القديسة أغنيس الأسيزية
القديسة أغنيس الأسيزية
إعداد / وردا إسحاق قلّو
أغنيس هي الإبنة الثانية الكونت ( فافورينو سيفي ) والأم المباركة ( هورتولانا ) . وهي إخت القديسة كلارا ” كلير “ في الجسد والروح .
ولدت أغنيس سنة 1197م في أسرة عريقة في النُبلِ والفروسية . نالت سّر العماد في اليوم التالي لمولدها ، وإعطيَت إسم ( كاترينا ) والذي هو إسم عذراء شهيدة شجاعة من الإسكندرية . وضع رفاتها في دير في سيناء ودعي الدير بإسمها . وأصبح محجّة للمؤمنين يمرون به في طريقهم إلى الأراضي المقدسة . زارت الدير أم أغنيس وتأثرت بسيرة حياة القديسة ، فرغبت في أن تسمي إبنتها الأولى ( كاترينا ).
عاشت كاترينا بعد دخول أختها الدير ، أسبوع الآلام المقدسة تمر بفترات من التردد والحيرة . صامت كثيراً وصلت أكثر ليكشف الله دربها ودعوته لها . أقبل عيد الفصح المجيد ، وكاترينا ضائعة مشوشة الأفكار ، ظلت ذكرى كلارا في ذهنها تحضها على الإقدام على الهرب من البيت وإتباع إختها . وإذا تسمع صوتاً داخلياً يدعوها لتهجر العالم وتتبع أختها في عيش الفقر والحرمان تحت راية الرهبنة الفرنسيسكانية الناشئة . وراح هذا الصوت يدوي في قلبها ويجعلها تعشق المسيح فإتخذته عريساً لا ينتزعه منها أحد . ورغبت من كل قلبها في أن تتحد به بتسليم ذاتها وتكريسها كلياً به في الرابع عشر من شهر نيسان لحقت كاترينا بدير الملاك في بانتسو ، حيث كانت كلارا قد إستقرت فيه مؤقتاً .
إلتحقت بأختها بعد هروب كلارا من البيت الوالدي بعشرة أيام فقط . تفاجأت كلارا بهزيمتها هي الأخرى من بيت الوالد لتتبعها في درب القداسة ، ، أخذت معها تسبيح الله وتشكر قبوله لهما في الفقر المسيحي . لم يرضى والدها الذي كان يحرِضهُ أخوه ( مونالدو ) أن تبقى إبنته الثانية في الدير فتقرر إستردادها حيةً أم ميتَ . فإنطلق مونالدو الذي جن جنونه مع عصابة مؤلفة من إثني عشر رجلاً متةجهاً نحو دير ملاك السلام في بانتسو ، عازماً على أن لا يعود إلا ومعه إبنة أخيه الصغرى . دخلوا الدير وطلبوا مواجهة كلارا وأختها . وقد أخفوا كل سوء أضمروه تجاهها . خرجت كلارا وإختها أغنيس ، ولم يكن قد قصّ شعرها الطويل بعد . فقالت كلارا أهلاً بعمي مونالدو . لكن عمها قاطعها موجهاً كلامه لأختها ، قائلاً : هيا عودي معنا إلى البيت ، عليكِ إطاعة إرادة إبيك ! قالت لا أستطيع أن أنفصل عن إختي العزيزة . عندئذٍ إنقض أحد الفرسان بطلب من عمها فأوسعها لكماً ورتلاً . ثم أمسكها من شعرها وجرها والآخرون يرفعونها على الأذرع ، لا يعتريهم أي خوف من الحرم . وأغنيس تصرخ مستعينة بالله وبإختها كلارا طالبة منها أن لا تدعهم يخطفونها من المسيح سيدها . وفيما كانوا يجرون أغنيس تمزقت ثيابها ، وكلارا سجدت تطلب معمة المثابرة والإستمرار في قرارها متوسلة إلى القدرة الإلهية أن تظهر قوة تفوق على عن*ف هؤلاء الرجال . أما الراهبات البندكتانيات فأخذن يصرخن ساجدات يلتمسن المعونة من الله وإذا فجأةً بجسد أغنيس يهوى إلى الأرض من دون حراك ، وقد أضحى ثقيلاً جداً حتى لم يعد بعد في مستطاع ستة رجال حملهِ ، وإستولى الخوف على حامليها ، وهرع بعض القرويين من حقولهم ليمدوا لهم يد المساعدة ، لكن جهودهم كلها ذهبت أدراج الريح . أراد عمها أن يظهر عدم خوفه مما يحدث أمامه ، فأخذ قضيباً من حديد وهمَّ بضرب رأس إبنة أخيه ليقضي عليها ، فإذا به يصاب بشلل نصفي ، يهوي إلى الأرض يزيد ويصرخ من شدة الألم . إضطر أتباعه إلى أن يحملوه على محمل ويأخذوه إلى منزل أخيه . وقد تركوا أغنيس مع أختها بعدما أيقنوا أنهم لا يستطيعون شيئاً أمام إرادة الله .
