آراء متنوعة

سِرُّ السُّحُورِ والفُطور

علي الجنابي

أوَمَا رأيتَ يا صاحُ كيفَ هَبَطَتْ على مَدرجِ مَطَارِ الأيامِ طائرةُ شَهرِ رمضانَ، وإذ على متنِها “سُحُورٌ وفُطورٌ”، وذانِ ضَيفانِ مَسَافِرانِ أبيضَانِ، في كلِّ عامٍ علينا زائرينَ يَطلَّانِ. وإذِ السُّحُورُ شَرايينُهُ بالبركاتِ، وأوردَةُ الفُطُورِ بالرَّحماتِ تَفيضانِ. ضيفانِ بالعُلوِّ يَنهضانِ وبالسُّموِّ نابِضانِ، وللشَّهوةِ يخفضانِ وللشّقوةِ رافضان. ضيفانِ لرفعَةِ الإنسَانِ بِوَضَاءَةٍ يَحفَظانِ ولِلَطعَةِ اللِّسَانِ بِدَناءَةٍ نافضانِ. ضيفانِ بيدَيهِما حَقِيبَتانِ بالبُشرَياتِ تُومضانِ. فبُشرى الدُّعاءِ المُجابٍ عنِ الوئَامِ ما خلا رَجلينِ يتَباغضانِ، وبُشرى ختامِ الشَّهرِ الجائزةُ منَ الرَّحمنِ بعفوٍ ورضوان.
ثُمَّ يالسَناءِ مِمَّا حَمَلَ الضَّيفانِ مِن قَبسٍ مَلموسٍ بإعجازٍ، وإذ لا حاجةَ لنا هُنا لاستعانةٍ بصروفٍ وألغاز، ولا استدانةٍ من حورفٍ وإرجاز، لكشفِ ذا قبسٍ يهلُّ كلَّ حَولٍ خَفيّاً بذا إعجاز. ونحنُ لن نُباليَ ههُنا لنقدِ ناقدٍ باشمئزاز، لا ولن نواليَ لومةَ لائمٍ باستفزاز. ذاكَ أنَّهُ اعجازٌ مُحمولٌ على نَسَائِمَ نَهَرِ “الرَّيَّان”ومنهُ مُثقَلٌ باكتناز. إذ تَتسَلَّلُ تيكَ النَّسَائِمُ من بينِ قضبانِ صُدورنِا رويداً بلا جَلَبَةٍ وبلا اهتزاز، صُدورِنا كلِّنا أجمعينَ، سواءٌ أكانَ صَدرُ تقيٍّ نقيٍّ أم كان صدرُ شقيِّ بَغيٍّ هَمّاز. ثُمَّ لتَتَغلغلَ في الصَّدرِ لحظةَ أولِ سُحورٍ بلا استئذانٍ ولا احتراز، وثَمَّ يتَملمَلُ الصَّدرُ من حَيدٍ مُتَفَحِّمٍ بخَطايا عامٍ سَلف، ويَتَحلحلُ من قيدٍ مُتَجَهِّمٍ برزايا وإفراز. ثُمَّ يتَهَلُّلُ الإعجازُ في أمَدٍ ما بين أمساكٍ وإفطار ليقهرَ بإجهازٍ، كلَّ ما في خلايا الصَّدرِ مِن رانٍ ومِن تَصَابٍّ صِبيانيٍّ نَشَاز، ويُبَلِّلُ كلَّ خَليةٍ مَيْتَةٍ بللاً مَلموساً فيُقِيمَها بعَمدٍ ثابتاتٍ بارتكاز، فما تُترَكُ خليةٌ إلّا وهيَ كزُلالِ بيضٍ مكنونٍ بامتياز.
