مقالات

الجوع أقوى من الخوف

الجوعُ أقوى من الخوْف
Hunger Is Stronger than Fear
بقلم إناس شاكر خليل مفرج المفرجي (1927-2009)
ترجمة حسيب شحادة
جامعة هلسنكي

בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון, 2021, כרך ג’ עמ’ 585-583.

بحِذاء قُماش داخل الثلج العميق

أعرف أنّ شقيقي المرحوم إبراهيم، كان قد قصّ عليكمُ الكثيرَ من قِصص الماضي، عندما عِشنا وسكنّا في نابلس، لا سيّما عن طفولتنا الصعبة، حيث أنّنا بالكاد كنّا نحصُل على كِسرة الخبز. لا ريبَ أنّه تذكّر أكثر منّي إذ كان أكبرَ منّي سنّا.
مع هذا، سأقُصّ قصّةً أذكرُها أكثرَ من الآخرين. ماذا أقول لكم وماذا أحكي، إلى أيّ حدٍّ كانت حياتُنا صعبةً آنذاك، ومع هذا فنحن الآن عندما نجلس في كلّ مساء أمامَ التلفزيون، ولا ينقصُنا شيء، يحلو لنا أكثر تذكّرُ تلك الأيّام الرديئة، إذ أقلّه كنّا حينئذٍ شبابًا وأقوى من اليوم.
اليومَ لدينا المأكل والمشرب والملبس بوفرة، وعليه ما أحلى وأطيبَ من الرجوع إلى تلك الأيّام التي أمضيناها بالقِلّة ، بالخبز والماء [في الأصل: في الضيق وماء في الشدّة، وهذه العبارة غير واردة في التوراة ولكنها ذُكرت في سِفر إشعياء 30: 20؛ كان من الممكن للكاتب أن يستخدم ما ورد عنده في التوراة السامريّة: خبزا وطبيخ عدس، تكوين 25: 34. اُنظر: حسيب شحادة، الترجمة العربيّة لتوراة السامريّين. المجلّد الأوّل: سفر التكوين وسفر الخروج. القدس: الأكاديمية الوطنيّة الإ*سر*ائي*ليّة للعلوم والآداب، 1989، ص. 114- 115]، وأحيانًا بدونهما حتّى. ما عرفناه أفضلَ من أيّ شيء آخرَ، مع كلّ ذلك، كان هذا هو الوضع وعلينا التعايش معه وتدبير أمورنا.
ذات يوم، قالت لي أُمّي روزه: قُم يا ابني إناس، خذ أربعةَ أرطال الحنطة (12 كغم)، اذهب إلى المطحنة ليكن لدينا الدقيق لإعداد خبزنا.
قمتُ بما أمرتني أُمّي. حمَلت كيس الحنطة على ظهري وخرجت متوجّهًا إلى المطحنة البعيدة بجوار حيّ بلاطة، على بعد كيلومتريْن من حارة السمرة.
كان البردُ قارسًا في الخارج. طبقة سميكة من الثلوج، ربّما نصف متر، غطّت شوارعَ مدينة نابلس. الأحذية كانت من القُماش، لم يكن بوُسع والدي شاكر أن يشتري لثلاثة أبنائه وابنته، أُختي شهيرة التي آونتَها لم تولد بعد، سوى أحذية قُماش دقيقة لفّت القدمين. لم يكن لي أيّ خِيار. كانت قدماي تدوسان بتثاقلٍ على الثلج العميق، بينما كنت أشُقُّ طريقي ببطء نحوَ الطاحونة. كادت رِجلاي تتجمّدان، إلّا أنّ قوّة إرادتي كانت أقوى منَ البرد.
طحن الطحّان القمح. حملتُ الكيس مجدّدًا على ظهري الصغير وسرتُ عائدًا إلى البيت. واستمررت في دوسي المتثاقل على الثلج إلى أن وصلت البيت خائرَ القِوى.
عند وصولي، أشعلت أمّي النار في الفحم القليل في المنقل/الطبّاخ، وضعتُ باطني قدميّ المتجمّدتين مقابلَ الرماد الساخن، إلى أن ذاب الجليد من على حذاء القُماش.
أخذت أُمّي الدقيق، صنعت منه العجين ومنه خبزًا مستديرًا [المقصود، على ما يبدو، خبز الكماج، أكبر من القرصة المدعوّة باللفظة اليونانيّة پيته؛ في الأصل: كعك]، ثم نادتني. حمّلتني صينيّة كبيرة (سِدْرًا) مليئة بعجين الكماج وقالت لي أن أذهب إلى الفرن الكبير في طرف الحيّ للخبز. لم استصعب ذلك لأنّي كنت جائعًا جدّا. كنتُ تعِبًا جدّا، إلّا أنّ الجوعَ أقوى من تعبي.

