” أنا الكل بالكل هنا” ودور العلمانيين في الكنيسة تحليل للتناقضات
د. عبدالله مرقس رابي
” أنا الكل بالكل هنا” ودور العلمانيين في الكنيسة
تحليل للتناقضات
تعد المؤسسة الدينية احدى اهم المؤسسات الاجتماعية التي يتناولها علماء الاجتماع في دراساتهم وبحوثهم العلمية في ميدان علم الاجتماع الديني، لانها تشكل جزأ مهما من البناء الاجتماعي للمجتمع البشري بمختلف مستوياته وانماطه. وهي مرتبطة بتبادل تأثيري مع المؤسسات الاخرى التي يتكون منها البناء الاجتماعي، كالمؤسسة السياسية والتعليمية والاقتصادية والعسكرية والاعلامية والاسرية وغيرها. وقد اعتمد هذا التأثير المتبادل في قوته وشكله ونتائجه على المرحلة الحضارية للمجتمع وطبيعة العقل البشري.
استمدت المؤسسة الدينية منذ العصور القديمة وفقا للتحليل السسيولوجي قوتها التأثيرية على المؤسسات الاخرى وعلى افراد المجتمع البشري بصورة عامة من عاملين اساسيين هما : اولا نزعة الخوف من المجهول بعد الموت عند البشر، وبما انها اي المؤسسة الدينية هي التي تولت مهمة الفلسفة الفكرية لربط الانسان بالخالق منذ نشأة المجتمع البشري، وعلى اثرها تكونت العقائد الدينية وتنوعت في صيغتها وعناصرها زمانيا ومكانيا. ولهذا يخضع الانسان للتعاليم الدينية لكي يشعر بالاطمئنان بعد الموت. وثانيا استمدت تأثيرها من مبدأ التفويض الالهي الذي تبلورت فكرته منذ نشأة البشرية، وقد اختلقته المؤسسة الدينية لديمومة شرعيتها في السلطة باعتبارهم وكلاء الخالق على الارض، وتتجلى هذه الفكرة في كل المؤسسات الدينية قديما وحديثا، في الاديان الوثنية والسماوية والباطنية. مما أدى ذلك لاضفاء القدسية على رجل الدين، وثم أن ما يشرعه له صفة مقدسة لايجوز مناقشته .
يتولى مهام المؤسسة الدينية في المجتمعات القديمة والبدائية المعاصرة والمتحضرة اشخاص اعدوا تربويا وفكريا لهذا الغرض وتطلق عليهم تسميات مختلفة منها :الشامان والساحر والكاهن والشيخ وعالم الدين اورجل الدين أو الاكليروسي. وتختلف التسميات بحسب مرتباتهم ووظائفهم الهرمية. كان لهؤلاء الدور الكبير في المجتمعات التقليدية والبسيطة في تأثيراتهم الاجتماعية والسياسية على افراد المجتمع ،وبل على الفكر البشري،وعُرفوا بالطبقة المتعلمة والمتنفذة في قصور الامبراطوريات والدول واصحاب السلطة بانواعها البسيطة والمعقدة. وبمرور الزمن تقلص نفوذهم ودورهم امام التقدم الفكري والنهضة المعرفية في عموم العالم، وبالاخص بعد ان توفرت الفرص لابناء كل الطبقات الاجتماعية لكي يتلقوا تعليمهم واكتسابهم مختلف انواع المعرفة التي بواسطتها تمكنوا من تجاوز معارف رجال الدين والتفوق عليهم. ولكن لايزال العديد من افراد المجتمع البسطاء وبالذات في المجتمعات النامية التقليدية ينظرون الى رجل الدين بنفس المعاييرالسابقة. وهنا لا أقصد دين معين بحد ذاته أو مذهب ما، بل الكل في نفس الاتجاه والسياق مع بعض الاختلافات في التشريع والتنفيذ.ولما كنت منتمياً الى الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، عليه سيخصها موضوع المقال، بالرغم من ان نفس الافكار والممارسات والسلوكيات قائمة في كل المذاهب الكنسية بشكل واخر.
