آراء متنوعة

أين أخلاق المهنة الصحفية؟

أين أخلاق المهنة الصحفية؟

من يحترم حق الميت؟
“الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء”، قالها الشاعر الفلسطيني محمود درويش يوما وكانت صدى له بعد موته. الموت فعلا موجع للأحياء، لأحباب الميت وأهله تحديدا، ولا أحد ينكر ذلك، فالميت توقفت كل قدراته على الشعور بالزمان والمكان وانتقل إلى مكان مجهول، لم يعد منه أحد ليصف لنا ما فيه.

لن أتكلم عن فلسفة الموت، عن خوف الإنسان منها منذ بدء الخليقة ولا عما كتب حولها، وإنما عن هيبتها التي فقدت في زماننا، تحديدا في الأوساط الفنية.

يموت الفنان، الرياضي، الممثل، المغني، أو أي شخصية عامة يعرفها الناس ويحبونها، لنجد أنفسنا لأيام أمام مراقبة صحفية دقيقة لكل ما يتعلق بالواقعة. بعضهم يتنقل منذ سماع الخبر اليقين إلى منزله، يصور أهله في لحظات حزنهم الأولى، لحظات انكسارهم لفقدان عزيز، ثم تجده يترصدهم بكاميرا هاتفه المحمول، الذي ابتاعته المؤسسة الإعلامية التي يعمل بها لا لشيء إلا ليرصد لها كل ما يحقق “البوز” والشهرة والكثير الكثير من المتابعين المنتبهين.

الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، بل يرصدون الجنازة وموكب الدفن لحظة بلحظة. أي جرأة يملكونها وتحد للقيم والأخلاقيات الإنسانية والمهنية وضوابط الأديان، ليصوروا ميتا وهو يوارى الثرى؟ ثم أي وقاحة يملكون ليسألوا أما أو أختا أو زوجة أو حبيبة وصديقا مكلوما، منكسرا، يكاد قلبه ينفطر من الحزن، عن الراحل؟ عن ذكرياتهم معا، عن طريقة الوفاة، عن حالته ما قبل الوفاة، والأبشع عن ماذا يقول له؟

إن كان الصحافي لم يتعلم أخلاقيات المهنة، فأين مدير القسم؟ أين مدير التحرير؟ أين رئيس تحرير المؤسسة؟

منذ أيام قليلة توفي كافون، أو أحمد العبيدي، كما يعرفه أهله وأصحابه قبل أن يصبح واحدا من أشهر مغني الراب في تونس والمغرب العربي، وبثت لنا هواتف الصحافيين وهواة الصحافة تفاصيل جنازته لحظة بلحظة، ركزت كاميرات الهواتف على الوجوه الحزينة والأعين الباكية، وتحرك “الزوم” ليلتقط تفاصيل جانبية بين فنانين ومشاهير تونس، ثم صورت الصلاة على الميت ولحظات إنزاله القبر.

إن كان الصحافي لم يتعلم أخلاقيات المهنة، فأين مدير القسم؟ أين مدير التحرير؟ أين رئيس تحرير المؤسسة؟ أينهم جميعا لينبهوه أن على الصحافي ألا ينسى أبدا أنه مطالب بالحد من الأضرار المحتملة الناتجة عن عمله الصحفي ضد المعنيين بالأمر وأن يحرص على المحافظة على حقوق الناس، والميت شخص لن يحب أن يصور لا هو ولا أهله في موقف كهذا، فمن يحترم حقه؟

حتى الجمهور، أصبح يوجه أبشع عبارات السب والشتم للصحافيين وللمصورين الصحافيين الذين يسارعون لتصوير الجنائز، وحتى أولئك الذين يوثقون الأفراح والمناسبات الخاصة للمشاهير، يدركون كلهم أن من حق كل البشر أن يعيشوا حياة طبيعية ويدفنوا بطريقة طبيعية لا ترصدها عدسات الكاميرا.

أصوات كثيرة تندد وتذكر وتشتكي ولا أحد يتفكر، لا أحد يعقل أن الربح المادي من الفيديوهات لا يجب أن يكون على حساب الأخلاق، والخصوصيات، وحرمة الأحياء والأموات.

إلى أي درجة وصلنا في الانحدار بسلم الأخلاق؟ ترون ذلك بأعينكم يوميا على شاشات هواتفكم، وهذا المقال جزء صغير لا يصف الحقيقة المفجعة. أين نسير بالأخلاق؟ لا أحد يدري أيضا، لأن كل من هب ودب صار يمتهن الصحافة ويستثمر فيها ويمشي الخيلاء فخورا بصنيعه.

يحيى المؤمن على هذه الأرض وهو يرجو من الله الستر، ندعوه جميعا “الله لا يكشف علينا حال”، ونخاف جميعا من “نهار الموت نهار الكشفة” ونسأله أن يسترنا ويستر ذنوبنا وعوراتنا، لتأتي عدسات الصحافيين مصرة على كشف الحال والأحوال.

إنه السبق الصحفي الفريد الذي يتنزل ضمن ركض أغلب البشر في سباق تحقيق الشهرة ولفت الانتباه وتحقيق الأرباح، سبق عززته وسائل التواصل الاجتماعي وستسير به وبالأخلاق نحو مستويات لا إنسانية كارثية.

حنان مبروك
صحافية تونسية

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!