آراء متنوعة

هل خان الزعيم عبد الكريم قاسم ثقة الباشا نوري السعيد

قراءة تشخيصية
شوقي كريم حسن!!

في لحظة من لحظات العراق الملبدة بالقلق، كانت الرياح تدور حول عرشٍ هشّ، وعيون الملوك تُغمض تحت رنين الدبابات، يُطرح سؤال يُشبه عود ثقاب: هل خان عبد الكريم قاسم ثقة نوري السعيد، فانقلب عليه؟!!
ربما لا يحمل السؤال إجابة بسيطة، لأنه ليس سؤالًا عن فعل، بل عن نوايا، عن طبقات معقدة من الطموح، الخوف، والدهاء السياسي الذي تماهى مع قدر البلاد. نوري السعيد، الرجل الذي خبر دهاليز الملوك ودهاليز الإنكليز، لم يك ساذجًا ليمنح ثقته مجانًا، لكنه حين دفع بعبد الكريم قاسم ليكون على رأس الفوج الذي سيحسم الأمر في بغداد يوم 14 تموز 1958، كان يراهن على عسكري ملتزم، ضابط معروف بالانضباط والصرامة، بعيد عن ضجيج السياسة، يُتوقع منه تنفيذ الأوامر لا صناعتها. لكن عبد الكريم قاسم، تجاوز تلك الصورة منذ سنوات، كان يحمل في داخله مشروعًا مختلفًا، ربما لم يكن متبلورًا تمامًا، لكنه قطعًا لم يكن مشروع نوري السعيد. عبد الكريم لم يكن ذيلًا لأحد، ولم يكن مجرد ترس في آلة الحكم الهاشمي. في دواخله، كانت تتخمّر فكرة كبرى: العراق يجب أن يتغير، التاج يجب أن يسقط، الشعب يجب أن يُخرج من عباءته المهترئة ويقف في الشمس. ما كان يعلمه نوري السعيد عن عبد الكريم قاسم أقل بكثير مما كان يجهله. وربما كان يرى فيه صورة الضابط الذي يمكن احتواؤه، بينما كان قاسم يرى في نوري السعيد أحد رموز عهد يجب اق*ت*لاعه من الجذر. الخيانة، إن وُجدت، لم تكن خيانة صديق لصديقه، بل خيانة مشروع لمشروع، نظام لنظام. عبد الكريم لم يكن فردًا متمردًا على وليّ نعمته، بل كان قائدًا ينقلب على بنية كاملة من الحكم والامتيازات. ولعلّ الأدهى، أن الانقلاب لم يكن وليد لحظة، بل نتيجة تراكم طويل من الشعور بالقهر الشعبي، والتمييز الطبقي، والاستلاب الوطني. ما يجعل السؤال مؤلمًا هو أن نوري السعيد لم يصدق حتى اللحظة الأخيرة أن هناك من سينقلب عليه من داخل “الأسرة”. لقد مات وهو لا يصدق أن عبد الكريم قاسم، الذي رآه ضابطًا ملتزمًا، صار قائد ثورة. أما قاسم، فلم يكن يفكر بالخيانة، بل بالتاريخ، وكان يؤمن أنه لا يمكن أن يُبنى مستقبل وفي القلب نوري السعيد. الخيانات السياسية لا تُقاس بمشاعر الأفراد، بل بمصائر الأمم. عبد الكريم لم يخن نوري، بل انقلب على كل ما يمثله نوري. وهل في السياسة “وفاء” إلا بقدر ما يخدم الغاية؟ السؤال يظل مفتوحًا، لكن الجواب، في الغالب، كُتب على أجساد الموتى، لا في كتب التاريخ. ولأن الجواب كُتب على أجساد الموتى، فثمن السؤال كان فادحًا، والثمن المدفوع لم يكن شخصيًا فقط، بل وطنيًا. حين سُحلت جثة نوري السعيد في شوارع بغداد، لم يكن عبد الكريم قاسم هو من جرّها، لكنّه بالتأكيد من فتح الباب للشارع كي يُخرج كل أحقاده الدفينة. لم يكن الهدف رأس نوري فقط، بل ما يمثله من طبقة سياسية كانت تمسك بخيوط العراق منذ تأسيس الدولة.

وبين عبد الكريم قاسم ونوري السعيد، كان هناك عقد اجتماعي غير مكتوب، تمزق في لحظة عن*ف مدوّية. الأوّل يؤمن بأن الجيش هو أداة التغيير الوحيدة، والثاني كان يعتقد أن الدولة تُدار بالحكمة والتحالفات. لكنّ الزمان لم يعد زمان الحكمة، بل زمان الرصاص. والرصاصة لا تنتظر إذنًا كي تُطلق. عبد الكريم قاسم لم يكن خائنًا بمفهوم الندم أو الغدر، بل كان ابن لحظة ثورية، تشبه الزلازل، لا تميز بين عدو وصديق. لحظة تطحن الجميع، لتُعيد رسم الخريطة. وربما لهذا السبب، لم يحتفل عبد الكريم كثيرًا بسقوط خصومه، لأنه كان يعرف – في أعماقه – أن الزمان سيجرّ عليه نفس السنن. وأن من ينقلب على النظام، سيكون يومًا ما ضحية لانقلاب آخر. وبالفعل، ما إن استقر له الحكم، حتى بدأت الضباع تقترب. وحين جاءهم الرد عام 1963، لم يُمنح قاسم حتى فرصة الدفاع عن نفسه، كما منحها – غريبًا – للملك فيصل ونوري السعيد. قُتل قاسم في دار الإذاعة كحيوان جريح، ولم يجد في اللحظة الأخيرة أحدًا يرد له “جميل الوفاء”. التاريخ إذًا لا يحكم على النوايا، بل على النتائج. وإذا كانت الخيانة تُقاس بما يُفضي إليه الفعل من شرخ في الثقة، فإن العلاقة بين قاسم ونوري السعيد كانت منذ بدايتها علاقة هشّة، قوامها الظنون. وربما لم يكن قاسم يريد أن “يخون”، لكنّه كان مستعدًا أن “ينقلب”، والفرق بين الخيانة والانقلاب، هو الفرق بين السياسة والأخلاق. هل خان عبد الكريم قاسم نوري السعيد؟
ربما لا. لكنه قطعًا لم ينسَ أن نوري يمثل عهدًا لا يمكن أن يستمر.
وربما نوري لم يُخدع، لكنه تأخر كثيرًا في رؤية الحقيقة. بين الخيانة والضرورة، سقطت رؤوس، وارتفعت شعارات، وضاع بلد. ولأن الجواب كُتب على أجساد الموتى، فثمن السؤال كان فادحًا، والثمن المدفوع لم يك شخصيًا فقط، بل وطنيًا. حين سُحلت جثة نوري السعيد في شوارع بغداد، لم يكن عبد الكريم قاسم هو من جرّها، لكنّه بالتأكيد من فتح الباب للشارع كي يُخرج كل أحقاده الدفينة. لم يكن الهدف رأس نوري فقط، بل ما يمثله من طبقة سياسية كانت تمسك بخيوط العراق منذ تأسيس الدولة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!