هرتصل واللغة العبريّة
هرتصل واللغة العبريّة
بروفيسور حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
يبدو لنا أنّ قلّة قليلة من المثقّفين عامّة، تعرف حقيقة العلاقة التي كانت قائمةً بين أبي الحركة الصهيونيّة السياسيّة، بِنْيامين زِئيڤ ثيودور هِرتصِل (بالهنغاريّة: Tivadar Herzl)، 2 أيّار 1860 – 3 تمّوز 1904 واللغة العبريّة الحديثة، التي أخذت تنمو كلغة محكيّة خلال سِني حياته القصيرة. هنالك شِبه أُسطورة، مُفادها أنّ هرتصل لم يكن على أيّة صلة تُذكر، بأصله اليهوديّ حتّى محاكمة الضابط الفرنسيّ اليهوديّ، ألفرد درايْفوس عام 1895، والتي جعلته بين ليلة وضُحاها، زعيمًا صهيونيًّا مرموقا. في تلك الفترة 1891-1895، كان هرتصل في فرنسا مراسلًا لأهمّ صحيفة نمساويّة، ”صحافة جديدة حرّة“. تمتّعت عائلة هرتصل بوضع اقتصاديٍّ مزدهر، ولم تكن منصهِرةً في المجتمع الذي عاشت فيه، بل كانت قريبة من تراثها اليهوديّ، فالجدّ المولود عام 1805، كان متديّنًا متزمّتًا، وانتزع احترام أبناء طائفته الذين أسْندوا إليه عدّة مهامّ دينيّة، مثل شرف النفخ بالبوق في عيد رأس السنة العبريّة، حتى شيخوخته وهو ابن ثمانٍ وثمانين سنة. وقد تلقّى والد بنيامين، زئيڤ، تربية دينيّة منذ صغَره، وحافظ على الشعائر الدينيّة، وكان تاجرًا ثريًّا ونشيطًا في طائفته، في مدينة زملين في بولندا، وفي الحركة ”אהבת ציון/محبّة صهيون“.
وُلد هرتصل في بودابست، وعندما أصبح ابن ستّ سنين، التحق بالمدرسة اليهوديّة حيث تعلّم بعض العبريّة، إلّا أنّه ترعرع في جوّ حِقبة التنوير (هَسْكَلاه) الألمانيّ اليهوديّ، واهتمّ كثيرًا بالصحافة والأدب والمسرح. وفي كلمة له لمناسبة الاحتفال بـ בַּר מִצְוָה/بار مِتْسڤاه، (ابن الواجب الدينيّ ؛ بار كلمة آراميّة معناها ابن) أي عند بلوغ الصبيّ اليهوديّ ثلاثة عشر عامًا من العمر، يُصبح في عِداد البالغين ومسؤولًا عن نفسه دينيًّا، أقسم أن يبقى وفيًّا ليهوديّته في كلّ الأحوال والظروف. في الواقع، لم ينفّذ هرتصل هذا القسَم في قادم الأيّام، بل كانت اليهوديّة بعيدةً عنه، أو ربّما قبَعَت راكدةً في اللاوعي، إلى حين اندلاع الأحداث المعادية لليهود، والتي توصف عادة بالمصطلح الشائع وغير الموَّفق ـ اللاساميّة، إذ ليس اليهود وحدهم ينتمون إلى ذُريّة سام، الابن الأكبر لنوح، كما ورد في الإصحاح العاشر من سِفْر التكوين. تربّى هرتصل، الصحفيّ والمحامي والأديب والسياسيّ على أُسس الثقافة الألمانيّة، وتأثّر بالفيلسوف الألمانيّ جورج ويلهلم فريدريك هيچِل (1770-1831) بشأن المنطق، وفلسفة الروح وفلسفة الطبيعة.
