جزيرة الاحلام . الجزء الثالث / الفصل الاول
هناء الالوسي
ما إن استلقيتُ على الأرض منهكًا من رحلة الإبحار، حتى غفوتُ كأنني لم أنم طويلًا. ثم استيقظتُ من كابوسٍ وعدتُ إلى النوم سالمًا معافى. مرّت الساعات دون أن أشعر. ثم أشرقت الشمس في السماء، وبدأت أشعتها الذهبية تلامس جسدي النحيل، فأشعر بحرارتها وتوقظني. تحركتُ وتمايلتُ كأن صوتًا يناديني لأستيقظ. نظرتُ إلى الأعلى وما حولي، فلم أرَ شيئًا سوى ملابسي المغطاة بالرمال.
نهضتُ ونفضتُ عنه همومي كأنني أزيل هموم حياتي التي مضت هباءً. في تلك اللحظة، شعرتُ بجمالٍ يتدفق في روحي، وطيور الأمل تُحلّق وترقص رقصة فرح، تُرسل لي أصواتها عبر الفضاء مرحّبةً بي في تلك البقعة البعيدة من الأرض. غلبني الفضول لأستكشف ما حولي، لكنني لم أجد ما يُرشدني إلى وجود الناس. في تلك اللحظة، خفق قلبي قلقًا وخوفًا.
لكنني قلتُ: لمَ الخوف؟
كان الرحيل آخر خيار. واصلتُ البحث بخطواتي الحذرة، المجنونة، المتعبة، القلقة، آملةً أن أجد شيئًا.
كأنّ هوسًا رن في أذنيّ لأنظر خلفي، فوجدتُ كوخًا يتصاعد الدخان من فوّهته العليا. في تلك اللحظة، امتزج الفرح بالخوف مما رأيت. فرحٌ بوجود الحياة وخوفٌ منها، لم أعرف ما هو، كيف، أو لماذا. أقنعتُ نفسي بجرعةٍ من القوة، وبدأتُ أخطو خطواتي، متعثرةً بين الحين والآخر، وكلما قلتُ إني وصلتُ، اكتشفتُ أن المكان لا يزال بعيدًا.
هل هو خوفٌ أم فشل، لا أدري؟
أم حيرةٌ بشأن أمرٍ عزمتُ على فعله وقد أدفع ثمنه؟ أم جهلٌ بالمكان الذي وصلتُ إليه؟
هل هو خيرٌ أم شرٌ؟ هل هناك بشرٌ ووحوشٌ ومصاصو دماء كما نسمع ونرى ونقرأ؟
رجالٌ أم نساء؟
أسئلة كثيرة دارت في ذهني دون إجابات. لم يكن أمامي خيار سوى تحمّل كل هذه المشاق. أنا من اخترت الطريق، وأنا من سأكمله. لم تكن ليلتي الأخيرة في البحر بتلك الصعوبة، وربما كانت مصيرية لو ابتلعت الأمواج موج البحر، فصرنا وجبة دسمة للحيتان وأسماك القرش. تاهنا بين القرار والتنفيذ، ولم أنسَ قط من كان معي وكيف كان مصيرهم المحتوم.
هل كان خلاصهم مقدرًا لهم كما كان مقدرًا لي؟
أم أنهم أصبحوا فريسة بعد انقلاب القارب المشؤوم؟ كم كانت تلك الليلة قاسية ومرعبة ونحن نواجه مصيرنا المحتوم. صورة الفتاة الصغيرة تصرخ، مطالبةً بالعودة إلى منزلها وصديقتها، ومصير أمها، تتردد في ذهني.