اِنتعلْتُ حذاءَ القُماش الناشف، وخرجتُ إلى الثلج العميق سالكًا أقصر طريق إلى الفرّان/الخبّاز. عند عودتي من الخبز لم تسألني أمّي عن الكماجات الناقصة على الصينيّة. علمتْ أنّني لم أستطع تمالكَ نفسي بسبب رائحة الخبز الساخن الأخّاذ. في تلك الأيّام العصيبة عُدّ الخبز الطازَجُ عندنا مأكلًا ملوكيًّا حقًّا.
في اليوم التالي، طلب والدي من ابنيه الكبيرين، إبراهيم/خليل ومنّي، مرافقتَه لبيع بضع قِطع من القُماش في قرية سالم التي تبعدُ حوالي ستّة عشرَ كيلومترًا عن نابلس، لجهة الشمال الشرقيّ. حمّلنا القُماش على الحمار وسرنا إلى قرية سالم. تأمّلنا أنّه ببضعة القروش التي سنربحها من بيع القُماش، سنستطيع تأمين الخبز والطعام لبيتنا لمدّة غير قصيرة. وقد رأينا بأعين قلوبنا عددَ أكياس الحنطة التي يمكننا شراؤها في السوق إثرَ عودتنا من سالم.
أركبَنا الوالد مع القُماش على الحمار، أمّا هو فمشى بجانبنا. وصلنا دير الحطب بعد بضْع ساعات، على بُعد ربع ساعة مشيًا من سالم. وقد حُذِّرنا قبلَ ذهابِنا لهناك بعدم سلوك تلك الطريق، بين سالم ودير الحطب لأنّها خطيرة جدّا. لكنّنا عزمنا على المجازفة والوصول إلى سالم بتلك الطريق.
كلّ محاولات إقناع أبي، لبيع حتّى قطعة قُماش واحدة لأهالي سالم، لم تُجدِ نفعًا، إنّهم بالطبع فضّلوا الحصول عليها مجّانًا بدل دفع الثمن الباهظ بحسب رأيهم الذي طلبه والدي. لم ييأس أبي وقال يجب أن نحاول بيع القُماش في دير الحطب، بالرغم من أن الطريق إلى هناك محفوفة بالخطر. شعر أخي خليل بتعب شديد فكلّفني أبي بإرجاعه إلى نابلس ثم العودة إليه لدير الحطب. هكذا فعلتُ.
عدتُ من نابلس عن طريق قرية سالم. لم أجد أبي. قال لي السكّان إنّهم رأوْه ذاهبًا لدير الحطب. وصلت دير الحطب، ولكنّي لم أجدْه هناك أيضا. قال لي رجال القرية إنّهم رأوْه ذاهبًا إلى سالم.
أخذ الخوف والخَشية يقرضان قلبي، لم أعرف إلى أين أتّجه. أخيرًا، قررتُ العودةَ إلى نابلس مهما يكن. رجعت ثانيةً إلى سالم. كانت الشمس على وشْك الغروب. ألّح عليّ قرويّو سالم بألّا أجازف بنفسي بالركوب ليلًا في الطريق الخطيرة جدّا. لكنّني عرفت أنّهم في البيت ينتظرون مجيئي بقلق متزايد. وكان أحد القرويّين قد أرعبني عندما قال، بأنّ هنالك في الطريق لنابلس ضباعًا تهاجم الراكبين في ظلام الليل. تغلّبت على مخاوفي. علمت أنّ الوضعَ في البيت آخذٌ بالتأزّم ومن يدري أرجع أبي إلى البيت أم ما زال في طريقه لنابلس.
وجّهتُ الحمارَ إلى الطريق المؤدي إلى نابلس، بينما كان سكّان سالم ينظرون إليّ من الخلف بعيون مليئة بالرحمة والحيرة من تهوّري. في منتصف الطريق، سمِعتُ صوت خطوات تخُبّ وراء الحمار. بسبب ظلام الليل لم أتمكّن من معرفة من كان هذا، أو ربّما ثمّة ضبع ينوي مهاجمتي. ولكي أُخفّفَ قليلًا من الرعب الشديد الذي ألمّ بي، بدأت أصرخ باسم أبي – شاكر، شاكر، شاكر! قلِقت جدًّا على مصيره.
غرزتُ رجليّ ببطن الحمار وجعلته يُسرع (كدّ بالعامّيّة) طوال الطريق، محاولًا التخلّص من صوت الخُطى بأعقابي. أخيرًا وصلنا مشارفَ نابلس، والحمار كاد ينفُق تعبًا وأنا كدتُ أموت خوفًا.
إناس! إناس! – سمِعتُ صوتًا من جوف الظلام. كان هذا صوتَ أبي، شاكر. كان هو الذي سار خلفي طوالَ الطريق. أنا هنا – صحتُ نحوَه. قفزت من على الحمار وركضتُ إليه. نظر وجهِك ما رجوت [تكوين 48: 11، شحادة ن. م. ص. 244-245 ].
شريحة من الخبز، وطبيخُ عدس ساخن كانا بانتظارنا في آخر ذلك النهار الطويل والمُضني. [اُنظر تك 25: 34]. فرحتُنا كانت مضاعفةً، فقد وصلنا البيت سالمين، وأبي وُفّق في بيع القُماش في دير الحطب. ما قادنا جميعًا بسلام إلى بيتنا، كان جوعنا الشديد مع القليل لإشباعه، كان الجوع أكبرَ من الخوف الذي هاجمنا في تلك الطريق الخطيرة، من سالم إلى نابلس.
يا لها من أيام ولّت.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!