في ربيع العام 1895، كانت الفكرة في ضرورة إنجاز مشروع ما لصالح اليهود، قد اختمرت في ذِهن هرتصل العلمانيّ والعالميّ بثقافته لتمكِّنه من أربع لغات، الألمانيّة والفرنسيّة والروسيّة والإيدش/والييدِش (مزيج من ألمانيّة القرون الوسطى والعبريّة)، وكان مُغرمًا بالثقافة الغربيّة. وفي كلمته الافتتاحيّة في المؤتمر الصهيونيّ الأوّل أعلن ”إنّ الصهيونيّة هي العودة إلى اليهوديّة قبل الرجوع إلى بلد اليهود. بعبارة وجيزة، كان هرتصل مقتنعًا أن المخرَج من ويلات اليهود، هو الرجوع إلى دينهم، يهوديّتهم. وعندها أخذ هو بنفسه بتطبيق ما نادى به، ليكون قُدوة حسنة للآخرين، درس أسفار العهد القديم، التَناخ/المِقْرا، ذا الأربعة والعشرين سفْرًا، وَفْق الترتيب اليهوديّ، فهو لبّ اليهوديّة. هذه النقلة النوعيّة، لا تعني بالضرورة، معرفة اللغة العبريّة، إذ أنّه من المعروف، أن هنالك امكانيّة لاكتساب ثقافة يهوديّة بدون لغة يهوديّة، وهذا الأمر ينسحب على أعراق أُخرى. توجد كوكبة من عُظماء اليهود، الذين لم يعرفوا لا العبريّة ولا الإيدش، أمثال آينشتاين، وفرويد وآينشتاين، وتجنشتاين، وشينيبرغ، وماهلر، وبروست، وفيليب روث. فرانْس كافكا مثلًا، بدأ بتعلُّم العبريّة، إلّا أنّ ذلك كان في خريف حياته القصيرة.
في العام 1878 انتقلت أُسرة هرتصل من هنغاريا إلى النمسا، حيث درس الشابّ بنيامين زئيڤ في كلّيّة الحقوق في جامعة ڤيينا، وحصل على شَهادة الدكتوراة بعد ستّ سنوات. وفي غضون العَقد 1882-1992، كان جوهر الفكرة الصهيونيّة قد تطوّر، إلى أن ترسّخ في عقل هرتصل، وذلك في أعقاب مطالعته لكتابين ضد اليهود واليهوديّة بقلم ينسن وديرينج. وفي كتابه، دولة اليهود: البحث عن حلّ عصريّ للمسألة اليهوديّة، الصادر بالألمانيّة عام 1896 والذي تُرجم إلى لغات كثيرة، في عشرات الطبعات، كتب هرتصل ما ترجمتُه: لا يمكن أن يتحدّث الإنسان اليهوديّ إلى أخيه بالعبريّة. مَن منّا يعرفها لدرجة كافية تُمكِّنه من ابتياع بِطاقة قطار؟ لا وجود لشخص كهذا بيننا. كان من الجليّ لهرتصل منذ صباه، أنّ اللغة العبريّة لغةُ طقوس دينيّة، كما انعكس ذلك في كتابه: Altneuland أي البلاد القديمة الجديدة، رواية يهوديّة يتطرّق فيها مثلًا إلى وُجوب منْح المساواة للعرب؛ صدرت في العام 1902. كما أعرب في بداية نشاطه الصَّهيونيّ عن اقتناعه بأنّ العبريّة القديمة أي التوراتيّة، التي يرجع تاريخها إلى قُرابة ثلاثة آلاف سنة، غيرُ صالحة أو مناسبة لأن تُصبح لغة الكلام الدارج، في الحياة اليوميّة في دولة عصريّة، حتّى ولو كان ذلك على أرض فلسطين. لم يكن هرتصل وحيدًا إزاءَ هذه النقطة، إذ شاطره هذا الرأيَ جميعُ الأدباء اليهود الكبار مثل مِنْدلي شلوم يعقوب أبراموڤيتش، أي مِنْدلي موخير سِفَريم 1836-1917، ويوسف حاييم برِنر 1881-1921 وزعماء معروفون في الحركة الصهيونيّة، إمّا جهرًا وإمّا سرّا. وقد كتب شِمْعون برنفلد، 1860-1940يقول ”إنّ جعل اللغة العبريّة لغة محكيّة بالمفهوم العاديّ أمرٌ مستحيل تمامًا في اعتقادي، لم يحدث هذا بالنسبة لأيّة لغة في العالم حتّى ولا لأيّة لهجة، أن يُحْيوها بعد أن توقّفت عن كونها لغة محكيّة، إناء زجاجيّ إذا كُسر فلا إصلاحَ له، ولغة انقطع تطوّرها الطبيعيّ، ولم تعُد حيّة جاريةً على ألسنة الشعب الناطق بها تغدو، بحسب الأمثلة التاريخيّة، لغة تاريخيّة أدبيّة دينيّة، ولكن ليست لغة حيّةً طبيعيّة، شعبيّة.
