هيثم الزبيدي.. شكسبير كان صحافياً
هيثم الزبيدي.. شكسبير كان صحافياً
هاملت الصحافة العربية
كاتب المقال يحتاج إلى الرشاقة اللغوية والبخل في عدد الكلمات حتى إن كان يُحلِّل حدثًا معقّدًا. المجازات والاستعارات تسرق العديد من الكلمات والأفكار وكثرتها ثرثرة.
الدكتور هيثم الزبيدي غادرنا باكرًا، وأجد دينًا عليّ أن أكتب مقالًا، هو في الحقيقة مقالٌ مشتركٌ معه، يعتمد على مراسلات عبر البريد الإلكتروني، احتوت على نصائح تفضّل بها عليّ في ما يخص الكتابة؛ من التشبيهات، إلى كيفية استخدام الفواصل وعلامات التنقيط، وما سيحدث لقيمة النص المنتشي باستخدامها.
تندلع الحرائق في غرف التحرير الصحفية. هي لا تُشغِّل مرشّات الماء في أبنية القرن الحادي والعشرين، لكنها تُسبِّب عبوسًا وأخاديد على جبهة المحرِّر. هذه الحرائق، التي ينجو منها البناء على حساب وجه المحرِّر، يكون سببُها في أغلب الأحيان اتصالٌ هاتفي يشبه عود كبريت من كاتبٍ حانق.
المحرِّر يصبح في تلك اللحظة خرطوم إطفاء لحريق قلب الكاتب. معظم الكُتَّاب ناريون، وقد لا يُفلح خرطوم الإطفاء في إخماد نيرانهم، ولو بمحيطات العالم. المحرِّر الذي يُصاب بعدوى النيران يُطفئ زملاؤه ناره بالابتعاد عنه. بعد أن تبدأ الأحداث والأخبار بالانهمار عليهم في مطبخ التحرير، يبدأ الزملاء بتوجيه الأسئلة برشاقة لا تسمح بأيّ حرائق جانبية. يسألونه عن تركيبة عود الكبريت التي دفعت زميلهم لارتداء بدلة إطفائي. الجواب، كما خبروه دائمًا، ينتمي إلى علبة كبريت عمومية، اجترحوا أن يجمعوا فيها الأنواع المختلفة من تلك العيدان “غيَّرتُ حرف جر، فاتهمني بالاعتداء عليه وق*ت*ل نصِّه.” يضحك الجميع قائلين “الحمد لله ليست كلمة أو عبارة.” ولكي يضمنوا نزع بدلة الإطفائي عن مزاج زميلهم، ولكي يصبح الآن كله قلمًا، يغنون معًا هذا المقطع الكلاسيكي “إنها ضريبةُ المهنة،” والتي يحلو لزميلنا الكبير التربيت عليها بدفء “ربك يعين.”
◄ قداسة النص مؤقتة، وأسلوب الكاتب قد يكون حصاة في كلية النص. أنصح الكاتب بأن يطالب المحرر بعدم الرحمة مع نصّه الصنم
الحرائق التحريرية هذه تُخفي نظيراتها الأكبر، التي تندلع مثلاً أمام المحرِّر المسؤول عن صفحة الرأي. إن نجا من جهد التصحيح لتخفيف بعض العبء عن الفريق المختص بذلك، فهو لن ينجو من علامات التنقيط، تبذير الكاتب باستخدام علامات الاستفهام والتعجب والفواصل. مصيره غالبًا الغرق في بحار التنقيط ومحيطات الفواصل. يتمنى من الله أن يُرسل نارًا وحبلًا يُساعدانه في تنشيف النص، لكن زمن المُعجِزات دائمًا ما يطير هاربًا من نوافذ التحرير.
علامات التنقيط، أيها السادة الكُتَّاب، لا تتكرر. بشرحٍ مبسط، كل واحدة منها هي نقطة نهاية سطر بشكل أو بآخر، مُخفَّفة أو مُحرَّكة، مثلما نُحرِّك الحروف. مثلًا، علامة الاستفهام هي نقطة بعصا ملتوية للدلالة على السؤال. علامة التعجب نقطة بعصا تفيد النداء أو التعجب. الفاصلة المنقوطة تفيد التوقف والتعداد البسيط. النقطتان فوق بعضهما تفيدان التوقف استعدادًا للعد، كما تُستخدم في تفريق الساعة ذات العد الستيني عن الأرقام العشرية (نكتب الساعة 9:35 وليس 9.35). الفاصلة استغناء مؤقت عن النقطة إلى حين استكمال الفكرة، وليست تريثًا أو فسحة تنفس كما يحلو للبعض استخدامها.
لا معنى لاجتماع النقطة مع علامة الاستفهام؛ فالاثنتان نقطة، لكن الثانية تفيد الاستفهام. التكرار لا يفيد، تمامًا كما أن ضمتين أو كسرتين لا تؤثران على الحرف؛ لذا فإن “؟؟” لن تزيدنا تساؤلًا، فإما أن نسأل أو لا نسأل. في بعض الأحيان، أصبحت “؟!” أو “!؟” خطأً دارجًا، ولكن يمكن تمرير واحدة منها في كامل النص، على ألا نخنق النص بها. أقسم لكم أن “النص كلمة وليس تنقيطًا.” عليكم، وبحسب رأينا المتواضع، أن تُدرِّبوا أقلامكم على “الجملة القصيرة المنقوطة، فهي أفضل الحلول.” لنا دليلان: كلام الله في تنزيله، حيث الجملة القرآنية من أقصر الجمل المكثفة، وشِعر العرب الذي أمسك على نفسه صدرًا وعجزًا، وأتمَّ المعنى ببيتٍ واحد.