الاسباب الرئيسة التي دفعتني للكتابة عن هذا الموضوع هي ما تتردد على مسامعنا نحن العلمانيين بين فترة واخرى وبين مناسبة واخرى عبارة من الاكليروس بمختلف درجاتهم الكهنوتية ( انا الكل بالكل هنا) او
( انا الكنيسة ) أو ( ما يهمني من أحد) ولا بل سمعت شخصيا ومن عدة كهنة يقول ( انا البطريرك هنا ) واما الاسقف لايمكنك مناقشته كعلماني فهو البادي والناهي في كل الامور الكنسية. كما نسمع دائما عبارات من المؤمنين عن المجالس الراعوية عند الاعلان عن تشكيل المجلس الخورني ( ما الفائدة من تواجدنا في المجلس ولاصوت لنا ) (الكاهن هو الكل بالكل فلماذا المجلس) أو( نحن مجرد رقم في المجلس )أو ( الكاهن يختار الاعضاء بحسب مزاجه). بالاضافة الى ما نقرأ من معطيات الاجتماعات الدورية واللقاءات الدورية سواء للكهنة واساقفتهم او السيهنودس مثل عبارات (التـاكيد على دور العلمانيين) و( التضامن والتعاون المشترك بين الكنيسة والمؤمنين ) ومن المفروض ان تكون صياغة العبارة كالاتي ” التضامن والتعاون المشترك بين الاكليروس والمؤمنين” وليس كما جاءت ضمن نتائج احد اللقاءات بين الكهنة والاساقفة لان المؤمنين هم جزء من الكنيسة كما هم الاكليروس، وقد تكون زلة قلم لانهم يعتبرون الكنيسة هي الاكليروس والمؤمنين الاتباع وفقاً للمفاهيم القديمة. و(تفعيل المجالس الراعوية في الابرشيات). وبالاحرى اهم من كل هذا هو وقوف الكاهن او الاسقف امام المؤمنين في موعظته ليكرر عبارة (انتم الكنيسة!!!!!وليست كومة حجارة).
يُلاحظ من هذه العبارات بأنها مؤشر جليَ على أن الاكليروس مؤمنون بسلطتهم المطلقة على المؤمنين وشؤون الكنيسة، ومن جهة اخرى انها مؤشر على ان العلمانيين لا دور لهم سواء انهم اتباع لهم وعليهم الطاعة، لان طاعتهم للاكليروس هي طاعة وكلاء السيد المسيح على الارض. لاذنب لهم في تهميش العلمانيين اذ ان فلسفة تنشئتهم الكهنوتية قد بُنيت على اساس السلطة المطلقة لهم في الكنيسة بالرغم من التظاهر أحياناً بأن الكنيسة هي مجموعة افراد من المؤمنين بما فيهم الاكليروس، ولكن في الحقيقة والواقع لا وجود لدور العلمانيين في ادارة الكنيسة بدليل ما تنص عليه القوانين المثبتة في القانون الكنسي كما سابين ادناه.
ما تُشير اليه القوانين الكنسية ومناقشة مختصرة لها
لا بد اولا الاشارة الى التمييز بين العلمانيين والاكليروس وفقاً لماتنصه القوانين.فالقانون رقم 399 ينص (بأسم علمانيين يقصد في هذه المجموعة المؤمنون الذين طابعهم الذاتي والخاص العالمية ويشاركون في رسالة الكنيسة وهم في العالم وليسوا مقامين في درجة مقدسة ولا منتمين الى الحالة الرهبانية).ويشير القانون رقم 323 بند 2 الى (بفعل الرسامة المقدسة ،يميز الاكليريكيون ،بوضع الهي عن سائر المؤمنين)
لا يوجد توضيح في اسباب تميزهم عن المؤمنين بوضع الهي،انما يُفهم ان السر الكهنوتي الذي يتمتعون به دون سائر المؤمنين يضعهم في حالة متميزة عند الله. بالطبع هنا سيمنح هذا السر لهم السلطة لاقامة الاسرار الكنسية الاخرى دون غيرهم، ولكن ماذا عن ادارة الكنيسة كمؤسسة ؟ان القانون رقم 11 أعتقد يوضح ذلك أذ ينص على( تقوم بين جميع المؤمنين بناء على ولادتهم الثانية في المسيح، مساواة حقيقية في الكرامة والعمل، بها يتعاونون جميعهم لبناء جسد المسيح كل حسب وضعه ومهمته).أي بمعنى انهم متساوون مع الاكليروس، انما الاختلاف في السلطة الروحية لتأدية الاسرار لعدم تلقيهم السر الكهنوتي. وهنا يوحي أن للعلمانيين دوراً في ادراة شؤون الكنيسة مشاركة مع الاكليروس طالما انهم متساوون بالايمان وللتاكيد على التعاون جميعا لبناء جسد المسيح. وهذا ما يدعمه قانون 7 البند 1.بيد أن كل القوانين المطروحة الاخرى
تُقيد دور العلمانيين وتُحيده ،أو تُشير الى انعدامه في تحملهم المشاركة في مسؤلية ادارة الكنيسة الى جانب الاكليروس.وأكثرهم وضوحاً في السلطة المطلقةهو قانون191 بند 1 حيث ينص( للاسقف الايبارشي أن يحكم الايبارشية المعهودة أليه بسلطان تشريعي وتنفيذي وقضائي) ولم يحدد هنا هذه السلطة على الروحانيات أم الادارة.
