مقالات

من نحن… ومن يمكن أن نكون؟ – أوزجان يشار

وجدت دروس إنسانية مذهلة من كتاب “عشرة أنواع من البشر” لديكستر دياس.
في داخل كلٍّ منا لا تقيم روح واحدة، بل مجموعة من الأصوات والأقنعة والظلال. الإنسان ليس قالبًا واحدًا، بل مسرحًا تتناوب عليه الشخصيات: المنقذ، المعتدي، المعين، القاضي، الضحية، والمحارب. كلٌّ منهم يُطلّ بحسب ما تُمليه اللحظة من ألمٍ أو أمل. لسنا شيئًا ثابتًا، بل مشروعًا مستمرًا، يتشكّل ويتحوّل مع كل تجربة.

حين نفهم أن الشخصية ليست قالبًا جامدًا بل نسيجًا متحركًا من الانفعالات والتجارب، نزداد بصيرة في الحكم على أنفسنا والآخرين. من نراه ضعيفًا اليوم، قد يكون بطلًا غدًا، والعكس صحيح. إن محاولة تصنيف الإنسان بموقفٍ واحد تشبه اختزال البحر في قطرة، والعاصفة في تنهيدة.

وإذا كان السلوك هو اللغة التي ننطق بها وجودنا، فإن البيئة هي القاموس الذي نُعِدّه دون وعي. من أين جاء هذا الفعل؟ ما السياق الذي شكّله؟ قبل أن نحكم، فلنقترب. ليس كل من أخطأ شريرًا، وليس كل من جرح قاسيًا. أحيانًا لا تكون الأفعال انعكاسًا للنية، بل نداءً خفيًا من بيئة اختنقت بالضغوط والحرمان.

والتعاطف، ذلك النور الذي نحمله كي لا نغرق في الظلام، ليس موهبة بل مهارة، يمكن تهذيبها كما نُهذّب النظر. أن نضع أنفسنا في حذاء الآخر لا يعني أن نتنازل عن حذائنا، بل أن نخطو خطوة نحوه، ونرى. التعاطف وعي، وليس شفقة. جسدٌ يلتفت لا جسدٌ يحنو فقط.

أما المرونة، فهي ليست صلابة خارقة بل سلسلة من النهوضات الداخلية. ليس الناجون أبطالًا خياليين، بل أناسٌ تعلموا من السقوط كيف يصبحون أكثر وعيًا بمكانهم من الأرض. الصدمة لا تق*ت*ل دائمًا، بل أحيانًا تعيد تشكيلنا على نحوٍ أنبل، إن أحسنا الإصغاء لما خلف الألم.

لكن علينا أن نُمسك بمرآتنا الأخلاقية كل حين، ونسأل: هل نحن حقًا عادلون في أحكامنا؟ أم أننا نحمل قضاةً صغارًا في داخلنا، تحركهم العاطفة والانحياز؟ أن نعي ميلنا للانحراف الأخلاقي أحيانًا هو أول الطريق نحو عدالةٍ حقيقية لا تُبنى على وهم.

وفي زحمة العالم، قد تكون اللمسة البسيطة هي ما يصنع الفرق. لا حاجة إلى منبر أو سلطة أو شهرة كي نُحدث الأثر. أحيانًا تكفي كلمة صادقة، أو لحظة صمت تنقذ من الانهيار. المُعين الحقيقي لا ينتظر الأضواء، بل يتحرك عندما يوقظه ضميره من غفوته.

نملك قدرة عظيمة — لكنها مخيفة — على إعادة خلق أنفسنا. لسنا محكومين بسلاسل الماضي، بل نستطيع أن نعيد تشكيل “من نكون” كلما امتلكنا شجاعة الاختيار. في داخل كلٍّ منا مشروع إنسان لم يكتمل بعد، مشروع يُنقّح، يُعدّل، يُصقل.

غير أن السلطة، متى مُنحت، لا تُظهر فقط ما كنا نخفيه، بل تعيد تشكيلنا. “المُسيطر” قد لا يكون وحشًا كامنًا فينا، لكنه يظهر حين لا نُراقب أنفسنا. السلطة اختبار داخلي بقدر ما هي مسؤولية خارجية. الوعي بها يبدأ من الداخل، لا من منصات الحكم فقط.

أما الخوف، هذا المارد الذي يسكن الزوايا، فقد يُنتج العن*ف كما يُنبت البطولة. المُهاجم أحيانًا لا يهاجم لأنه شرير، بل لأنه مذعور. والخائف قد يكون هو ذاته من يدافع عن غيره لاحقًا. من رحم الخوف تولد الشجاعة كما يولد الجنون، والفارق هو وعي اللحظة.

وأخيرًا، العدالة ليست فكرة مثالية، بل فعل بشري متكرر. كل مرة نرفض فيها السكوت عن ظلم، كل مرة نحترم فيها شخصًا لا يملك صوتًا، نحن نمارس العدالة. لا نحتاج إلى محكمة لنكون منصفين، بل إلى ضمير لا يتعب من الوقوف، ولو في التفاصيل.

ديكستر دياس لا يكتب عن أنماط مجردة، بل يرسم ملامح الإنسان في أقسى لحظاته وأكثرها إنسانية. في زنزانة مظلوم، في عيني لاجئ، في موقف بسيط يمر دون أن تلتقطه الكاميرا، لكنه يُغير مصيرًا.
ليست هذه دعوة للتصنيف، بل دعوة للتأمل: من نحن، حين نكون وحدنا؟ ومن نجرؤ أن نكون، حين يُعاد اختبار إنسانيتنا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!