بين -عبقرية المكان وانتقام الجغرافيا- نظرة -كابلان وحمدان-
خلال قراءتي لكتاب (انتقام الجغرافيا) للكاتب الأمريكي (روبرت دي كابلان)، الصادر عام 2012م، وما يحتويه من فكر جيوسياسي معاصر لأهمية فهم التاريخ والسياسية من خلال الواقع الجغرافي، استرجعت سريعاً كتاب المفكّر المصري الدكتور (جمال حمدان) بعنوان (شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان)، “أربعة أجزاء صدرت بين عامي 1967و1984″، وحاولت أن أبحث عن أوجه المقارنة والمقاربة بين الكتابين والفكرين، لفتح آفاق فهم كيف تعامل كلاهما مع دلالات وأبعاد الجغرافيا السياسية من منظور تاريخي وحضاري واستراتيجي.
فـ”كابلان” يمثلُّ العقلية الواقعية الغربية التي ترى في الجغرافيا أداة لإدارة الصراع والهيمنة، بينما المفكّر “جمال حمدان”، يقدم نظرة حضارية إنسانية؛ ترى الجغرافيا كعامل نهضة وشخصية قومية، فإذا كان “كابلان” يقول: “الخرائط تُحدّدُ مصير الدول”، فإن حمدان يقول: “عبقرية المكان تصنع التاريخ إذا فُهمت بعمق”.
دعونا بداية نقدّم قراء مختصرة لكل كتاب، ثم نستعرض ونحللّ -تالياً- أوجه المقارنة بينهما.
شخصية مصر: عبقرية الجغرافيا وصناعة الهوية
يُعد كتاب “شخصية مصر” للدكتور “جمال حمدان” واحداً من أبرز الأعمال الفكرية التي تناولت مصر، ليس كوطن جغرافي أو كيان سياسي، بل كـ”شخصية” متفردة تبلورت عبر آلاف السنين من التفاعل المستمر بين الإنسان والمكان والتاريخ، ويمثّل هذا العمل الضخم مشروعاً فكرياً متكاملاً يسعى إلى إعادة اكتشاف مصر من منظور علمي تحليلي يجمع بين الجغرافيا السياسية والتاريخ والسوسيولوجيا والفلسفة الحضارية.
يؤسس حمدان رؤيته على ما يسميه “عبقرية المكان”، أي الخصائص الجغرافية الفريدة التي تميز مصر عن غيرها من الدول، فهي تقع في قلب العالم القديم عند نقطة التقاء ثلاث قارات، وتشرف على أهم الممرات البحرية والتجارية في التاريخ، مثل قناة السويس.
غير أن هذا الموقع، الذي منحها عبر التاريخ مركزية استراتيجية، لم يكن كافياً لتفسير خصوصيتها الحضارية، فالعنصر الحاسم في صياغة “شخصية مصر”، برأي حمدان، هو نهر النيل، الذي لعب دوراً محورياً في توحيد مصر جغرافياً وثقافياً منذ أقدم العصور، وأسهم في خلق مجتمع زراعي مستقر، ذي طابع مركزي، يميل بطبعه إلى النظام والتقاليد.
يرى حمدان أن مصر لم تكن يوماً كياناً مغلقاً أو معزولاً، بل كانت، على الدوام، في حالة تفاعل مع محيطها الجغرافي والسياسي، ومع ذلك، فإن الاستمرارية التاريخية التي طبعت الشخصية المصرية جعلت منها نموذجاً للاستقرار والديمومة، رغم تعاقب الغزاة والإمبراطوريات، ويذهب إلى أن تاريخ مصر كله يمكن قراءته بوصفه “تاريخاً جغرافياً” بامتياز، حيث تتجلى فيه العلاقة الوثيقة بين البيئة الطبيعية والبنية الاجتماعية والسياسية.
ومن خلال تحليله العميق للموقع والموارد والبنية السكانية، وسلوك الدولة والمجتمع، يقدّم حمدان تفسيراً متكاملًا لشخصية مصر، ليس كدولة فقط، بل كحضارة تتجدّد وتتفاعل مع العالم وفق قوانينها الخاصة.
فهو ينتقد النماذج الأجنبية التي تحاول فرض رؤى خارجية على الواقع المصري، مؤكداً أن النهضة الحقيقية لا يمكن أن تنبع إلا من الداخل، عبر فهم الذات، واستثمار الخصوصية الجغرافية والتاريخية. وبهذا المعنى، أصبح الكتاب دعوة لفكر استراتيجي مصري مستقل، يتجاوز ردود الفعل السياسية السطحية، وأسسّ لرؤية طويلة المدى مبنية على فهم علمي للذات الوطنية.
