آراء متنوعة

منطقة السراي: دعونا ننظر ابعد قليلا

تغلب عبد الهادي الوائلي*

قد لا يكون مقالي هذا مناسبا ليقرأ في هذه الايام ولكنه سيكون مناسبا بالتاكيد بعد مرور سنة او اكثر … إلا انني انشره اليوم كي يتنبه البعض ممن يهمهم امر المدينةً وموروثها الحضري اكثر من اهتمامهم بجدوى الشعور المؤقت الزائف بتعافي المدينة من خلال عشرات الأمتار من الديكورات والإضاءة في “ممر العجائب” البغدادي ولكي اسجل ولو للتاريخ اعتراضي على ما جرى ويجري في اهم منطقة من العاصمة العراقية … بغداد.

لذا دعونا ننظر عبر الجدران وعبر الزمن فيما يعنيه هذا المشروع الذي استهدف قلب المدينة التاريخية لبغداد وفي اي مرتبة سيضعها ما بين مدن العالم التاريخية ونحاول ان نضع تقييما موضوعيا لها. …

قد يقول قائل بان ما جرى من أعمال قد بينت الشكل الحضاري لبغداد القديمة والتي كانت تعاني من الاهمال وهناك من يقول بان المنطقة قد تم إحياؤها كما ان ثمة من يقول ان هذا احسن من لا شيء …

وهنا اود ان ابين ان لا احد يعارض ترميم المباني التاريخية والتراثية والتي عانت من الاهمال المتعمد لفترة طويلة حتى بات المواطن يرى اي عمل حتى لو كان لا يتفق مع المعايير المطلوبة عملا جيدا نتيجة لضعف الوعي وصمت الجهات المعنية والمتخصصة.

وحيث ان الجهات القائمة على المدينة وعلى تراثها الحضري لا يهمها اكثر من الشوارع الرئيسية وواجهات بعض المباني المطلة عليها وهي سياسة دأبت عليها هذه الجهات منذ عقود بما أطلق عليه مجازا “مشاريع الشوارع” والتي لا تغير من طبيعة المنطقة بل تعزز تدهورها الحضري حيث تعاد نفس هذه المشاريع الترقيعية بعد سنوات قليلة في الوقت الذي يزداد فيه انهيار واندثار ما خلف هذه الواجهات من مباني ومناطق وبنى تحتية.

وهنا اتساءل عن جدوى “مشاريع الشوارع” هذه وما تحققه من مكاسب تنموية وما إذا كان مفهوم تشجيع السياحة الذي تتشدق به هذه الجهات التي تفتخر بعملها هذا وما إذا كان يتعلق بجعل المواطن والسائح يسير في ممر محدد وكانه يسير في مدينة ألعاب تم تشييد جدار مسرحي على جوانبه من اجل خلق شعور مؤقت لدى المتلقي من خلال الاضاءة الكثيفة المصطنعة والمؤثرات الأخرى والذي سرعان ما يزول في نهاية هذا الممر او بمجرد النظر إلى ما خلف ذلك الجدار من ازقة خربة ومباني خالية مهترئة …

زرت العديد من المدن التاريخية ولم ارى مثل هذا الخداع العمراني إلا في مدن الألعاب وفي الاماكن التي يقصد فيها خداع المتلقي كديكورات المسارح وما شاكل …

العمل في المدن التاريخية مسؤولية كبرى فهي ليست واجهات مباني بل مناطق حضرية تضم اناسا وفعاليات اقتصادية ومجتمعية وينبغي النظر اليها بعناية وإسناد العمل فيها إلى خبراء ومؤسسات مقتدرة ذات خبرة كي لا نجعل من مدننا التاريخية مثالا وعنوانا للتندر فالسائح ليس غبيا يمكن استغفاله من خلال جعله يمر في “ممر العجائب” وسينقل تجربته تلك في الاعلام ووسائل التواصل عبر العالم وسيقارن ما بين المدن التاريخية التي مر بها وبين بغداد ولنا ان نتخيل المرتبة التي سيضع فيها مدينتنا هذه بعد ذلك …

اليوم لدينا الفرصة لنجعل من بغداد التاريخية منطقة حية نابضة بالحياة ومزارا سياحيا من الدرجة الاولى وان نعيد اليها قيمتها الحضارية من خلال مخطط شامل لاحيائها … او نستمر في التخبط حتى نحط من قيمة مدينتنا وقدرها ما بين مدن العالم ليصبح تاريخها وتراثها مجرد ديكور بشكل جدار مضاء في شارع العجائب في مدينة ألعاب لا اكثر …

ومن سيقرأ مقالي هذا بعد مدة وبعد افول وانتهاء فورة البهرجة الإعلامية التي تهدف لاقناع المواطن بان ما حدث من اعمال شكلية خططت ونفذت من قبل جهات غير مهنية او متخصصة تشكل مشروعا يعتد به ، عندئذ سيفهم الكثيرون ما اقصده بالضبط … وبان علينا ان ننظر ابعد قليلا.

*معمار استشاري ومخطط مدن
‏Taghlib.com

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!