آراء متنوعة

استقطاعات ترامب من الميزانية مقامرة ستُثير فوضى

استقطاعات ترامب من الميزانية مقامرة ستُثير فوضى عالمية

تراجع المساعدات يمس من صورة أميركا
يُمثل هجوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشرس على المنظمات الدولية اعتداء على كل فرد، فقيرًا كان أم مُقهورًا أم مُحتاجًا، والذين لا نجاة لهم إلا بالمساعدات الأميركية. فقسوة ترامب لا يمكن أن تُوصف إلاّ بأنها الأشدّ وطأة وقد تُلحق ضررًا لا رجعة فيه بمكانة أميركا العالمية والتزاماتها الأخلاقية.

يصعب تقييم الآثار السلبية قصيرة وطويلة الأجل لاقتراح البيت الأبيض القيام بتخفيضات في ميزانية وزارة الخارجية والمنظمات الدولية الرئيسية والمؤسسات الدبلوماسية والأمنية الرئيسية، خفض ميزانية وزارة الخارجية والمساعدات الإنسانية العامة إلى النصف وإلغاء 90 في المئة من جميع الأموال المخصصة للمنظمات الدولية، بما في ذلك وقف تمويل حلف شمال الأطلسي (الناتو) والأمم المتحدة.

وفي حين أن المراجعة الدورية لهذه المنظمات الدولية ضرورية لتبسيط عملياتها وخفض النفقات غير الضرورية، والحدّ – في بعض الحالات – من البيروقراطية المُتضخمة، فإن استبعاد جميع هذه المنظمات الحيوية دون مراجعة وتدقيق مناسبين يُعدّ قرارًا قصير النظر ومُضرًا للغاية بمكانة الولايات المتحدة الدولية. ولكن، من ناحية أخرى، ليس هذا مُستغربًا. فترامب في حالة هيجان، وليس هناك من يحذره من أن مثل هذه الأفعال المتهورة لا تؤدي إلا إلى تقويض المصالح والنفوذ الوطني والخارجي لأميركا، والتي تفوق بكثير أي نفقات.

ولوضع قرار ترامب المتهور في سياق الميزانية السنوية للولايات المتحدة، بلغت المساعدات الخارجية في عام 2024 ما قيمته 71.9 مليار دولار، وهو ما يمثل 1.2 في المئة فقط – وهو مبلغ ضئيل – من إجمالي الميزانية الفيدرالية للولايات المتحدة في ذلك العام. ومع ذلك، سيكون لهذا التخفيض تأثير سلبي هائل على العديد من المؤسسات في جميع أنحاء العالم التي ستشعر بالآثار الوخيمة لهذه التخفيضات التعسفية في الميزانية.

تشمل هذه التخفيضات إغلاق بعثات دبلوماسية في الخارج وتخفيضات في الخدمات القنصلية، ما سيتسبّب في تأخيرات كبيرة للأميركيين المقيمين في الخارج. وسيواجه هؤلاء تأخيرات كبيرة في تجديد جوازات السفر ومعالجة التأشيرات، الأمر الذي سيعيق بشكل أكبر تقديم المساعدة الطارئة عند الحاجة. وستكون لهذا أيضًا عواقب وخيمة أكثر في أوروبا وأفريقيا، حيث يخطط ترامب لعمليات إغلاق متعددة. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن إغلاق البعثات الدبلوماسية الأميركية في المناطق التي تشهد صراعات كبيرة قد يعيق بشكل كبير جمع المعلومات من المصادر العامة، وهو أمر بالغ الأهمية لجهود مكافحة الار*ها*ب الأميركية.

وإلى جانب ذلك، فإن ما يفوق المعقول هو عدم مراعاة البيت الأبيض التام لكيفية توتر العلاقات مع شركاء أميركا الأوروبيين بسبب عمليات الإغلاق هذه، لأن الانسحاب المدروس من المشاركة الأميركية يقوّض الثقة، وهو أمر حيوي للحفاظ على علاقة دائمة وصحية. وما يثير القلق أيضًا قصر نظر البيت الأبيض في قياس كيف ستفتح هذه التخفيضات الباب أمام الصين لتعزيز هيمنتها الجيوسياسية، وخاصة في أفريقيا وآسيا. علاوة على ذلك، ستؤدي التخفيضات المالية إلى تقليل برامج التبادل الثقافي بشكل جذري، وهي حيوية للحفاظ على شراكات طويلة الأمد.

◙ ترامب في حالة هيجان وليس هناك من يحذره من أن مثل هذه الأفعال لا تؤدي إلا إلى تقويض المصالح والنفوذ الوطني والخارجي لأميركا

ستتسبّب التخفيضات المالية للأمم المتحدة ووكالاتها في عجز نقدي فوري، الأمر الذي سيعطل المساعدات الإنسانية والبرامج الصحية. وقد شهدنا آثارًا مماثلة من إلغاء إدارة ترامب السابقة لتمويل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. وكما صرّحت آبي ماكسمان، رئيسة منظمة أوكسفام أميركا ومديرتها التنفيذية، قائلة “لا يوجد مجال واحد من مجالات التنمية والمساعدات الإنسانية لم تشارك فيه الوكالة الأميركية للتنمية الدولية”.