ماذا حدث لهم وأين هم؟
ماذا عن الشباب الذين كانوا معنا على ظهر القارب، والذين رسموا مستقبلهم؟
هل نجوا، أم ابتلعتهم الأمواج؟
أم أن عونًا إلهيًا أنقذهم كما فعلتُ؟
أم أن فرق الإنقاذ وصلت إليهم؟
أسئلةٌ تُحيّرني وتُقلقني، لا أجد لها إجابات.. ما زلتُ أسير، ولكنني بعيدٌ عن ذلك الكوخ، كأنه رحلة ألف يوم، فكلما اقتربتُ، ازداد بعدًا. انحنت الشمس نحو الغرب، وتحوّر قرصها الذهبيّ إلى اللون الأحمر، مُعلنةً غروب الشمس، وبدأت معي حالة حربٍ مؤقتة. حرب الغروب والشروق. حرب الوجود والعدم… نظرتُ نحوها وناديتُها: “تمهّلي”. تمهّلي، تمهّلي، فأنا ما زلتُ أخطو خطواتي الأولى نحو الكوخ، وسألتُها بعض الوقت حتى أصل، ولكن دون جدوى، فقد تركتني وحدي في ظلمة المكان ووحشته.. لا أُدرك الطريق نحو الكوخ، وما زلتُ أسير نحوه حتى اصطدمتُ بصخرةٍ كبيرة، وعلى مقربةٍ منها شجرة. جلستُ بجانبها، أنتظر فجر يومٍ جديد، آملًا في مواصلة السير. كل شيء حولي ظلام دامس، وأصوات حفيف الأشجار، وظلام خيّم على تلك البقعة من الأرض. البحر يُنذر بأمواج عاتية، وصوتٌ مُخيف يُثير في نفسي شعورًا بالحيرة. لن أقول إنني شجاعة بما يكفي لإنكار خوفي، فظلام الليل مُخيف، ويُذكرني بظلم الناس وظلم الحياة.
سيطر عليّ الجوع، فلم آكل شيئًا منذ يومين. كانت الارتعاشة نذير شؤم، فلم يكن أمامي خيار سوى أن أصلح الوضع وأقطف بعض أوراق الشجر وأتناولها. لم أكن أعرف ما هي، لكن الله لا يخلق شيئًا يؤذي عباده. مضغتها ببطء، ظنًا مني أنها سامة وقد تق*ت*لني بضربة واحدة. لكن الحياة ق*ت*لتنا مرارًا وتكرارًا. شعرت بالنعاس والتعب، فاستلقيت على الأرض، ووضعت يدي تحت رأسي، ونظرت إلى السماء، أرتجف من البرد، ومع ذلك أشعر بالحر. لمست وجهي، نعم، حرارتي مرتفعة.
سألت نفسي، ماذا سأفعل؟
هل سأموت هنا وأكون طعامًا للحيوانات البرية، أم سيكتب لي القدر قصة مختلفة؟
قاومت الحياة من أجل البقاء، فهزمتني، واستسلمت بسهولة. لم يبقَ سوى ساعات قليلة قبل شروق الشمس، لذا يجب أن أقاوم. نامي يا روح، واسكني يا جسد بين طيات الأمل. لن أكذب على نفسي، كنت خائفة لكنني تغلبت على خوفي، فوثقت بنفسي ووحدتي ونظرت في عيني وقلت: “ماذا أقول لكِ الليلة يا حبيبتي؟
في حقيبتي كلمات وحكايات أكره ألا تسمعيها وأن يأخذكِ النوم مني”.
قلت لها: “أخبريني. هل أشتاق إلا لحديثٍ منكِ؟
أنتِ مني وأنا منكِ. النجوم تنتظر وتسمع حديثنا، والقمر بدد كل الغيوم بنوره ليرانا، وهذه الشجرة انحنت أغصانها تستمع إلى حزن حديثنا”.
أما الروح التي سكنت بين ثنايا أضلعي، فقد رقصت فرحًا تُطرب أذنيّ. هيا يا عينًا عسلية اللون، قالت وعيناها تدمعان. لقد فارقك الفرح في أماكن غريبة، وليلنا ليس كما هو في الأفق يُسلينا، والنجوم ليست كما عرفناها، وربما لن تشرق الشمس وتبدو غريبة، لأن شروقها في أرض ليست أرضنا سيكون باهتًا، وسيحرقنا لهيبها. ربما ثمة حياة لن نراها حتى في الأحلام، وسنبقى كجذوع نخيل خاوية تبحث عن موطئ قدم في زوايا هادئة، والضجيج يسكن فينا، وأزهار الصباح ملوثة تُرهق آهاتنا. من المؤسف أن أروي لك القصة، لكنها حقيقة خرجت من أفواهنا. ربما لعنة السماء قد حلت بنا. أجبتها بصوت ثقيل متعب: ما زال الليل طويلًا، وأنا أنتظر شروق الشمس.
يتبع..
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.