إي ورَبِّي إنَّ ذلكَ الإعجازَ لصائِرٌ كلّ حَولٍ بإمتِياز، وإنَّهُ لَيَقينٌ كيقيني بأنَّ بِئرَ زَمزمَ في دِيار الحِجاز. وأنّى ليَ جرأةٌ بتَسطيرِ حرفٍ مُتكلِّفٍ أو للجَهلِ مُنحاز، مالم يكُ رافعٌ يرفعُهُ بإحتراس ودافعٌ يدفعُ صَرفَهُ بإحتِراز. ولو ترى يا صاحُ إذ دافعُ الانشِراحِ بسُرورِ ورافعَ الارتِياحِ بحُبورِ، إذ هُما يَرفعانِ عن صَدرِ الصَّائمِ كلَّ كَدرٍ حينَ مَضغِهِ لأوَّلِ تُمَيرةٍ من الإفطار، وإذ هُما يشفعانِ لقَدَرِ القائمِ يومَ الآزفة ليرفَعَانهِ لعَنانٍ لا يَعْلُوَهُ عَنانُ أو يواز. وذلكَ هوَ الإنشراحُ الحقُّ بسُرور، والإرتياحُ الحقٌّ بحُبورٍ ، وذلكَ هو المَفاز، وإلّا فأَنْبِئِني إذاً، مِمَّ تَوَلَّدَ الانشراحُ ذاكَا، ومِمَّ تَخَلَّدَ ذلكَ الارتِياحٌ بامتياز؟ ومَن هوَ ذا الذي أتى بهما إلى صَدرِ الصَّائمِ بانحِياز؟ أفكان الآتي بهما أبي أم أباكِ، أم أخي كانَ أم أخاكَ باعتِزاز؟ لا ريبَ أنَّ الإنشراحَ والإرتياحَ ما أتيا إلّا من قَبَسِ ذلكَ الإعجازِ بإمتياز.
ثُمَّ أليسَ البَشَمُ بعدَ ضَرَمٍ يَفرِزُ تَقَزُّزاً وكآبةً ورُبَما بَراز؟ ولكن أنّى لتَقَزُّزٍ أن يَبرِزَ في نزالٍ لبِرازٍ ، ورَمضانُ حاضرٌ بأسمى طِراز. فَما شرايينُ رَحمتِهِ إلّا حَرسٌ شديدٌ حذوَ كلِّ خليةٍ في نسيجٍ من جهاز، وهمُ الإرصادُ منَ أولِ سُحورٍ حتَّى تصدحَ تكبيراتُ العِيد ببشرى الجَوائزِ والإنجاز. ثمَّ…
سَيَرحلُ عنّا رمضانُ وما أطَلَّ بهِ وما حَمَلَ من إعجاز، وسَيرحلُ معهُ صَومُنا وما أقَلَّ فيهِ وما نَفَلَ من إنجاز، مُوَدِّعاً لنَا حتى قابلَ إن شاءَ ربُّ الاعجازِ ﷻ أن يُصدِرَ كرةً أخرى رحمةَ منهُ بإيعاز.
إنَّ السُّحُورَ والفُطورَ ضَيفانِ أبيضَانِ مَهيبانِ فَضيلانِ وعَجيبا الطِّراز. أعادَهُما ربُّنا الحقُّ الحسيبُ ﷻ عليَّ وعلى أهلِ بيتيَ برحمةٍ وتَهذيب، وعلى أمّةِ مُحَمَّد ﷺ كافَّة، الشَّبيبةِ مِنهم والمَشيب، وهي بالقرآنِ مُتَوَسِّمةٌ مُتَجَسِّمةٌ بنابتٍ من اعتزاز، وبالنَّهجِ مَتَنَسِّكةٌ مُتمَسِّكةٌ بثابتٍ من انحياز. ولَنِعمَ السميعُ ﷻ هوَ، ولنِعمَ المجيب ربُّ الأسبابِ والإعجاز.

معانيَ الكلمات: البَرازُ، بالفتح: المكان من الأَرض البعيد، وكَنَوْا به عن قضاء الغائط ، أما البِرازُ بكسرِ الباء فهو مصدر من المُبارَزَةِ في الحرب . البَشَمُ : التُّخَمَةُ، الضَّرَمُ : غضَب الجوع، المعجم: لسان العرب.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!