ستُوقف العديد من الوكالات ذات الأهمية الحاسمة، بما في ذلك منظمة الصحة العالمية واليونيسف والأونروا، عمليات التطعيم والمساعدات الغذائية والإغاثة في حالات الكوارث. وهنا أيضًا، ستُسارع الصين وروسيا إلى ملء الفراغ وتوسيع نفوذهما في وكالات الأمم المتحدة، ما قد يُغيّر الالتزامات والمعايير الدولية، لاسيما في ما يتعلق بحقوق الإنسان وتغيّر المناخ. بالإضافة إلى ذلك، ستُضعف التخفيضات في برامج الأمم المتحدة قدرتها على تنسيق الاستجابات للأوبئة أو النزاعات.

تُظهر المزيد من المراجعات للتخفيضات المقترحة أن تقليص عدد الموظفين الدبلوماسيين قد يُؤخر الاستجابة للأزمات لأن تسريح الموظفين المحليين، الذين يُشكّلون ثلثي موظفي البعثات، من شأنه أن يُقوّض بشدة الخبرة الإقليمية والقدرة على مواجهة التهديدات الناشئة مثل الأوبئة أو النزاعات. وقد تقاوم الدول الأعضاء في حلف الناتو سدّ فجوة التمويل ما يُعجّل بنشوب صراعات حول الإنفاق الدفاعي، في حين أنه سيُبطئ خطط التحديث الجارية للحلف واستعداده للاستجابة لأيّ أزمة غير متوقعة. وفي حال تطبيق التخفيضات، قد يسعى الحلف إلى إطار أمني مستقل، ما يُمزّق الوحدة عبر الأطلسي ويُقلّل من نفوذ الولايات المتحدة ودورها في تشكيل مهمة الناتو.

بالإضافة إلى ذلك، قد يُجبر وقف تمويل عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في دول مختلفة قوات حفظ السلام هذه على الانسحاب، الأمر الذي سيُقوّض قدرات الاستجابة للأزمات ويُسبّب عدم الاستقرار، وربما تجدّد الصراعات. ولطالما كان حفظ السلام الأممي نهجًا فعّالاً من حيث التكلفة، وقد تُجبر التخفيضات على تدخلات عسكرية أكثر تكلفةً لاحقًا. ومن المفارقات أن ترامب الذي لا يُريد اندلاع صراعات عنيفة جديدة أو إعادة إشعال صراعات قديمة خلال فترة رئاسته يُزيل أحد أهمّ الحواجز لمنع ذلك.

واعتبارًا من عام 2024، أثبتت بعثات حفظ السلام في 11 دولة، بما في ذلك قبرص وكوسوفو وجنوب السودان والهند وباكستان، فاعليتها القصوى في الحفاظ على السلام. وفي الواقع، لا تخدم هذه الإجراءات الجذرية المشؤومة أجندة ترامب “أميركا أولاً”. إنه تناقض يبدو أن ترامب نفسه لا يفهمه أو يهتم بتسويته.

للأسف، ترامب، الذي يستمتع بإثارة الجدل، لا يدرك أن تفكيكه المستمر للوكالات الأجنبية والمحلية التي كانت تقدم خدمات لا تُقدر بثمن، تُنقذ أرواح الملايين، وتجنّب المجاعة الجماعية وتكبح الأمراض، في هذه الحالة تحافظ على السلام. إن فقدان أميركا لمقعدها على رأس الطاولة يُشير إلى بداية تراجع الإمبراطورية الأميركية. فمع كل أخطائها ونقائصها، كانت أميركا أعظم إمبراطورية خيرية في تاريخ البشرية. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تتمكن أيّ دولة أو مجموعة دول من أن تحلّ محلّ أميركا.

والأخطر من ذلك هو تجاهل ترامب التام لالتزامات أميركا الأخلاقية. فالوفاء بالالتزامات الأخلاقية جعل أميركا بارزة، وولّد الثقة والاحترام واليقين في سياساتها وأفعالها. ورغم أننا ما زلنا في المراحل الأولى من تقييم الضرر طويل الأمد الذي ألحقه ترامب بأميركا، فإننا نشهد بالفعل رد الفعل العالمي الناتج عن تراجعه عن الالتزامات الأخلاقية الأميركية التقليدية.

للأسف، سيكون للامبالاة ترامب بالمحتاجين في الداخل والخارج أثرٌ مدمر على أولئك الذين يعتمدون على المساعدات الأميركية. أما الأثر الأكثر إثارة للقلق فهو على المكانة الأخلاقية العالمية لأميركا على المدى الطويل.

د. ألون بن مئير

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!