من ضمن الزعماء في الحركة الصهيونيّة، هنالك بِرل كَتْسِنِلْسون 1887-1944 التراثيّ الذي رفض التحدّث بالعبريّة، مُعللا ذلك بأنّها ليست لغة محكيّة. إذا كان هذا الاعتقاد سائدًا بين ظهرانَي مثل هؤلاء الأدباء التراثيّين، وغيرهم من الذين عاشوا في فلسطين، فلا غرايةَ إذن في موقف هرتصل المعارِض للعبريّة، إذ أنّه في شبابه كان بعيدًا عن الثقافة اليهوديّة التقليديّة، قديمها وحديثها، وكانت تلك المحاولات الناجحة في إحياء العبريّة الحديثة حديثًا وكتابة في الأراضي المقدَّسة، لا سيّما في القدس، في وادٍ وهذا الزعيم الصهيونيّ في واد آخرَ. ومن المحتمل، أن يكون موقف هرتصل هذا، قد تغيّر بمرور الوقت، كما أعلن عن ذلك معلّمه للعبريّة وسكرتيره ومترجمُه من الألمانيّة للعبريّة ميخائيل بِركوڤيتش 1935- 1865، في النصّ العبريّ لدولة اليهود وفي الأصل الألمانيّ دولة يهوديّة.
حاول هرتصل تعلُّمَ العبريّة بضع مرّات، ويُحكى أنّه طلب من ناحوم سوكولوف 1859-1946، الكاتب والصحفيّ ورئيس الهِسْتَدْروت الصهيونيّة، ابتكارَ وسيلة سهلة وسريعة لتعلّم هذه اللغة المقدَّسة، ولكن دون جدوى، فقد أخفق في ذلك، ربّما لانشغاله التامّ والمنصبّ في تحقيق فكره الصهيونيّ. ويُروى عن هرتصل، أنّه نادرًا ما كان يرى أفراد أُسرته ناهيك عن محادثتهم. كان هذا الزعيم، والمفكّر الصهيونيّ يقوم بنشاطاتٍ سياسيّة وفكريّة وأدبيّة وتنظيميّة جمّة. التقى بقيصر ألمانيا وليم الثاني عام 1898، والبابا في روما، وزعماء أتراك وبريطانيّين، والبارون إدموند دي روتشلد. أضِف إلى ذلك، جلّ زعماء الحركة الصهيونيّة آنذاك، لا سيّما في العالم الغربيّ، لم يكونوا على معرفة بالعبريّة. وقدِ انتقد بعض الكتّاب اليهود وعلى رأسهم أَحاد هَعام/ أشير غِنْسبورغ، 1856- 1927 مواقفَ هرتصل التي تجسّدت في منعه لإجراء أيّ بحث شامل للثقافة العبريّة في المؤتمرات الصهيونيّة، ومردّ ذلك يعود لاعتقاد هرتصل الراسخ في التركيز أوّلًا على الجانب السياسيّ للقضية اليهوديّة. وكما قال سوكولوف، المقرَّب من هرتصل، إنّ الأخير أرجأ الولوج في البحث، عن إيجاد الحلول للمشاكل الداخليّة الخطيرة، إلى ما بعد لمّ الشتات اليهوديّ في فلسطين. وكان في اعتقاد أحاد هَعام أنّ خلاص الشعب اليهوديّ قد يتأتّى فقط، من خلال نهضة روحيّة ثقافيّة وليس عن طريق إقامة دولة سياسيّة.
