مقالات

(فورور)…. التسليع والتوحش الرأسمالي – شمخي جبر

(فورور)…. التسليع والتوحش الرأسمالي

“”كيف حالك بول، بقي متصلبًا ولم يرد على الذبابة التي كلمته.. علينا، نحن الذين نتاجر في الأعمال الفنية التي يقل سعرها عن 100 ألف باوند، تقبل سفالة السكرتاريات، وعدم التأثر إذا ما أغلق أحدهم الهاتف في وجوهنا، أو بصق بين أعيننا، ولأن ملابسنا رثة على الدوام، وملامحنا كالحة كوجوه عصابات الكوكائيين الألبانية، أظل طفيليًا بالنسبة لدار (كريستيز) ووضيعًا في نظر مديري معارض (تيت مودرن ص 6).””

في روايته (فورور) الصادرة عن (دار نوفل/ هاشيت أنطوان-2024)، يصر الروائي نزار عبد الستار على تمسكه بأدق الجزئيات في تعامله مع الزمان والمكان، مع ما يتطلبه ذلك من جهد كبير، إذ يتحدث الكاتب عن أماكن لم يزرها، لكنه مع هذا يدخل في تفاصيل الزمان والمكان وحيثياته، وهو ماعودنا عليه في جميع أعماله الروائية.
مضامين تاريخية
تتحدث الرواية عن رحلة بحث يقوم بها (صابر عفيف)، لاستعادة فورور والدته (وحيدة جميل)، المغنية في ملهى (مولان روج) في بغداد، وكمنجة خالته (بدرية) التي أهداها لها أنطونيو ستراديفاري، وهو موسيقيٌّ إيطاليٌّ، درّبها على العزف، وطوّر موهبتها، حين وصل إلى بغداد، وعاش فيها. في لندن “بعد 23 سنة قضيتها تاجر أعمال فنية، ووكيلًا لأجيال من الرسامين المخنثين ص 7.”
رحلة البحث المضنية هذه حملت الكثير من المضامين التاريخية والثقافية والاجتماعية والفنية. يقول الروائي نزار عبد الستار “في رواية فورور دخلت في عالم مزادات الفن، وقدمت مفهومًا مغايرًا عن الواجهات البراقة لهذه السوق، وقبل فورور دخلت في عوالم شركة الهند الشرقية البريطانية في رواية (الأدميرال لا يحب الشاي) وكيف تتحكم الشركات الكبرى بمصيرنا البشرى. أحرص دائمًا على أن تكون روايتي القادمة غير متوقعة وتحمل تجربة كتابية جديدة، فضلًا عن عوالمها المعرفية المغايرة.”
إشارات مهمة
ملاحقة الفورور والاستقتال في الاحتفاظ بالكمان هي حالة اعتزاز بالموروث رغم العروض الهائلة والمغرية التي عرضت عليه.. أمام عملية التسليع ووحشيته لم يستسلم صابر بل بقي صابرًا مكابرًا محافظًا على مالديه. الفورور الذي مازال يحمل عبق عطر أمه.. كان يشمه باعتزاز وحرص، إشارات مهمة لرابطة الأمومة وإرثها.
(سلين)، حبيبته التي ظل متمسكا بها، وهو نوع من الوفاء أحد سمات شخصية صابر الذي يرفض تسليع الجمال والثقافة والفن والمشاعر الإنسانية. كذلك عبرت سيلين عن مشاعر راقية بعيدة عما هو سائد من رخص المشاعر وبرغماتية الارتباط أو التعبير المادي الساذج عن إنسانيتها المتعالية، فهي تسعى لأن تكون عند كرم الموقف بلا مقابل. “أحب سيلين لأنها مكتفية بمعارفها، لا تتقبل أي تعديل في حياتها اليومية، ترى التقدم العلمي والتقني ابتزازًا وسرقة أموال، ومؤامرة ضد الطبقة الوسطى، وتعتقد أن الرب قدم كل ما في وسعه حين جعل لها دخلًا ثابتًا، لذلك عليها العمل بلا تحسبات مرهقة. ص7.”
سلطة السوق
التسامي الروحي هو ما حقق اللقاء الإنساني الشفاف المتعالي، الذي وصل إلى حد اللقاء غير الموعود وغير المتفق عليه مع متبنيات صابر، حتى أنها اصبحت تشبه كثيرًا شخصية صابر دون تخطيط مسبق ودون اتفاق. بل عبّرت سيلين وهي في قمة زهدها عن رفضها الزواج من صابر رغم علاقتهما العريقة والحميمية. إنه اللقاء الروحي القيمي بعيدًا عن توحش السوق وسلطته وتفرعن هذه السلطة.

قيم جمالية
في هذه الأجواء المادية التي تسحق كل ما هو إنساني وجمالي، كان ما يمكن أن نطلق عليها بـ (بزنسة) الثقافة، إذ للمال الكلمة واليد الطولى في جميع الأعمال الفنيّة التي تقدّم للمزاد، دون الأخذ بنظر الاعتبار القيمة الفنية والإبداعية.
“لا يتكلّمون عن الفنّ، إنّما عن المال” في ظل التسليع جرى فصل القيم الجمالية عن القيم الإنسانية والأخلاقية، تحويل كل ثقافة فكرية أو نشاط إلى سلعة، لها قيمة تخضع لقانون السوق لاستهلاكي، وتهدف إلى الربح المادي، حتى أصبح كائنًا نفعيًا يتحرك وفق مؤشرات السّوق وبورصة الأعمال، وليس انطلاقًا من بواعث الإبداع الفني.
“طوال سنوات خدمتي في (كريستيز) لم أسمع من أحدهم أيّ رأي فنّي، فكلُّ الحوارات تصبّ في التحضيرات ودقّة تطابق النتائج مع التوقّعات، حتّى عندما نُخمّن الأعمال فإنّ ذلك يتمّ بجوّ ماديّ، لأنّ أيّ لوحة تُعرض في المزاد هي ادّخارٌ واستثمارٌ ص 110.” في هذه الأجواء المادية اللاهثة خلف التربح والمادية الشرسة أصبح كل شيء سلعة، وحتى القيم صارت لها أثمانها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!