بعد إنصراف الجميع وقفت أغنيس وعادت إلى أختها والفرح يملأ قلبها لأنها أخذت قسطاً صغيراً من صليب المسيح الذي خاضت من أجله معركتها الأولى . وشعرت بأن الله يدعوها ولا تستطيع قوى العالم كله أن تثنيها من عزيمتها في إتباع المسيح وحمل صليبه .
هكذا إنتصر الحق على الباطل ، والإيمان على الشك ، والإستسلام لمشيئة الله على القِوّة والبطش . بعد أن تركوها حرة ذهبت كلارا ومدت لها يدها قائلة لها ( قومي يا أختيّتي الحبيبة ، ليس من بعد من خطرٍ عليك ) وللحال إنتصبت كاترينا على قدميها ، وقد أشرق وجهها بإبتسامة ملؤها السعادة والهناء ، وهتفت قائلة :
– ما أجمل أن أتألم حباً بالمسيح!
– – هل تألمتِ كثيراً ، عزيزتي كاترينا ؟
لم أشعر قط بالألم . ما شعرت به هو الفرح الكبير يأتي عندما أشارك المسيح بآلامه . لكنني خفت أن تتغلب إرادة أهلي على إرادة الله . شكراً لله الذي يقودنا في موكب النصر كل حين . بعد هذا علم الأخ فرنسيس بما جرى فأقبل إلى دير الملاك وأجرى رتبة قص الشعر ، ولبس ثوب الرهبنة ، وأطلق عليها إسم ( أغنيس ) أي الحمل لأنها تحملت الضرب والإهانة على مثال الحمل الإلهي الذي تحمل الجلد والمهانة ، وقدّمَ ذاته ذبيحة على الصليب حباً بنا لخلاصنا . نمت أغنيس سريعاً في درب القداسة وظهرت حياتها لأخواتها الراهبات خارقاً لها مزايا تفوق الوصف . ولقد أدخلتها حياة التوبة والإماتة إلى عالم الأرواح بالرغم من عمرها الفتي .
منذ أن دخلت الدير إلى حين وفاتها ، وضعت حول وسطها ، ومن غير أن يعلم أحد ، مسحاً من شعر الفرس . كانت تمارس الصوم القاسي أيضاً ، طعامها فتات من الخبز والماء فقط . في إحدى الليالي كانت تصلي في المصلى ، ليس بعيداً عن أختها كلارا ، فرأتها هذه ترتفع عن الأرض في حالة إنخطاف . وإذا بملاك ينحدر من السماء ويضع على رأسها أكليلاً لثلاث مرات متفاوتة . في اليوم الثاني سألتها كلارا :
ماذا كنت تطلبين في صلاتك البارحة مساءً ؟
-لم هذا السؤال ، أمي الحبيبَ ؟
-هل رأيت رؤيا؟
-إعذريني أمي ، إعفيني من الإجابة !
– باسم الطاعة المقدسة ، أطلب منك أن تقولي ماذا حدث البارحة في أثناء صلاتك ؟
-أولاً : كنت أتأمل بحنان الله متسائلة كيف يهينهُ الخاطئون وجاحدو إحساناته ونِعمهِ الغزيرة .
-ثانياً : كنت أتأمل محبة الله غير الموصوفة للخطاة ، تلك التي حدت به أن يتألم بشدة حتى الموت .
-ثالثاً : كنت أتأمل بالنفوس المطهرية التي لا تستطيع أن تجد تعزية وحدها ، وهي بحاجة إلى صلواتنا ليرحمها الله .
قالت لها أختها كلارا : لقد رأيت ملاكاً يضع على رأسك ثلاث مرات ، إكليلاً من نور .
أجابتها أختها : أرجو أمي الحبيبَ ، لا تخبري أحداً بالأمر . كلما أفكر بالخطاة ، تنتابني قشعريرة من الألم والحزن ، فالله يحب الناس أجمعين ويريد خلاصهم . بينما هم يركضون إلى الهاوية .
أرسل القديس فرنسيس أغنيس إلى دير في فلورنسا لتكون رئيسة عليهِ . فقادت إلى الله الكثيرين من الأنفس وذلك بحياتها ومثالها الصالح ، وبكلامها المعسول الممتليء من كلام الله وحكمتهِ . سار ديرها الجديد على خطى أمها وأختها كلارا في درب الفقر الإنجيلي المطلق . وقد شارفت أغنيس على الثلاثين من عمرها عندما اختيرت رئيسة للدير . وما إن إنقضت فترة وجيزة على وجودها في الدير الجديد ، حوالي سنة 1228-1230 ، بعثت برسالة غلى أختها كلارا تخبرها عن ألمها الشديد الناجم من تركها لدير القديس داميانس من جهة ، وعن فراقها أختها الحبيبَ من جهة أخرى ، وقد إطلعتها على روح السلام والإتحاد الذي يلف الجماعة الجديدة في دير مونتيشلي . ومن ناحية أخرى ، أن قداسة البابا قبِلَ بكل إرتياح ، لكِ ولي ، في كل شىء ، ولأجل كل أحد أن نعمل ما نرتئيه من صلاح ولا سيما روح الفقر من قداسة البابا غريغوريوس التاسع ، في أيار سنة 1230 .