وانطلاقًا من التقدير الداخليّ الذي كان يكُنّه هرتصل للغة العبريّة، منذ سِني بلوغه سِنّ الرشْد، دأب على تطعيم كتاباته بالألمانيّة بكلمات وعبارات عبريّة، كان على ما يظهر، قد التقطها في البيت، أو في الكنيس منذ نُعومة أظفاره. من هذه الاستعمالات ما معناه: السنة القادمة في القدس، حظٌّ سعيد، إن شاء الله، انتقام، هدف، حكم، كوهن، لاوي، مِزوزاه،(أي: لفافة من الرَّق مدوّنة عليها الآيات من سفْر التثنية، الإصحاح السادس من الآية الرابعة وحتّى التاسعة، وكذلك الإصحاح الحادي عشر من الآية الثالثة عشرة وحتى الواحدة والعشرين، توضع هذه اللفافة داخل عُلبة خشبيّة أو معدنيّة مستطيلة الشكل، وتثبّت على باب البيت للتبرّك بها) مجنون. وكلّ ذلك عادة بالحرف اللاتينيّ. وتروي حِمْداه، زوجة إليعزر بن يهودا، 1858-1922، مُحيي اللغة العبريّة الحديثة، أنّ هرتصل وقّع اسمه بأحرف عبريّة في رسالة بعث بها إلى زوجها، يُخبره فيها أنّه اخْتير بالإجْماع عضوًا في لَجنة صفْوة/مختاري الأمّة.
بالرغم ممّا قيل، كان هرتصل واعيًا للدور الهامّ الذي تلعبه اللغة العبريّة، بالنسبة للشعب اليهوديّ والحركة الصهيونيّة على حدّ سَواء. لذلك حَرَص، على ما يبدو، على أن يتعلّم أبناؤه، باولينا وهانس وطرودا نويمان العبريّة. زِد إلى ذلك، أنّ هرتصل قد قام بتقديم بعض الدعم المادّيّ، لمشروع بن يهودا في مُعجمه الشامل للغة العبريّة، وذلك عن طريق اللجنة التنفيذيّة الصَّهيونيّة. وفي زيارته لفلسطين في العام 1898، عبّر عن موقفه الإيجابيّ إزاءَ تجديد/تجدّد العبريّة الحديثة، وعند مُكوثه في مستوطنة رِحُوڤوت ضيفًا على الخواجة موسى، مُوشِه سميلانْسكي، الأديب المعروف 1874- 1954، أخذ على عاتقه محاولة التحدّث بالعبريّة في زيارته المقْبلة. بعض الجُمل العبريّة، كان قد تعلَّم لا أكثر. ومن اللافت للنظر، أنّ ابن هرتصل الوحيد- هانس- ذا الاسم الألمانيّ، تمّ ختنُه في العام الخامس عشر من عمره، في حين أنّ الدين اليهوديّ يُحتّم القيام بهذه الفريضة الدينيّة الأساسيّة، في اليوم الثامن للولادة (اُنظر سفْر التكوين 17: 10-14). ويذكر أنّ هانس كان قد تنصّر في مرحلة معيّنة من عمره القصير، ثمّ عاد إلى اليهوديّة قبل ا*نت*حا*ره، ويذكر أنّ أُمَّه لم تكن يهوديّة. ونسل هرتصل لم يعمّر طويلًا. فقدِ انقرض بعد بضع عشرات السنين بطُرق مأساويّة، وقد تمّ مؤخّرًا إعادة رُفات عِظام الأوّلين إلى مَقبرة جبل هرتصل، حيث يرقُد والدهم في القدس، أمّا جُثّة طروده فقد حُرقت في فرنسا.
