آراء متنوعة

الخطيئة الأولى

نيسان سليم رأفت

كَمْ تُفّاحَةً سَقَطَتْ، وَالسَّماءُ هِيَ السَّماءُ إِلَى اليَوْمِ، وَخَطِيئَتُنا الأُولَى لَمْ تُغْتَفَرْ؟
كَمْ مَرَّةٍ أَغْمَضَتْ عُيونُ مُدُنِنا، وَهَجَرْنا البُيوتَ وَعَناوِينَ الشَّوارِعِ تَتَأمَّلُ مَلامِحَنا بَعْدَ الوَداعاتِ الَّتي كانَتْ تَبُثُّ دَفَقاتِ الطُّمَأنِينَةِ في رَبِيعِ أَقْدارِنا البَرِيئَةِ؟
كَمْ مَرَّةٍ بَكَيْنا تُرابَ البِلادِ مِنْ مَعارِكَ ارْتَفَعَ غُبارُها حامِلًا آمالًا لَمْ تَحُطَّ في أَيادِيَ الحالِمِينَ، لَكِنَّها اسْتَقَرَّتْ في أَكْمامٍ جَرَفَتْها السَّنَواتُ نَحْوَ مَفازَةٍ لا تَعْرِفُ النِّهايَةَ.
نَخُوضُ الحُروبَ ضِدَّ أَشْباحٍ لا تاريخَ لَها، وَعالَمٍ يَرى دَمَنا وَلا يَغْسِلُ يَدَيْهِ مِنَ الخِيانَةِ.
في تِلْكَ اللَّيْلَةِ، كانَ صَوْتُ عَقْرَبِ السّاعَةِ يَسْتَغِيثُ في مُحاوَلَةِ الوُلوجِ إِلى رَأْسي دُونَ تَوَقُّفٍ.
بَيْنَ المِرْآةِ وَالسَّرِيرِ، وَطاوِلَةٍ بَيْضاءَ صَغِيرَةٍ تُعِيقُ ثَوْبَ زَفافي المُرَصَّعَ بِمِئاتِ الخَرَزِ اللُّؤْلُئِيَّةِ، وَكَأَنَّها كانَتْ تَسْتَكْشِفُ طَبيعَةَ جَسَدي لِلنُّدوبِ.
كُلُّ شَيْءٍ حَوْلي كانَ يَشي بِالذُّهُولِ أَكْثَرَ مِنِّي عَنْ سِرِّ هذِهِ اللَّيْلَةِ.
لَمْ أَتَنَبَّهْ لِرَدَاءَةِ العالَمِ في لَحْظَةٍ كانَتِ الأَكْثَرَ وَطْأَةً مِنْ ذِكْرَياتِي.
لَمْ يُطْرَقِ البابُ، وَلَمْ يَتَحَدَّثْ مَعي، وَلَمْ يَقُلْ: “مَرْحَبًا”، وَعَقْرَبُ السّاعَةِ يُعاوِدُ اضْطِرابَهُ في رَأْسِ ظُلْمَتي.
لا أَدْرِي، لَرُبَّما حينَ نَرْوي ما حَدَثَ نَكْتَسِبُ شَيْئًا مِنَ البُطولَةِ، وَإِنْ لَمْ نَنْجُ مِنَ الفِخاخِ، وَإِنْ سَبَقَتْنا طَلْقَةُ الصَّيّادِ.
كانَ المُسَدَّسُ لَيْلَتَها مَمَدًّا أَمامِي عَلى الطّاوِلَةِ.
حينَ تَلَمَّسْتُهُ، وَمَسَحْتُ عَلى عُنُقِهِ بِيَدي، وَوَقَفْتُ أَمامَ المِرْآةِ، وَصَوَّبْتُهُ نَحْوَ رَأْسي — لا بَأْسَ مِنَ الِاسْتِمْتاعِ وَمُزاوَلَةِ الغَباءِ لِبَعْضِ اللَّحَظاتِ، قَبْلَ أَنْ يُذْبَحَ الحَمامُ وَتَطِيرَ العَصافِيرُ الَّتي كانَتْ تَسْتَلْقِي في أَعْشاشِها المَبْنِيَّةِ في زَوايا الأَقْبِيَةِ المَهْجورَةِ.
كَأَنَّها اسْتَشْعَرَتْ خُطورَةَ القادِمِ.
ضَغَطْتُ عَلى الزِّنادِ، وَابْتِسامَتي تُحاوِلُ رَدْعَ رَجْفَةِ الخَوْفِ في أَطْرافي البارِدَةِ.
لَكِنَّ الرَّصاصَةَ لَمْ تَخْرُجْ، لَقَدْ حُشِرَتْ في مَكانِها.
لَيْتَنِي لَمْ أُجْبَرْ عَلى انْتِهاكِي في عالَمٍ مَحْشُوٍّ بِالخَطِيئَةِ وَفارِغٍ مِنَ السَّلامِ.