الملاحظات السابقة كانت سوطًا جلدني مرة. كبيرُنا في “العرب” اللندنية عاب عليّ قائلًا “عندما تكتبون تكثرون من الفواصل، لدرجة قد تتسبب في تعثّر القارئ عند محاولته فهم الجملة. قمتُ بشطب الكثير منها لتكون سلسة.” أعترف بأنني أُكثر من الفواصل، فكل جملة لي جنة عدن وكبش إسماعيل. أي كاتب يقول العكس هو كاذب.
الجلدة الثانية جاءت بسبب مقالٍ لي استخدمت فيه صيدلية “كوزمتك”، وزدته طيورًا وأجنحة. فكانت الملاحظة “الإكثار في الاستعارات الإيحائية، مثل رموش، ماسكارا، عصافير، زرازير، وسليكون إعلامي. لا شك أن هذه الاستعارات مفيدة، لكن الإكثار منها في مقالٍ واحد يجعل الأمر يبدو وكأنه افتعال أو استعراض لغوي. شخصيًا، أستعير في مقالاتي، وأنا مع الفكرة. الاعتراض على الإكثار، وليس الفكرة.”
كاتب المقال يحتاج إلى الرشاقة اللغوية والبخل في عدد الكلمات، حتى إن كان يُحلِّل حدثًا معقّدًا. المجازات والاستعارات تسرق العديد من الكلمات، فكثرتها ثرثرة، والمطلوب منها أن تعمل كـ”آه يا عين”. المثال على ما ذهبنا إليه هو عندما تكتب عن الأحداث السياسية، التي غالبًا ما تكون متشابكة، فإن الاستعارات التي تظنها نافعة لتطييب مذاقها، كأنها رشّة سكر أو حبة ملح، يجدها القارئ بوفرة في البيانات الرسمية والخطابات الحزبية.
◄ معظم الكُتَّاب ناريون، وقد لا يُفلح خرطوم الإطفاء في إخماد نيرانهم، ولو بمحيطات العالم. المحرِّر الذي يُصاب بعدوى النيران يُطفئ زملاؤه ناره بالابتعاد عنه
هاتان الجهتان تكثران من الاستعارات، لتقولا الشيء القليل بأكبر عددٍ من الكلمات. المؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي يلجؤون لذلك أيضًا، لإخفاء السطحية وادّعاء العمق. النتيجة؟ أنت مُطالب بالإيمان بأنك تكتب عن حدثٍ كتب عنه العشرات قبلك على أقل تقدير. إذًا، ما العمل؟
تشظّي المشهد الإعلامي، يا صديقي الكاتب، هو أحد أهم الأسباب التي خفّضت حظوظك في أن يكون لك جمهور. أنت الآن، في الزمن الرقمي، تمتلك قرّاء مخلصين، وهم قلّة، وقرّاء عابرين، وهم الأكثر. تريد أنت أن تزيد من القِلّة، وتُحفّز الكثرة على الاستمرار كعابرين إليك، لا عليك. أغرِهم إذًا. اختر مجازات أو استعارات ترصف الطريق الذي تسير فيه المعلومات، شريطة أن يكون ذلك في نهاية كل فقرة أو في منتصفها، للحفاظ على التماسك وجذب عيون القارئ. الاختيار المثالي يكون من ألبوم الصور القريبة إلى قلب القارئ، للاستفادة من وعيه الجمعي. لا تنسَ تغليفها بواجهاتٍ حجرية من التاريخ، وإلا كان مقالُك الجميل فانوسًا بلا جنيّ، وأنت لست علاء الدين.
قداسة النص، التي لا يعترف بها المحرر للضرورات المهنية ولسوء حظه، ليست مزاجية. القُدسية الافتراضية لما تكتب يُقرّرها النص ورشاقةُ أسلوبك. المحرر سيكون مضطرًا لتقييم إن كانت هناك علاقة جنينية بين رداءة بعض ما في النص وألمعية فكرتك. الحظ السيء سيدفعه إلى أن يكون هاملت تحريريًا، متسائلًا “هل اجتثاثُ الرديء سيترك ألمعية الفكرة سليمة؟”
الكثير من القرّاء قد يبحثون عن الأسلوب لهضم المضمون، والمحرر مُطالب بضمان أن يكون الشكل النهائي للأسلوب متوافقًا مع ذائقة القارئ لهذا الكاتب أو ذاك. بربّكم، ألا تجدون أن شكسبير كان محررًا قبل أن يكون كاتبًا؟
قداسة النص مؤقتة، وأسلوب الكاتب قد يكون حصاة في كلية النص. أنصح الكاتب بأن يطالب المحرر بعدم الرحمة مع نصّه الصنم. اتركوه كي يصنع منه صنمًا من تمر عساه أن يُؤكل.
مسار عبدالمحسن راضي
كاتب وصحافي وباحث عراقي
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.