يلغي الغموض الكبير حياة هذه القديسة من سنة 1230 – 1253 وهي سنة وفاتها . يقول بعض المؤرخين أن الأم أغنيس لم تستمر في رئاسة دير مونتيشلي ، بل إنتقلت إلى تأسيس أديرة أخرى في أماكن عدة من إيطاليا . أما البعض الآخر وهو الأكبر ، فيثبت بقاءها في الدير المذكور إلى حين معرفتها بمرض أختها الأخير ، فعندما علمت بدنو أجل أختها كلارا ، سلمت الدير إلى نائبتها وتوجهت إلى دير الأم حيث تعيش أختها كلارا الأعذبة المريرة من جراء المرض الذي أقعدها سنين كثيرة . ولم تكن كلارا لتتذمر يوما من آلامها ، بل ظلت تلك المرأة الحازمة إلتي تتغلب على كل الصعوبات بإبتسامة رائعة
قبل أن تترك أغنيس ديرها لآخر مرة ، نزعت طرحتها عن رأسها وقدمتها للراهبات عربون حبها وتعلقها بهنّنَ . وقد إعتبرت الراهبات تلك الطرحة ذخيرة ثمينة من الأم المؤسسة , ثم توجهت مع الراهبات اللواتي جئن من دير القديس دامبانس للقاء إختها وأمها المحتضرة ولتعتني بها قبل أن تفارق هذه الحياة ، سحقتها المرارة من جراء رؤيتها أختها تحتضر أمامها ، وراحت تتوسل إليها ألا تتركها وحيدة في هذا العالم . أما جواب كلارا فكان مملوء حناناً وعطفاً فقد أسكن روعها وحزنها ، فقالت ( أختي الحبيب َ ، إنها إرادة الله الحنون أن أمضي . كفي عن البكاء ، لأنك لن تلبثي أن تلتحقي بي إلى جوار الرب ، فبعد أن يمنحك تعزية كبيرة قبل أن أتركك ) .
في الحادي عشر من شهر آب 1253 وسط الألم والحزن العميق ، رأت أغنيس في أوج فرحها إذ كانت متشوقة إلى الإتحاد الكامل بعريسها السماوي . كان هذا الفرح مصدر تعزية لها لا يوصف فنست حزنها لشعورها بأن أختها ماضية إلى السماء . بعدما وضع جثمان كلارا في القبر الذي حوى ذخائر القديس فرنسيس تبدد حزن أغنيس وتحول فرحاً سماوياً ، أضاء وجهها بأنوار باهرة ، جعلت الراهبات الثكالى على أمهن يشعرن ليتحول حزنهن بدوره فرحاً سماوياً .
وعد كلارا لأختها قد تحقق ، فسرعان ما شعرت الأخيرة بأن الله يدعوها إلى جواره هي أيضاً ، لتشاركه في وليمة عرس الحمل ، ثلاث أشهر بعد وفاة أختها ، وذلك في 16 نوفمبر 1253 إنتقلت أغنيس إلى الأغدار السماوية في دير سان دامب نو عن عمر ناهز 56 سنة . وهكذا دعيت الأختان معاً إلأى السعادة الأبدية .
دفن جثمانها بإحتفال مهيب ، فوق ضريح أختها كلارا في كنيسة القديس جاورجيوس في أسيزي . ثم نقل رفاتها إلى كنيسة صغيرة بنيت على إسمها ، داخل كنيسة القديسة كلارا ، مع رفات بعض الأخوات . إنتشرت أخبارها وفاضت رائحة قداستها في كل المناطق مما حدا بالكنيسة إلى أن تكرمها وتعلنها قديسة . وإدرج عيدها في السادس عشر من شهر تشرين الثاني 1253 ، يوم وفاتها .
في الختام نقول : حين دخلت كلارا إلى الدير ، لم تستطيع أغنيس إلا أن تتبعها في مسيرتها نحو الكمال الرهباني . حين توفيت سرعان ما لحقت بها لتشاركها في السعادة الأبدية . عاشتا معاً ، ورقدنا معاً إلى الأبد في الأفراح السماوية ، شافعتين فينا لدى الله .
توقيع الكاتب ( لأني لا أستحي بالبشارة ، فهي قدرة الله لخلاص كل من آمن ) ” رو 16:1″