ندوب القدر وثارات الغدر
في متاهات الحياة القاسية، حيث تُخيّم الظلمات على كل منعطف، وفي خضم مطاردة عدوٍّ لئيمٍ وغريم قديم طالما هرب من خنجري و قبضة العدالة، وجدتُ نفسي أخوض غمار مواجهةٍ مع أقدارٍ معلَّقةٍ وحسابات مؤجلة منذ عقدٍ من الزمان… .
كنتُ أعدو خلف ظله الشيطاني، أتتبَّع خطواته الغادرة التي تنضح خيانة ونذالة ، حتى استبدَّ بي التعبُ وأنا عند مفترق طرقٍ حائر، لا أدري أيَّ سبيلٍ أسلك : أأواصل المطاردة او أخذ قسطا من الراحة أم أتخلى عن ثأرٍ يأكل قلبي وضيق يعتري صدري ؟
قرَّرتُ أن ألجأ إلى أحد مطاعم السوق الشعبي، حيث رائحة الخبز الطازج تُذكِّرني بأنني لم أذق طعامًا منذ يومين سوى لقيماتٍ بالكاد تُمسك رمقًا.
جلستُ إلى طاولةٍ خشبيةٍ بالية، وإذا بوجهٍ تجاعيدُه تحكي قصصًا عن ثمانين عامًا من الألم يطلُّ عليَّ … ؛ عرفتُهُ معرفةً عابرةً من سنوات مضت … ؛ شيخٌ من عشيرةٍ ثأرٌ قديمٌ مزَّقها : فقد ق*ت*ل الشيخ ابنَ عمه يوماً ما بدافع الغضب والحمية القبلية ، فانتقم الأبناءُ لوالدهم المغدور عندما كبروا ؛ اذ ق*ت*لوا ابن الشيخ الوحيد، تاركين إياه وحيدًا كشجرةٍ جرداء تُنْذِرها السنون بالتساقط… ؛ كانت عيناه كبئرين مُظلمتين، تلمع فيهما دموعٌ كالندى على زهرةٍ ذابلة… ؛ وقد تتبَّعتُ ندوب وجهه المتعب فقرأتُ فيها سفرًا من الندم : خطٌّ عميقٌ خلفته ج#ريم*ةُ الق*ت*ل الأولى، وآخرٌ متشعِّبٌ من خوفٍ طويلٍ من انتقام القدر، وأخيرًا كدماتٌ سوداء من يوم فقد ولده، كأنها نارٌ التهمت كبده وتركته رمادًا أشيبَ.
لم يتكلَّم الي ، لكنَّ نظراته كانت رسائلَ مُشفَّرةً تهمس بي قائلة : “إياك ثم اياك أن تلوث يديك بالدماء، فالنار إذا اشتعلت لن تُطفئها إلا دماءٌ أخرى، والثأر دوامةٌ لا نخرِج منها إلا أمواتًا”… ؛ أومضتْ كلماته في روحي كبرقٍ يقطع ظلام الليل : “دع العدل للسماء، فما أرحمَها حين تنتقم بلا ظلم!”.
أغمضتُ عينيّ وأنا أتساءل: ماذا لو انتصرتُ عليه وارديته قتيلا ؟ سأهربُ كالهاربين، أتخفَّى في المنافي، فأيهما أولى : أن أبدأ رحلتي الآن طائعًا، أم أنتظر حتى تُجبرني يد الق*ت*ل على الفرار مجبرا ؟
قرَّرتُ أن أتركه للقدر، وأمشي في طريقٍ آخرَ، طريقٍ يملؤه إيمانٌ بأن السماءَ كفيلةٌ بأن تردَّ الكيلَ بكيله والصاع بصاعين .
وبعد سنواتٍ، وبينما أنا أسير في زحام المدينة ، صادفتُ رجلًا من حيِّنا القديم… ؛ وقد دار الحديثُ حول من بقي من أهل الزمان، فقال مبتسمًا ساخرًا : “أتدري أن عدوكَ القديم مات تحت عجلات سيارةٍ طائشة؟
أما زوجته فأصبحت تتسوَّل عند أبواب المساجد، وأولاده تشردوا في الشوارع”… ؛ عندها انكمش قلبي لأجلهم: أطفالٌ بلا ذنبٍ سوى أنهم وُلِدوا في ظلِّ أبٍ ظالم… ؛ تذكرتُ يومها نظرة الشيخ المُتعب، فاختنقتُ بين أسىً على براءتهم الضائعة، ورضًا بأن السماءَ أعدلتْ، لكنها لم تُرحمْ… .