصب في أروقته، وآخرها هذه الدورة غير الموفقة التي شهدت عملية فرض الإرادات في مشهد بل في مشاهد يندى لها جبين العراقيين وخابت بهم كرامة الوطن وأهينت حضارتُهم حين التلاعب بصناديق الاقتراع وفرض أجندة أحزاب السلطة لمرشحين خاسرين لم يوفقوا في نتائجهم، لكنهم صعدوا بقدرة قادر وبغطاء قضائيّ مهتزّ وغير منصف.
إن دساتير البلدان المتحضّرة، لا يكتبُها السياسيون المنتفعون الزائلون لوحدهم، بل يساهم فيها مختصون في فقه القانون الدولي ومحامون وقضاة متمرّسون إلى جانب مثقفين وأكاديميين وممثلي نقابات وقطاع خاص ووجهاء يُشهد لهم بالوطنية وحب الشعب والتجذّر بالأرض ومَن في وصف هؤلاء ممَن يًصار إلى اختيارهم من بين صفوف العامة كي يكون هذا الدستور وطنيًا شاملاً ووافيًا في أغراضه وأهدافه وقابلاً للتعديل كلّما اقتضت الضرورة وتغيّرت الظروف والحاجات. وهذا ما تقف بعض الكتل المنتفعة من الدستور القائم ضدّ أية تعديلات مقترحة أو استبدال لفقرات تتحمل تفاسير محتملة كثيرة بحسب مصلحة كلّ كتلة أو حزب أو فئة. كما أنّ الدستور أيّ دستور في أية بقعة من الأرض يكتبه بشر وهؤلاء معرّضون للخطأ والصواب وبحسب الظرف الزماني والمكانيّ الذي كُتب به. ومن ثمّ، فالدستور ليس قرآنًا كي لا يُمسّ من قبل البشر أو كتابًا مقدّسًا غير قابل التأويل والتفسير بحسب الزمان والمكان والظرف والحاجة.
هذه دعوة ملحةّ، كي تعيد رئاسة البرلمان النظر في ما ذهبت إليه بتشكيل اللجنة المذكورة. فهي لن تكون مقبولة من قبل الشعب ولا من قبل سائر طبقاته الاجتماعية والنقابية والأكاديمية والقانونية والعلمية. فلا يمكن انتظار إصلاح حقيقي مرتقب من طبقة شكّلت أساس المشكلة وكانت السبب في ما آلت إليه البلاد من تراجع في البنية التحتية وفي الخدمات ومن تخلّف في العلم والثقافة والتربية ومن فساد مالي وإداري في كل مؤسسات الدولة من دون استثناء. فهل يُتوقع من ممثل اية كتلة أو حزب سُمّي لهذه اللجنة أن يدين أفعاله وسلوكيات أعضاء كتلته غير النزيهة ويقبل بتغيير البنود التي تكفل مكاسبه وتثبّتُ مصالحه وتعزّزُ من موقعه في العملية السياسية المهزوزة أصلاً؟ أم ننتظر من السارق أو اللص أن يقول: “ها أنا ذا خذوني” ويكفيني ما نلتُه وما خزنتُه وما نقلتُه من أموال في حسابات مصرفية عالمية أو ما حققته من مغانم غير مشروعة في عقارات الدولة من دون وجه حق؟
أفيدوني لوجه الله! هل تقبلون بهذه الخطوة كي تمرّ ايضًا ضمن صفقات سابقاتها وباستغفال واضح للشعب بحجة تقرير جرعات إصلاحية للتخدير الموضعي والزمني لحين اجتياز الأزمة كما يعتقد البعض؟
لك الله العادل القهّار والشعب الغاضب الناقم ودعوات الثكالى وصيحات الأرامل وحرمان اليتامى، يا عراق! فالصبح قادم ليقهر ظلام السنين الخوالي وضياؤُه كفيل بمحو دياجير الظلمات التي زرعها الفاسدون والمفسدون ولصوص الليل والنهار في الأرض والتي ارتضى بها الساكتون والمتزلّفون وأبَوا قول كلمة الحق أو الوقوف بوجه طغاة العصر ولصوصه، لأنّ كلمة الشعوب أقوى من هؤلاء جميعًا!