مقالات

يوم -القيامة- .. – ناضل حسنين

صباحًا، دفعت جسدي المتهالك نحو حيفا، كأي بهيمة تعتاد طريقها يوم الأحد. وصلت مكاتب التلفزيون، التي اعتادت ان تعج بالموظفين كخلية نحل أصيبت بالجنون، فوجدتها اليوم خاوية، صامتة لا حس فيها إلا أنفاسي المتعبة وسعال حارس الأمن الذي يبدو أنه آخر الأحياء المتبقين على وجه الأرض.
بين الحين والآخر، كانت صافرة الإنذار تزلزل المكان، كأنها صوت ملاك الموت وهو يعلن قدومه. أهرول حينها إلى ملجأ في الطابق الأرضي، مكان تفوح منه رائحة اليأس والعفن، لأمكث فيه نحو عشرين دقيقة، وكأنني أقضي فترة حكم قصيرة. ثم أعود لأوراقي، لحاسوبي البائس، لمحاولة عمل فاشلة، قبل أن تعيدنا الصافرة اللعينة إلى عالمنا السفلي من جديد.
هكذا لا ينجز شيء، ولا يولد إبداع، ولا تتحقق الأحلام. قررت العودة إلى شقتي في حيفا، علّني أجد فيها ما يعينني على مواصلة العمل، أو ربما على الموت بسلام على الأقل.
لكن الطريق إلى البيت كان فصلًا آخر من فصول هذه المهزلة الكبرى. المدينة التي تعرف الازدحام وفن الضجيج، بدت منفية إلى كوكب آخر. الشوارع خالية، الأرصفة صامتة، والمخبز الذي اعتدت ان أشتري المعجنات منه، وهي عزائي الوحيد في هذا الوجود البائس، كان مغلقا كأبواب الجنة في وجه الخاطئين. حتى الهواء نفسه بدا كمن حبس أنفاسه، ينتظر كارثة ما.
كل شيء كان متوقفًا، كل شيء كان ميتًا، إلا إشارات المرور. كأنها الجندي الذي لم يسمع بأن الحرب قد انتهت أو انها صماء لا تسمع صفارات الإنذار أو ربما كانت تظن أن الحياة لا تزال تدب في أوصال هذه المدينة الميتة. توقفت عند الإشارة الحمراء في مفرق خالٍ تمامًا كمواطن منضبط، لا سيارة ولا عابر سبيل، فقط أنا، وسيارتي في انتظار الضوء الأخضر السخيف.
وصلت العمارة، فاستقبلني جاري بسؤال أثار ريبي وشكي: “هل تشتم رائحة غريبة؟”. عندها تذكرت مستودعات الكيمياء القريبة في المدينة، أو ربما هي بقايا أحلامنا المسمومة. لم أحتج لتفكير طويل، أغلقت باب الشقة خلفي بعد ان حملت جهاز اللابتوب وفيه كل آمالي المجهضة، نزلت، أدرت السيارة، وانطلقت على الفور، كأن الشياطين تطاردني.
شارع 6 في ساعة الذروة كان خاليًا، حتى هذا بدا غريبًا. أين اختفى البشر؟ هل ابتلعتهم الأرض؟ هل صعدوا إلى السماء؟ وصلت إلى الطيبة خلال نصف ساعة فقط. كل ما كنت اطارده هو شيئ بسيط.. شيئ أتعلق به في هذا الخراب: أن أكون، على الأقل، قريبًا من المقبرة التي يعرفها أهلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!