-نُخب القيادة- وجدليّة التغيير في الوعي العربي – ياسر قطيشات
تعتبر إشكالية التغيير واحدة من أعقد القضايا التي ما زالت تؤرق النخب الفكرية والسياسية في المنطقة العربية، فقد كشفت تجارب الحراك الشعبي عن فجوة عميقة بين الطموحات الثورية وإكراهات الواقع، مما يفرض إعادة التفكير في شروط مشروع النهضة وأدواته الفاعلة، ومسارات تحققّه.
ويتعيّن، بدايةً، الوقوف عند أدوار الوعي والثقافة والنخبة، باعتبارها المداخل الحقيقية لأي تحول تاريخي مستدام، بعيداً عن الانفعالات اللحظية والشعارات العابرة، بهدف تفكيك العلاقة الجدلية بين المشروع الفكري وبنية القيادة الثقافية، وممكّنات التغيير في ظل انسداد الأفق السياسي والاجتماعي العربي الراهن.
في ظل هذا السياق، تتكاثر التساؤلات الملحّة التي تلاحق المشهد العربي، وكأنها تعيدنا إلى سؤال التاريخ الجوهري: كيف يمكن غرس بذور الأمل في تربة طالها السُبات ولم تعد تسمح بالنمو؟ وهل تمتلك الثقافة والوعي والمعرفة القدرة على التأسيس لمسار تغييري بعيد المدى، أم أن حتى هذه المسارات باتت رهينة الاختناق والمصادرة؟
إن جوهر أي تحول تاريخي حقيقي ينطلق من الوعي، إذ لا وعي بلا مشروع، ولا مشروع بلا نخبة تقوده، وتجربة “الربيع العربي” تمثل نموذجاً صارخاً لهذا التعثّر؛ حيث تحوّل الحراك من مشروع تحرّر سياسي ذي أبعاد تغييرية كبرى، إلى مجرد انتفاضات مطلبية معيشية اختُزلت في قضايا “الخبز والوقود وارتفاع الأسعار”!
وهذا الانحسار لا يمكن تفسيره إلا من خلال ثلاثة أسباب متداخلة: اعتبارات الواقع القسريّة، فاعلية القوى المضادة، وغياب “الحامل” الفكري الواعي القادر على بلورة مشروع بديل!
فالنهضة الحقيقية تستدعي تفكيك شرطين أساسيين يقتضيان التأمل العميق؛ أولهما البوصلة الفكرية أو المشروع، إذ كثير من الثورات تؤول إلى الفشل لأنها تفتقر إلى وضوح الاتجاه؛ فالمشروع المطلوب لا يُختزل في شعارات عامة مثل “الحرية” و”العدالة”، بل ينبغي أن يتجسد في رؤية شاملة ومترابطة، تمتد إلى الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية، وتكون متجذرة في الواقع المحلي، لكنها في الآن ذاته قادرة على تجاوز القُطريات الضيقة واستعادة البعد العربي والإنساني الأوسع.
أما الشرط الثاني، فهو المدرسة الفكرية أو النخب القيادية الحيّة؛ فالحراك الشعبي، وإن كان يمتلك طاقة الحركة، يظل بحاجة إلى توجيه من قبل نخبة واعية تمتلك أدوات التحليل والفهم والربط، إن غياب هذه النخبة، أو تشظّيها، أو احتواؤها من قِبل قوى مناقضة، هو ما أفقد الحراك قدرته على الاستمرار والاتجاه، فإما تم ابتلاعه داخل بنية النظام القائم، أو جرى توظيفه من قِبل قوى لا تتبنى أهدافه الحقيقية.
ومن هنا، فإن أي تغيير جذري يظل رهيناً بأن يكون ذاتي المنشأ، نابعا من الداخل لا مفروضاً من الخارج، متجذراً في الوعي الجمعي للأمة، وفاعلاً بإرادة المجتمع وقناعاته، لا بما يُستورد من تجارب أو يُفرض من قوى خارجية!
في هذا الإطار، تشكل النخبة القياديّة الواعية “ٌقلقاً” حقيقياً لبنية الأنظمة العربية، لا لأنها تملك القوة المادية، بل لأنها تحتكر ما تفتقده هذه الأنظمة: الشرعية الأخلاقية والرمزية، والقدرة على الإقناع، لا الإكراه، ومن هنا، تسعى الأنظمة الشمولية إلى إسكات المدارس الفكرية واغتيالها في المهد، لأنها تدرك أن الفكر، متى تُرك لينمو، يصبح أكثر خطورة من السلاح.
وعليه، فإن النقلة الجذرية لا تتطلب ثورة سياسية صاخبة، بل ثورة فكرية صامتة وتراكمية، تنحت الوعي في عقول الأفراد بصبر ومثابرة، حتى تتحول إلى ثورة ذاتية تنمو داخل المجتمع، عبر قنوات الثقافة، والتعليم، والأدب، واللغة، قبل أن تنعكس في معادلات السلطة والتغيير.
وبدل التعويل على “حركة تغيير” علنية، تبدو الحاجة اليوم إلى نشوء جيل جديد من المفكرين، والمعلّمين والفنانين والكتّاب، القادرين على صياغة وعي يتجاوز حدود النهج القُطري الضيق، ويعيد الاعتبار للسؤال النهضوي الأوسع، عبر طرح الأسئلة الصحيحة، ولو قبل أن تحين لحظة الإجابة عنها، فالكتابة، والفكر، والثقافة، رغم القيود المفروضة، تظل المسار الأكثر واقعية لبداية مشروع تغيير هادئ وعميق، قوامه البناء التراكمي طويل الأمد، لا الانفعال اللحظي.
إن طريق الحرية لا يسلكه من يتمنى فحسب، بل من يمتلك الصبر، والإرادة والإيمان بأن الوعي هو الفعل الأول في مقاومة القمع والجمود، ومن هذا المنطلق، تبدو معركة الوعي معركة استراتيجية تتطلب مشروعاً لإعادة إنتاج النخب القياديّة، بعيداً عن الأضواء السريعة، وفي عمق المجتمع وتكوينه الثقافي والاجتماعي.
وبينما تتبدّل موازين القوى وتتغير معطيات الواقع السياسي، تبقى الثقافة والفكر هما الحاملان الأصيلان لأي نقلة نوعية، شريطة أن تتجذر هذه الحركة في عمق المجتمع لا في سطحه، وأن تتسم بالصبر الاستراتيجي لا بالتسرع الانفعالي، إن معركة الوعي، وإن بدت صامتة وبطيئة، تظل الأفق الأكثر جدية للتغيير المطلوب مستقبلاً، ولبناء نهضة لا تقف عند حدود اللحظة الراهنة.
وربما، وإن كنا لا نعيش لحظة التغيير الكبرى، إلا أن مسؤولية النخبة القيادية تبقى قائمة في التمهيد لها وتهيئة شروطها، وعبور الطريق نحوها، ولو بكلمة تزرع الأمل في عتمة “الظلام العربي”.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.