والقانون رقم 43 ينص على(أن أسقف الكنيسة الرومانية الذي تستمر في شخصه المهمة التي منحها الرب على وجه خاص لبطرس أول الرسل لتنتقل لخلفائه، هو رأس هيئة الاساقفة ونائب المسيح وراعي الكنيسة بأسرها في هذا العالم، ومن ثم يتمتع بحكم منصبه بالسلطان المألوف الاعلى المطلق المباشر الشامل في الكنيسة وله على الدوام الحرية في ممارسته) وفي نفس السياق يخص البطريرك والاسقف وفقاً للقانونين 56 و 178. بالطبع شُرع هذا القانون وغيره لتبرير السلطة الالهية المفوضة لهم. فالطاعة واجبة على كل مؤمن لرعاة الكنيسة كما يُشير اليه القانون51بند 1 ( أن ما يعلنه رعاة الكنيسة ممثلوا المسيح، بصفتهم معلمين الايمان، أو ما يقررونه، بصفتهم رؤساء الكنيسة، يجب على المؤمنين أن يتلقوه بروح الطاعة المسيحية، مدركين مسؤليتهم الشخصية).من الطبيعي وجوب الطاعة في المسائل الايمانية لمركزيتها فيما اذا أقر المؤمن أن يكون من أتباع الكنيسة في الايمان العقائدي لكي لا تخلط الامور وتبرز الاجتهادات. أما ماذا لو حدد وأصر الكاهن المطرب الفلان لاحياء أمسية يقيمها المجلس الخورني؟ أو ماذا عن سلطته في استخدام المرفقات البنائية للكنيسة مثل القاعات لاغراض ثقافية واجتماعية يقيمها المؤمنون بحسب مزاجه؟ أو عن تحديد راتبه الشهري والتصرف الفردي باموال الكنيسة مثلا؟ هل تستوجب هنا الطاعة للرعاة وفقاً للقانون المذكور؟ لابد من التوضيح لحالة الطاعة ،فهل الطاعة واجب ومفروضة دون نقاش حتى لو كان الاكليروسي على خطأ؟ وهنا أقصد في الشؤن الادارية الكنسية.على سبيل المثال لو حدد الكاهن لنفسه الراتب بخمسة الاف دولار فهل علينا طاعته ؟علما ان المبلغ كافي لمعيشة عائلة من اربعة اشخاص في كندا شهرياً.أو الجميع في الكنيسة يتقنون لغة الام المحكية ولكنه يلح على أقامة القداس وممارسة الطقوس بالعربية، فهل علينا ان نقول نعم؟
وتتجلى السلطة المطلقة لرعاة الكنيسة بمختلف رتبهم الكهنوتية في القوانين الخاصة بالمجالس الكنسية البطريكية او الايبارشية او الخورنية بينما دور العلمانيين يقف عند حد الاستشارة فقط، وفقاً للقوانين الاتية:
يحدد القانون 295 وجوب تأسيس مجلس رعوي في كل كنيسة،حيث ينص( ليكن في الرعية وفقاً للشرع الخاص بالكنيسة المتمتعة بحكم ذاتي ،مجالس مناسبة لمعالجة الشؤون الرعوية)والقانون273 بند1 يعرف المجلس الرعوي ومن يضم( يضم المجلس الرعوي،وهو هيئة استشارية ،لاغير،الاكليروس ورهبان واعضاء جمعيات حياة مشتركةعلى غرار الرهبان،ولاسيما علمانيين يعينون بالطريقة التي يحددها الاسقف الابرشي).والبند4 من القانون نفسه يوضح (لا يعين في المجلس الرعوي الا مؤمنون يتميزون بايمان راسخ واخلاق حميدة وحكمة).وللاسقف الابرشي السلطة المطلقة وفقاً للقاون 237 بند 1( أن يدعو المجمع الابرشي الى الانعقاد ويرئسه بنفسه أو بواسطة غيره وينقله ويؤجله ويعلقه ويحله).وهذا يسري على المجالس الرعوية في الكنيسة اذ يتمتع الكاهن بنفس السلطة عليه.ومما هو جدير بالذكر،في النقطة سادساً من بند 1 من القانون رقم 143 يؤكد( من جملة الذين يدعيهم البطريرك الى المجمع البطريركي أثنان من