هرتصل، هذه الشخصيّة شِبه الأُسطوريّة، قدِ اتّسم برؤْيا ثاقبة، وبنظرة سياسيّة شاملة، وقدرة فائقة على التنظيم المدروس، كلّ ذلك مشفوع بالعمل الدؤوب، رغم أصوات المعارضة الكثيرة والشديدة، والإحباطات التي واجهها من رجال الصحافة، ورجال المال والليبراليّين. آمنَ بكلّ 248 أعضائه، كما يقال في اللغة العبريّة، أي بكلّيّته جسمًا وروحًا، رغم أنف مرض القلب الذي عانى منه، بهدف سامٍ مقدَّس. هذا الهدف، كان تأسيس وطن قوميّ لليهود في فلسطين. وآنذاك طُرحتِ اقتراحات عديدةٌ مثل الأرجنتين، قبرص، شِبه جزيرة سيناء، أوغندا، العراق، كما ورد في برنامج بازِل المنبثق عن المؤتمر الصهيونيّ الأوّل، من التاسع والعشرين إلى الواحد والثلاثين من آب العام 1897.
كما شدّد هرتصل على تبنّي العِلم والتكنولوجيا، في تطوير وطن اليهود العتيد، وإقامة مجتمع تعاونيّ. ويُشار إلى أنّ سيرته الذاتيّة الممتدّة على خمسة مجلَّدات، مترجمة إلى الإنچليزيّة تتطرّق إلى نواحٍ كثيرة في مجالات الحياة المختلفة. وممّا يجدُر ذكرُه أنّه قُبيل انعقاد هذا المؤتمر، كان إليعزر بن يهودا قد نشر المعجَم العبريّ الحديث الأوّل، وبين دفّتيه ألف كلمة، وقد ابتيعت نسخُه كلُّها على الفور، وفي ذلك العام كان نصف يهود العالم في روسيا، وثمانية وتسعون بالمائة منهم كانوا قد صرّحوا بأنّ الإيدش لغتهم، وهي لغة غير ساميّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ بن يهودا (پيرلمان سابقا)، كان قد فكّر بوطن قوميّ لليهود، قبل هرتصل بعَقْدين من الزمان، وشدّد على ضرورة توفّر الأرض واللغة بغية إنشاء أمّة يهوديّة. أمّا هرتصل، فذهب إلى عدم الحاجة للغة مشتركة لتوحيد الناس.
خِتامًا، لا بُدّ من ذِكر جملة هرتصل الشهيرة التي يعرفها كلّ فتىً وفتاة في إس*رائي*ل ”لا مستحيلَ أمام الإرادة“، وفي العبريّة אִם תִּרְצֶה אֵין זוֹ אַגָּדָה وفي الإنچليزيّة If you will, it is no fairytale.