إن “شخصية مصر” ليس مجرد دراسة جغرافية تقليدية، بل هو محاولة لصياغة فلسفة وطنية شاملة، تؤمن بأن الجغرافيا ليست قيداً على الإرادة، بل مصدراً للطاقة والتجدد والعبقرية، في نظر حمدان، ولا تكمن فقط في ما هو موجود في الطبيعة، بل في كيفية استيعابه وتوظيفه حضارياً، ومن هنا، تبرز أهمية الكتاب في فهم تاريخ مصر الجيوسياسي، وفي تقديم نموذج منهجي يمكن أن يُحتذى به لفهم أي أمة من خلال موقعها الجغرافي وظروفها وميراثها الحضاري.
انتقام الجغرافيا: ماذا تخبرنا الخرائط عن التاريخ والنزاعات؟
في كتابه “عبقرية الجغرافيا” أو كما عُرف في ترجمته العربية بـ”انتقام الجغرافيا”، يقدم روبرت كابلان (Robert .D Kaplan) قراءة عميقة للعالم من منظور جغرافي صارم، يعيد فيه الاعتبار للقوى الجغرافية كعوامل مهيمنة في صياغة مصائر الدول، وإنتاج الصراعات، ورسم مستقبل النظام الدولي.
ويعدّ الكتابُ نقداً مباشراً للنزعات السياسية والفكرية التي أهملت تأثير البيئة والموقع في بناء السياسات، مفضّلة تفسيرات ثقافية أو أيديولوجية، وعلى العكس من هذه المقاربات، يعيد “كابلان” تشكيل فهمنا للتاريخ والسياسة على ضوء الخرائط حصراً.
يبدأ “كابلان” أطروحته من فرضية مركزية مفادها أن الجغرافيا ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي فاعل مؤثر، بل وربما محدد قهري لسلوك الدول والمجتمعات، فالدول، كما يفسّر، لا تختار موقعها، لكنها تتفاعل مع قدر جغرافي يُفرض عليها منذ النشأة (الجبال، الصحارى، الأنهار، والبحار)، وهي ليست سمات صامتة، بل عناصر فاعلة تساهم في تشكيل السياسة الخارجية، وطرق التجارة ومسارات الحروب عبر التاريخ.
يتتبع المؤلف مسار الفكر الجغرافي السياسي من خلال أعلامه الكلاسيكيين مثل (ماكيندر: صاحب نظرية قلب الأرض، وسبيكمان: منظّر حافة الأرض)، ليظهر كيف أن أفكارهم ما تزال فاعلة في تحليل موازين القوى المعاصرة، فلا يمكن فهم سلوك روسيا مثلاً، برأي كابلان، دون الانتباه إلى هشاشة حدودها وانفتاحها الجغرافي، ولا يمكن تفسير صعود الصين دون النظر إلى تحكمها في قلب آسيا وسعيها للوصول إلى البحار المفتوحة.
في هذا السياق، يعتقد كابلان أن الكثير من القرارات السياسية التي اتخذتها القوى الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة، فشلت لأنها تجاهلت المعطى الجغرافي، فقد كان التدخل العسكري في أفغانستان والعراق مثالاً على التعالي على الحقائق المكانية، وعلى الرغبة في “صناعة التاريخ” بمعزل عن الخريطة. وهذه الأخطاء، من وجهة نظره، لم تكن إخفاقات تكتيكية فقط، بل كانت تجاهلاً لبنية العالم الحقيقية التي لا يمكن تغييرها بسهولة.
ويذهب “كابلان” إلى أن الجغرافيا تعمل كقيد مستمر يضع حدوداً لقدرة الدول على المناورة، ويمنح في المقابل ميزات استراتيجية لمن يُحسن قراءة الخرائط، لذلك يدعو صنّاع القرار إلى دمج التحليل الجغرافي في تفكيرهم الاستراتيجي، مشدّداً على أن فهم طبيعة الأرض وحدود الجوار وتضاريس المواقع هو أساس الأمن القومي، وأن الجغرافيا ليست لعنة، ولكنها إطار ضروري للواقعية السياسية.
وتتجلى أهمية الكتاب، بنظرنا، في العالم العربي، حيث تتداخل العوامل الجغرافية مع الأزمات السياسية المعقدة، فالدول العربية، المحاطة بجبال ومضائق وبحار وصحارى، تتفاعل في بيئة مكانية مركبة تُنتج توترات مزمنة إذا لم تُفهم بدقة، ويعكس كابلان في هذا السياق الحاجة إلى مقاربة جيوسياسية عقلانية لتفسير صراعات الشرق الأوسط، بعيداً عن الأدلجة أو التبسيط الثقافي.
فالصراع في سوريا، مثلاً، لا يمكن فصله عن موقعها كحلقة وصل بين القوى الكبرى، كما أن هشاشة اليمن لا تنفصل عن طبيعتها الجبلية وموقعها على باب المندب، والصراعات في العراق والسودان وليبيا، لا يمكن فهمها بمعزل عن حقائق الجغرافيا المعقّدة.