يا لَيْلي الطَّوِيلَ، أَعْتَذِرْ مِنْكَ عَنِ المَرّاتِ الَّتي شَبَّهْتُكَ بِحُزْني، وَعَنْ جَحِيمِ الصَّمْتِ الَّذي جَعَلَنِي أَسْمَعُ زَئيرَ ذُعْري مِنَ النَّجاةِ، في صَيْفٍ بَعَجَ بِحَوادِثِ ظِلالِهِ القاسِيَةِ، وَشُموسِهِ الَّتي لا تَعْرِفُ العاطِفَةَ.
غَضَبٌ واحِدٌ مُوَجَّهٌ لِطُفُولَتِي في تِلْكَ الظُّهَيْراتِ يَكْفِي لِيَجْعَلَ الصَّيْفَ مِرْساةً لِكُلِّ ثِقْلٍ.
وَالضَّوْءُ يَتَلَصَّصُ بِخَجَلٍ عَلى عَتَمَةِ قَلْبِي مِنْ أَسْفَلِ البابِ.
مُنْذُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَصُحُفُ أَيّامِي لَمْ تَعُدْ بَيْضاءَ، وَرَايَاتُ الزَّوارِقِ ثَقَبَتْها قُرونُ الشَّياطِينِ.
بِأَطْوالِ النَّخِيلِ، وَشُجَيْراتِ الرُّمّانِ، نَزَفَتْ تَحْتَ أَقْدامِي أَغْصانُها كَشاهِدٍ عَلى رَغْبَتي الدَّفِينَةِ مُنْذُ الصِّغَرِ أَنْ أَكُونَ شَجَرَةً.
قَطَعْتُ الكَثِيرَ مِنَ الحُقولِ، بِبُكاءٍ هِسْتِيرِيٍّ، وَبِطُفُولَةٍ مُنْتَهَكَةٍ.
أُمْسِكُ مِنجَلَ الحَصادِ، وَأَجُزُّ العُشْبَ، وَأَصْرُخُ: “أَعِدْ جِراحِي… واحِد، اثْنان، ثَلاثَة…”، حَتّى أَصِلَ الأَرْبَعينَ عاماً، وَيَأْتي صَيْفٌ آخَرُ بِكُلِّ ثِقْلِهِ عَلى وَجْهِي، وَعَلى جِلْدِي الَّذي يَتَحَوَّلُ إِلى فِراشٍ وَثِيرٍ لِلذِّكْرَياتِ الطَّوِيلَةِ.
أَتَذَكَّرُ يَوْمَ قَطَعْتُ مَعَهُ أَحادِيثَ بِعِدَّةِ كِيلُومِتْراتٍ تَحْتَ قَيْظٍ هائِلٍ.
يُمْسِكُ بِحُلْمِهِ أَصابِعَ يَدِي النَّحِيلَةِ.
كُنْتُ أَتَعَرَّقُ بِغَزارَةٍ، لَيْسَ مِنَ الحَرِّ، بَلْ مِنْ فَرْطِ ما يُمْلِيهِ عَلَيَّ مِنْ لَذاذَةِ الكَلِماتِ.
قِطارٌ جامِحٌ لا تَتَوَقَّفُ عَجَلاتُهُ داخِلِي.
ذاكَ الَّذي لَمْ يَعْرِفْ كَمْ كَلَّفَتْنِي كَلِمَةُ “أُحِبُّكَ”، حَتّى سَقَطَتِ المَفاتيحُ مِنْ يَدِي.
لَرُبَّما لَمْ أَكُنْ صَفْقَتَهُ الرّابِحَةَ، حينَ قَرَّرْتُ الِاخْتِباءَ مِنْ شَياطِينِ الجُغْرافِيا وَفِخاخِ البُطولاتِ الأُسْطُورِيَّةِ.
نَعَمْ، يا حَبِيبِي، سَيَبْقى غُصْنِي المَكْسُورُ في قَلْبِكَ لُغْزًا غامِضًا.
أَعْتَرِفُ أَنِّي أَخافُ المَوْتَ، أَخافُ فِكْرَةَ أَنْ أَموتَ كامِلَةً، كَما في القَصَصِ، وَكَما تَموتُ السَّماءُ.
وَقَبْلَ أَنْ يَجْمَعَنا عِناقُ خَيالاتِنا الخَصْبَةِ بِطُولِ سورِ الصِّينِ…
بَعْدَ كُلِّ حَرْبٍ يُكْسَرُ شَيْءٌ مِنِّي، لا أَحَدَ يَرانِي كامِلَةً، كَأَنِّي بَطَلَةٌ لِفِيلْمٍ مُنِعَ مِنَ العَرْضِ، لَمْ يُشاهِدْهُ غَيْري.
تَعِبَ عَقْلِي، وَتَشَتَّتَ تَفْكِيرِي.
كُلَّما فَقَدْتُ شَيْئًا، كَتَبْتُ عَنْهُ؛ أَتَخَطَّى حالَةَ النِّسْيانِ كَأَنِّي أَبْنِي قَبْرًا أُطِلُّ عَلَيْهِ مَتَى تاهَتْ عَنِّي الفِكْرَةُ.
هَكَذا ضاعَ عُمْرِي، المَنسوب لِحَرْبٍ لَمْ تَكن يوماً ضروريةً … إِطْلاقًا.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!