حين تُصبح الجماعة عبئًا… عُزلة الإنسان كخلاص
الإنسان كائنٌ اجتماعي، وهو بطبعه يميل إلى الاجتماع والتجمّع؛ فهو يأنس بالإنسان كما يأنس الحيوان بالحيوان، ويعيش ضمن تجمّعات بشرية، كما تهاجر الطيور في أسراب، وتسير الدوابّ في قطعان.
فالغاية الأساسية والعظمى من اجتماع الإنسان بأخيه الإنسان، هي تحصيل المنفعة، والأنس، والسعادة، وتلبية احتياجاته النفسية والروحية والمادية… ؛ فإذا بطلت هذه الأسباب، انتفت الحاجة إلى الاجتماع البشري، ولم يبقَ ما يدعو إلى تحمّل عناء العيش الجماعي، ولا ما يُلزِم الفرد بالانخراط في الجماعة، إذ إن قوانين العيش المشترك تختلف اختلافًا جذريًا عن حال من يعيش وحده، فريدًا، في الصحارى والبراري والجبال.
ومع ذلك، قد يضحّي الإنسان بشيء من حريته الشخصية، ويكلّف نفسه عناء الالتزام بقوانين الجماعة، طمعًا في الأنس وتلبية احتياجاته المختلفة، المادية والمعنوية.
غير أن الأمر قد يسير على خلاف هذا الفرض، وتجري الرياح بما لا يشتهي، فيصطدم الإنسان بجماعة أو أفرادٍ فيها يُلحقون به الضرر الكبير، ماديًا كان أو معنويًا، رغم سعيه للاندماج معهم، والتماهي مع قيمهم وسلوكهم… ؛ فيُقابل بالإيذاء، ويُسام سوء العذاب، ويخسر بسببهم الكثير الكثير… .
وهنا يبدأ الإنسان بمراجعة حساباته، ويعيد النظر في قناعاته ؛ فإذا بالاجتماع البشري يزيده وحشةً وخوفًا، وبؤسًا، وجوعًا، وعطشًا، وغربة… ؛ بل قد تُهدَّد حياته ووجوده، فضلًا عن مصالحه.
حينئذ، يفرّ من الجماعة فراره من وحوش البراري، ويأنس بالوحدة، وتطمئن نفسه بالعزلة، عوضًا عن الصحبة والجماعة والصداقة البشرية.
وعندما يُضطر هذا الإنسان، بعد تحرّره من قيود الجماعة وأغلال الالتزامات الاجتماعية، إلى الالتقاء بأولئك أو هؤلاء، في مجلسٍ أو مناسبة، يشعر فورًا بالضيق والاختناق، وتنتابه طاقة سلبية خانقة… ؛ لأنه أدرك حقيقة مشاعرهم السلبية، وطاقاتهم المنخفضة، وسلوكياتهم المنحرفة، وآرائهم المعكوسة، وأفعالهم الباطلة.
لقد تحوّلوا إلى طاقة سلبية مدمّرة، تُحرق كل من اقترب منها، وتُصيبه بشرر الحقد، والحسد، والكراهية، والبغضاء، واللؤم.
ولعلّ هذه الحالة يمرّ بها كثيرون منّا؛ إذ نعيش أروع لحظات السعادة، ونستشعر الطاقة الإيجابية بكل كياننا، وننعم بالطمأنينة والرضا، ولكن… ؛ ما إن نرى هؤلاء، أو نجلس مع أولئك، في هذا المجلس أو ذاك، حتى تنتقل تردّدات طاقتهم السلبية إلينا، فنُصاب بالعدوى، ويُستنزف رصيدنا من الطاقة الإيجابية.
فهم كمصاصي الدماء، يمتصّون طاقتنا ومشاعرنا الإنسانية، ويرسلون إلينا مشاعرهم المشحونة بالكراهية والسلبية والظلام.
وعندها نصاب بالاختناق والكآبة، ولا نفيق من كبوتنا تلك، إلا بعد فترة من النقاهة، والاعتزال، والعودة إلى بروجنا الروحية العالية، حيث نستنشق هواء الصفاء الإنساني، ونستردّ ذواتنا من بين أنياب الجماعة المسمومة… ؛ فالإنسان الذي يجرّب مرارة الخذلان الجماعي، يصبح أكثر حساسية تجاه الطاقات السلبية من حوله… ؛ اذ إن التواجد في أماكن مكتظة بالوجوه المصطنعة، والمجالس المثقلة بالادّعاء والمظاهر، يُصيبه بالضيق والاختناق… ؛ و يشعر أن طاقته تُستنزف، وأن إنسانيته تُستباح… ؛ فكأنهم “مصّاصو طاقة”، يغذّون سُمّهم من فرح الآخرين.
في مثل هذه اللحظات والحالات ، لا يكون أمام المرء إلا الهرب… ؛ و الهرب إلى ذاته، إلى عزلته الطاهرة، إلى برجه الروحي العالي ، حيث لا قناع، ولا مجاملة، ولا سمّ يُحقن في ابتسامةٍ زائفة.
نعم، العزلة قد تكون خلاصًا… ؛ فهي ليست دائمًا مرضًا نفسيًا او انهزاما اجتماعيا وتقهقرا شخصيا ، بل أحيانًا ردّ فعلٍ نقي على تلوّث العالم… ؛ هي استراحة المقاتل، وتأمل الحكيم، وانطواء الشاعر… ؛ وهي، في بعض لحظات الحياة، القرار الأكثر صحة ونقاء.