وبحكم الواقعية الجغرافية، تمتد خريطة الوطن العربي عبر ثلاث قارات (آسيا، إفريقيا، وأوروبا) وتُشرف على مضائق استراتيجية: باب المندب، هرمز، قناة السويس، والعرب محاصرون بين (تركيا، إيران، إس*رائي*ل، وإثيوبيا) وكل دولة من هذه تشكّل تحدياً جيوسياسياً مؤثراً في الاستراتيجية العربية.
لذلك لا بد على الدول العربية من صياغة استراتيجية واقعية، فالعرب بحاجة لفهم مزاياهم الجغرافية (مثل ثروات الطاقة والموارد والموقع الحيوي) وتحويلها إلى قوة تفاوض، ويحذر “كابلان” من الوقوع في أوهام التقدّم بدون قاعدة جغرافية وأمنية متينة.
وفي لحظة تاريخية تسود فيها الفوضى والتداخل بين المحلي والقومي والعالمي، يمثلُّ كتاب “انتقام الجغرافيا” عودة إلى الواقعية الجيوسياسية، وفي جوهره دعوة للتواضع أمام “الحقائق الصلبة” للعالم، تلك التي لا تُغيرها الإرادة السياسية وحدها، بل تتطلب وعياً مكانياً عميقاً، فالجغرافيا ليست انتقاماً من الحالمين، كما يتصوّر “كابلان” بل تحذيراً للعقلاء: “افهم الأرض التي تقف عليها، قبل أن تحاول تغيير مسار العالم”!
تحليل مقارن بين كتابي (حمدان وكابلان) في الجغرافيا السياسية:
أولاً: انتقام الجغرافيا “روبرت كابلان”
جيوسياسي استراتيجي واقعي، يعتمد على الجغرافيا كأساس للسياسة الدولية
الجغرافيا قيد دائم، يجب على الدول التعامل معه بحذر ودهاء
الوطن العربي موقع حساس وسط قوى كبرى، كثير الصراعات بسبب ضعف الداخل العربي
على الدول أن تعترف بقيود الجغرافيا وتبني سياستها بناءً على الوقائع
يُعلّمنا الموقع الجغرافي الحذر من تجاهل الحقائق
المستقبل تحكمه الصراعات على الموارد والممرات الاستراتيجية
تجاهل الجغرافيا يؤدي إلى قرارات كارثية في السياسة الخارجية
تهميش الجغرافيا يؤدي إلى الفوضى وفقدان الهوية والانهيار الحضاري
ثانياً: شخصية مصر “جمال حمدان”
جغرافي حضاري تحليلي، يدمج بين الجغرافيا والتاريخ والثقافة والهوية
الجغرافيا طاقة كامنة، إن أُحسن استثمارها تُصبح رافعة للنهضة
قلب العالم القديم، ملتقى حضارات، ذو عبقرية مكانية فريدة
يجب فهم الجغرافيا لبناء مشروع حضاري عربي ينسجم مع البيئة والموقع
يجب الانتقال من “الاستسلام للقدر الجغرافي” إلى “توظيف عبقرية المكان”
يُلهمنا الموقع الجغرافي باستكشاف القوى الكامنة في المكان
المستقبل رهين بفهم الذات العربية ومكانها الطبيعي في العالم
✒️ خلاصة المقارنة التحليلية:
يمثل كتاب “شخصية مصر: عبقرية المكان” ذروة الفكر الجغرافي العربي الحديث، ويعيد الاعتبار للهوية الوطنية القائمة على أسس علمية وروحية في آنٍ واحد، وهو نداء قومي لإعادة اكتشاف الذات، واستنهاض القوة الكامنة في المكان، من أجل مستقبل يصنعه الفهم العميق للتاريخ والجغرافيا معاً.
أما “انتقام الجغرافيا” فهو تذكير قوي بأن الخرائط لا تكذب، ربما تتغير الأنظمة، وربما تتبدل التحالفات، لكن الجغرافيا تظل ثابتة، وعلى الدول أن تفهم جغرافيتها وحدود قدراتها لتبني سياسة خارجية مستدامة.
وهذا ما يجب استيعابه في السياق العربي، فالكتاب يقدّم أداة فكرية واقعية لفهم التحديات والتعامل مع القوى المحيطة من منظور جغرافي استراتيجي، بعيداً عن الشعارات والعواطف.
والدول العربية اليوم بحاجة إلى مدرسة فكرية تمزج بين الاثنين: “واقعية كابلان وروح حمدان” = استراتيجية عربية متكاملة تجمع بين الأمن والبناء الحضاري، ومنها يتحدّدُ مسار الوطن العربي، إما أن يكون أسيراً للجغرافيا، أو صانعاً لتاريخه المستقبلي.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.