العلمانيين من كل أبرشية الى جانب الكهنة والاساقفة) وبصفة مستشارين بحسب القانون140 لانه يعتبر المجمع البطريركي هيئة استشارية.وهل هذا يحدث يا ترى؟
يقتصر دور العلمانيين في المجالس الرعوية على الاستشارة لاغيره ،والاستشارة لا تُلزم الا بالاستماع.وهذا ما يؤكده القانون 405 بند1 ( العلمانيون الذين يتميزون بما يجب من معرفة وخبرة ونزاهة،أهل لان تستمع اليهم السلطة الكنسية كخبراء أو مستشارين، سواء كأفراد أو كأعضاء في مختلف المجالس أواللقاءات، الرعوية مثلاً والايبارشية والبطريركية).والقانون رقم 15 بند 3 يعد مشاركة العلمانيين لابداء ارائهم لخير الكنيسة حق لهم ،حيث ينص(ولهم الحق بحسب مايتمتعون به من علم واختصاص ومكانة ،بل عليهم أحياناً الواجب،أن يبدوا رأيهم لرعاة الكنيسة في الامور المتعلقة بخير الكنيسة ،وان يطلعوا سائر المؤمنين على هذا الرأي،مع عدم الاخلال بسلامة الايمان والاحترام الواجب للرعاة ومع وضع المصلحة العامة وكرامة الانسان في الاعتبار) وهو حق ولكن لايعدو الاستشارة وفي كل الاحوال احترام الرعاة وطاعتهم .
تؤكد القوانين اعلاه بالرغم من التناقض أو الغموض في بعضها لتوضيح دور العلمانيين في ادارة الكنيسة يقتصر على الاستشارة لاغير، والاستشارة كما ذكرت غير ملزمة الا بالاستماع أي واجب على الاكليروسي أن يستمع على اراء المؤمنين، الا أنه في النتيجة غير ملزم للأخذ بها. كما للاسقف أو الكاهن الحق المطلق للدعوة الى تاسيس المجلس أو حله وهو صاحب السلطة ليقرر في النهاية ماهية الاجراءات التي ستُتخذ بخصوص الشؤون الكنسية. و له الحق المطلق لاختيار وتعيين أعضاء المجلس من مجموع المؤمنين،الامر الذي قد يؤدي الى تأثير مزاج ورؤية الاسقف او الكاهن في تقدير مدى أهلية وأمكانية المُختار ليكون عضوا في المجلس وغالباً ما تتأثر بطبيعة العلاقات، فمثلا يميل أغلبهم لاختيار الاثرياء من المؤمنين وأهمال أصحاب الخبرة أو الراغبين في خدمة الكنيسة، وهذا يؤدي الى عدم تحقيق العدالة وحرمان البعض من تسخير خبراتهم وتحقيق رغباتهم لاجل الكنيسة. ومما هو جدير بالذكر في بعض الكنائس يُنتخبون أعضاء المجالس من قبل جماعة المؤمنين، وهي عملية سليمة، الا أن قبول الترشيح يحدده الكاهن او الاسقف، وهذا لا يختلف عن التعيين، وواجبهم يبقى في حدود الاستشارة، والراي الاخير للكاهن او الاسقف.
في النتيجة أن دور العلمانيين هامشي جداً في أدارة شؤون الكنيسة وفقاً للقوانين المذكورة ومعدوم طالما السلطة المطلقة هي للاسقف والكاهن في الاقرار والتنفيذ.وما على العلماني الا الطاعة دون مناقشة. وعليه أدعو العلمانيين الذين يشتكون من أهمال دورهم وعدم مراعاته في أدارة شؤن الكنيسة من حيث النشاطات التي هي خارج سياق العقيدة أي الدنيوية أن يعوا أن القوانين الكنسية تحول دون تحقيق رغباتهم ودورهم. بل الدور المطلق هو للاكليروس في التشريع والتنفيذ.وعلينا جميعاً أن نعي تماماً أن كل ما يردده البطريرك أو الاسقف أو الكاهن من أقوال كما أشرت أليها في المقدمة ،ماهي ألا انعكاس للقوانين الحالية وهم صادقون في ذلك .وهذا ما ترسخه تنشئتهم الكهنوتية من البدء والى يوم رسامتهم التي تُختم بالسلطة المطلقة التي تُمنح لهم أثناء مراسيم السيامة.
