موسم الرَّد إلى الجنوب – أيمن زهري
في الزمن الذي توشك فيه الجغرافيا على الذوبان تحت ضغط العولمة، ما زالت الحدود تُرفع في وجه الإنسان الجنوبي، لا باعتباره إنسانًا فارًّا من خطر، بل باعتباره خطرًا يهدد دولة الرفاه الأوروبية، حيث تُعامَل تحركاته بوصفها تهديدًا اقتصاديًا وثقافيًا يجب ضبطه، حتى لو كان الثمن تجاهل القوانين والمواثيق الدولية، وعلى رأسها الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1951، التي كانت ثمرةً مباشرة لتجربة اللجوء الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، إضافةً إلى الاتفاقيات الأوروبية الإطارية التي تنظّم وضع اللاجئين داخل الاتحاد الأوروبي ذاته.
اللاجئ القادم من الجنوب، الذي أُجبر على الرحيل بسبب استمرار الممارسات ما بعد الاستعمارية — من الحروب المصنّعة، إلى النهب المؤسسي، مرورًا بالتغير المناخي غير العادل — يجد نفسه مدفوعًا إلى أبواب المستعمر القديم، يستجدي ملاذًا في عواصم ساهمت بالأمس في تفكيك بنيان بلاده.
لكن الأبواب موصدة.
وإن أفلح هذا اللاجئ في اختراق تلك الأبواب، بمهارة الهارب من موتٍ مؤجَّل، سيجد نفسه ضحية اتفاقيات إعادة. يعود منها لاجئًا مهزومًا إلى البلد ذاته الذي فرّ منه، أو يُرحَّل إلى بلدٍ آخر ربما تكون الحياة فيه أشد قسوة من وطنه الأصلي.
وفي مشهد سريالي لا يخلو من التهكّم، لا مانع لدى صانعي السياسات في الشمال من تصنيف دولٍ تعاني الفوضى والمجاعات والنزاعات — كالصومال أو السودان — على أنها “بلدان آمنة”، فقط لتبرير إعادة اللاجئين إليها، ولو كانت خطورتها تفوق كل منطق إنساني.
هكذا، بلا خجل ولا اعتذار، تتعاون أوروبا مع الأنظمة التي ساهمت في تدميرها يومًا، بهدف إعادة الجنوبي إلى “مكانه الطبيعي”: في الهامش، في العراء، في نقطة الصفر.
اللافت أن هذا “الرد إلى الجنوب” لم يعد مؤقتًا، بل بات موسميًا ومنهجيًا، جزءًا من استراتيجية احتواء الهجرة، تُدار فيها الحدود ليس كجدران جغرافية، بل كآليات فرز أخلاقي. من يستحق الحياة؟ ومن عليه أن يتحمّلها فقط؟ من يُرحَّب به كعقل مهاجر؟ ومن يُقذف به كجسد فائض؟
لقد تحوّلت الهجرة من فعل خلاص فردي إلى ملف تفاوض سياسي، تتداخل فيه الحسابات الأمنية مع الكوابح الاقتصادية، وتذوب فيه حقوق الإنسان أمام اعتبارات السيادة الوطنية.
الخلاصة مرّة:
ما أرخص الجنوبي في سوق الجغرافيا السياسية.
ما أوهن حمايته في زمن الاتفاقيات والصفقات الثنائية.
وما أكثر ما يشبه الماضي، هذا الحاضر.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.