هرتصل تعلّم أربعَ لغات وأجادها، إلّا أنّه لم يُفلح في اكتساب الخامسة، اللغة العبريّة، ربما لأنّه لم يسعَ إلى ذلك بجدّ لكثرة مهامّه، وعدم ضَرورة ذلك لتحقيق هدفه الأساسيّ، أن يعيش الشعب اليهوديّ في نهاية المطاف حرًّا على تراب وطنه، وفي بيته يموت بسلام، دولة اليهود وبالكاد دولة يهوديّة؛ لم يحلُم بدولةٍ كسائر الدول، بل بواحدة تكون مثلًا يُحتذى به لكلّ الشعوب على غِرار سويسرا، متعدّدة اللغات. وقد نضيف أنّ لطبيعة بُنية اللغة العبريّة القديمة الساميّة المختلفة كثيرًا عن اللغات الأربع التي عرفها هرتصل، دورًا ما في صُعوبة اكتسابها. ووصيّته لشعب إس*رائي*ل كانت: ”أقِم دولتك بشكل يشعُر فيه الغير بالرضا بينكم“. وبسبب هذه التوقّعات والأحلام بعيدة المنال في حينه، نعته البعض بلفظتين عبريّتين ذاتي القافية نفسها חוֹזֶה הוֹזֶה أي ”حالمٌ هاذٍ“. ما فاته، حاول أن يحظى به أبناؤه الثلاثة، إلّا أن ذلك لم يتحقّق كلّيّة ولأمد طويل، إلّا أنّ الوطن الذي حلم عنه، قد تحقّق بعد قُرابة أربعة عُقود من موته، وفيه أكثرُ من خمسة ملايين من اليهود الناطقين بالعبريّة الحديثة، بعد أن كانت لغة مكتوبة ولغةَ الطقوس الدينيّة سبعةَ عشرَ قرنًا من الزمان. عن هذا الوطن، عبَّر هرتصل ساعةَ احتضاره ”غرست دم فؤادي من أجل بلادي“. أمّا بن يهودا فقد حظِي على الأقلّ بسَماع الخبر الذي أعلنه الانتداب البريطانيّ عام 1922، والقاضي بوجود ثلاث لغات رسميّة في فلسطين، الإنچليزيّة والعربيّة والعبريّة. وهكذا غدتِ العبريّة اللغة المحكيّة الوحيدة في العالَم التي انبثقت من لغة مكتوبة قديمة، بعكس سُنّة الطبيعة، لغات محكيّة تُصبح لغاتٍ مكتوبة. وينبغي التنويه بأنّ العبريّة، لم تكن لغة ميّتة تمامًا كاللغة الأكّاديّة أو الأوغاريتيّة، على سبيل المثال، بل كانت تُكتب وتُسمع على الدوام في المناسبات الدينيّة. ومن المعروف أنّ إحياء اللغة الإيرلنديّة، لم يتكلّل بالنجاح، رغم شُيوعها ولكن في صفوف قسم ضئيل من القرويّين والصيّادين.
هذا الشابّ الليتوانيّ أصلًا، الأورشليميّ لاحقًا، بن يِهودا، أبو اللغة العبريّة الحديثة، آمن وهو في ربيعه العشرين، بقُدرته على إقناع ملايين اليهود في أوروبا آنذاك، على التكلّم بالعبريّة بدلًا من الإيدش، رغم معارضة اليهود الأرثوذكس على وجه الخصوص، أنجز جُلَّ معجمِه الكبير للغة العبريّة القديمة والحديثة، ووصل فيه إلى باب נֶפֶש, النفس، وكأنّ لا شيءَ جوهريًا يُنجز دون تضحية. ويضمّ هذا المعجم، الذي أكمله موشِه تسڤي سِچال ونَفْتالي هرتص طور- سيناي عام 1958، قُرابة نصف مليون ثبْت من التراث العبريّ. في البداية، جرت عمليّة إحياء العبريّة الأدبيّة في مدن أوروبا، والعبريّة المحكيّة في فلسطين، وقد التقت الاثنتان في مستهلّ القرن العشرين، وعلى وجه التحديد، عند قدوم الشاعر القوميّ اليهوديّ، حاييم نحمان بيالك، إلى فلسطين عام 1924.
صفْوة من المفكرين والأدباء اليهود، شكّكوا في إمكانيّة تحقيق حُلمَي هِرْتصل وبن يِهودا، الدولة واللغة، بدون أحلام لا واقع، والتركيز كان على الناحيتين القوميّة والثقافيّة.