ومن جهة أخرى أدعو الاكليروس بمختلف درجاتهم الكهنوتية أن لا يكرروا عبارة الكنيسة هي الجماعة المؤمنة أو هي انتم وليست كومة حجارة،هذه العبارة لا تعدو الا التفاتة غير موفقة ولا تعبر عن القوانين
الكنسية ،انما هي لاحتواء تذمر العلمانيين من الوضع القائم.بل عليهم القول أن الكنيسة هي مجموع الاكليروس ولا غيرهم أما المؤمنون فهو الاتباع أو القطيع عليهم الطاعة ،مثلما يقود الراعي قطيعه كيف ومتى ما يشاء.وعليهم الواجب لتلبية أحتياجات الكنيسة كما ينص القانون رقم 25 بند 1 ( يجب على المؤمنين أن يلبوا أحتياجات الكنيسة بحيث تحصل على العون الضروري لبلوغ أهدافها ،لاسيما العبادة الالهية وأعمال الرسالة والمحبة ،وما يلزم المعيشة خدامها اللائقة).
كان المفروض على مشرع هذا القانون أن يربطه بالقوانين الاخرى التي تخص دور العلمانيين في ادارة المؤسسة الكنسية، طالما أن المؤمنين هم المسؤلون لتدبير حاجات المؤسسة باموالهم لمختلف النشاطات بما فيه معيشة خدامها من الاكليروس .حيث أن في كل مؤسسة تترابط العناصر الثلاث، طبيعة العلاقات والاموال والاشخاص، فالمؤسسة التي يمولها الاشخاص فلابد من المشاركة في رسم خارطة العمل لها بالمشاركة في تشريع القوانين التي تنظم العمل.هنا الاختلاف مع المؤسسات الرسمية أو المؤسسات التي تُمول من جهة محددة، بالطبع تلك المؤسسات لا على منتسبيها الا التنفيذ أو الاستشارة لانهم لا يشاركون في تمويلها.بينما مؤسسة مثل الكنيسة طالما ان الممولين هم المؤمنون فمن حقهم المشاركة في الادارة،وتحديد النفقات وتنظيم الايرادات، وبالاحرى أن ينفردوا بادارتها مع واجب الطاعة لما يقره الاكليروس من المبادىء الايمانية.أو المشاركة والتعاون بين الجميع، اكليروس وعلمانيين على اضعف الاحتمالات ،لا أن يتسلط الاكليروس وعلى العلمانيين الطاعة.
الحاجة الى التغيير في العقلية والتع-اط*ي
بأختصار وكما هو معروف للجميع أن المجتمعات في دينامية مستمرة في التغيير، ومن مقارنات تاريخية مرحلية تكشف لنا جلياً التغيرات التي طرأت على المجتمع البشري والعقلية والتفكير الانساني، وكيف أن المجتمعات تكسر وتتجاوز طوق الجمود الفكري في مختلف المجالات، وفي ضوء هذا التغيير في التفكير تغيرت معالم الحياة قاطبة، وأخص بالذكر مع بداية القرن الثامن عشر. وتسارع التغيير في عصرنا بعد منتصف القرن العشرين، واشدها يومنا هذا الذي يعتبر عصر الاعلام والاتصال المفتوح والواسع وسريع الانتشار الذي جعل من المجتمع البشري يعيش في قرية صغيرة، بمعنى أن التفكير يتغير ومعالم الحياة تتغير دون الحاجة الى الانتقال الجغرافي .فبدلا من أن الغالبية العظمى من المؤمنين أو اتباع الكنائس لايعلمون شيئاً عن قوانين الكنيسة وادارتها ،الان صار بمتناول أي فرد ان يطلع عليها ويعبر عن رأيه ويحدد موقفه. بالعكس ما كان سائداً في السابق،أنحسار الاطلاع عليها من قبل الاكليروس أو تشريعها،فاليوم المؤمنون تجاوزوا الكهنة علماً وثقافة ودراية بما يجري حولهم من تطورات، وظلت عقلية الاكليروس تتقيد بقوالب ثابتة في مواقفها ونظرتها للتطورات الحضارية.
ولما كانت المؤسسة الكنسية جزء حيوي من البناء الاجتماعي وفي علاقة عضوية مع كافة المؤسسات التي يتكون منها هذا البناء، فهي مجتمعة تؤثر وتتاثر ببعضها البعض سواء سلباً أو ايجاباً. فاصبحت الكنيسة معرضة بمجمل أوضاعها وظروفها وأحوالها داخلياً وخارجياً للاعلام المفتوح. وتأخذ العلاقة بين الاكليروس والمؤمنين العلمانيين الحيز الكبير من الحديث والتحليل، ولاننا أمام الاعلام المعاصر من هذا النوع والحرية في التعبير عن الراي الذي تدعمه كافة السياسات التقدمية ومنظمات المجتمع الدولي الخاصة
بحقوق الانسان، وامام التغيرات الفكرية وتحديات العولمة التي تؤثر في تغيير مسارات المواقف الشخصية للانسان تجاه المؤسسة الدينية، فبدلا من أن يكون موقف الانسان الخضوع التام والاعمى لسلطتها كما كان سابقاً، الان اصبح موقفاً مُتحدياً ومُناقشاً وموقفاً يؤكد على الذات وأهمية المشاركة في المؤسسة الدينية طالما أنه عضو فيها وكما هو الممول الرئيسي لها لديمومتها.
لكي تستمر الكنيسة كمؤسسة دينية في عطائها وتحقيق أهدافها الروحية والاجتماعية عليها أعادة النظر والتنقيح في قوانينها وفقاً للمتغيرات الاجتماعية والفكرية والثقافية في المجتمع البشري، والا سوف تنكمش وتنحصر في دائرة ضيقة وينتابها الاغتراب النفسي. وأهم تلك التغيرات التي اراها أساسية ومهمة لكي تتوافق وتتكيف في عملها هي التي ترتبط بالسلطة المطلقة للاكليروس فيها. فمن يقول لا سلطة مطلقة للاكليروس في الكنيسة فهو متوهم،لان القوانين الكنسية لا تشير الى غير ذلك كما تبين اعلاه. ولما كانت هذه السلطة المطلقة مشروعة بنظر المشرعين من الاية الانجيلية” ان كل ما تربطونه على الارض يكون قد رُبط في السماء وما تحلونه على الارض يكون قد حُل في السماء” متى18:18 .انما هي مطلقة في تأدية الاسرار الكنسية المعروفة وليس على كل معالم الحياة للمؤمن والعضو في المؤسسة الدينية، كما اني ارى انطلاقاً من الفكر الاجتماعي أنها آية لها أهميتها الاساسية في موضوع السلطة والعلاقة بين الاكليروس والعلمانيين لتفسح المجال للسلطة الكنسية لكي تتكيف في طبيعتها وتع-اط*يها وديناميتها وفقاً للمتغيرات الحتمية لكل مرحلة تاريخية للمجتمع البشري، ففي بداية المسيحية وبمرور الزمن لم تكن العقلية البشرية من مواصفات كما هي الان، ولم تكن طبيعة السمات الديمغرافية المكتسبة للانسان كالتعليم والمهن والنظم السياسية كما هي الان. فكل المتغيرات تجعل من الافراد المؤمنين يمتلكون عقولاً وأفكاراً غير تلك التي كانت سائدة في العصور السابقة التي كانت تتقبل السلطة كما هي. فأصبحت الحاجة مُلحة لكي لا يتقبل الناس تلك السلطة في كل جوانب حياتهم وحياة المؤسسة التي ينتمون أليها.
وأخيراً لنا أمل لوجود البابا فرنسيس على قمة الهرم في المؤسسة الكنسية الكاثوليكية ووجود البطريرك الكاردينال مار لويس ساكو،كاردينالا ومستشارا في الفاتيكان،أن تُنشط مسألة اعادة النظر بالقوانين الكنسية وتشريعها من جديد في ضوء التطورات الحضارية البشرية،مع أعادة النظر في القوانين التي تُنظم العلاقة بين سلطة الحبر الروماني والفاتيكان بخصوص الشؤون الادارية للكنائس التي تشترك معها في الايمان .أي الكنائس المُسمى بالقوانين الكنسية “المستقلة أو المتمتعة بالحكم الذاتي “.