مظفر النواب وعبد الحسين شعبان و رحلة البنفسج – عبد الحسين
وفاء عبد الخالق
كاتبة لبنانية
هكذا كانت بداية رحلتي الفريدة مع المفكر والكاتب عبد الحسين شعبان في كتاب أعاد فيه إحياء ذكرى صديقه مظفر النواب. كانت تلك أقرب إلى زيارة الشعر الشعبي العراقي. توقفت فيها عند كل حدث وكل فكرة. تمكنت من تحميل مخيلتي بآراء ملهمة وهادفة. رافقني عقلي وقلبي أثناء قراءته فشعرت بفيض من المشاعر، ودخل وجداني وذاكرتي الكثير من المعرفة.
الوفاء للصديق
صحيح أن هذا الكتاب يسرد حالة منفردة، وقيمة أدبية كبيرة إسمها مظفر النواب. لكن الدكتور عبدالحسين شعبان هو روح هذا الكتاب. ذلك الرجل الذي ذكر وكتب عن الكثير من الرجالات دون تردد أو تحفظ، لأنه واثق الخطى ويعطي كل ذي حق حقه. ربما يحن إلى تلك الأيام التي جمعته بهذه الأسماء والحالات الإبداعية التي زينتها سهرات أدبية مميزة وأفكار بارزة حتى لو كانت في بعضها لا تلاقي أفكاره الخاصة.
لم يسرد إبداع مظفر النواب كفنان وشاعر ورسام فقط، بل أفاض بعرض صفاته وشخصيته، التي أغنت كتابه بمزاياه الإنسانية والثورية والحياتية. سرد أهم انجازاته وموروثاته الشعبية والمتقدمة. وهذا ما يصعب جمعه في شخصية واحدة. نجد من خلال أعين الدكتور عبدالحسين شعبان توازن مميز في وجود صفات مضادة في شخص مظفر النواب. قلبا وقالبا، ظاهرا وباطنا، هكذا حلل صديق أخلاقه، ورفيق إنسانيته وصاحبه في المعرفة والنضال.
المعاني المتجذرة
مظفر النواب يلخص قاموسا من المفردات العميقة التي تحمل بين أكفها اللانهاية، بل البداية لكل متمرد على الجهل والغدر والإستسلام. محيطات من المشاعر الغائبة في عصرنا؛ الحاضرة في ذاكرتنا. شعر ، فكر، سياسة وعروبة. مدن احتلها وعاش كل ما فيها وعلى الأثر احتلت أيامه وسنينه.
عاش الكثير واختبر الصعاب، كان للقضايا المهمة حيزا كبيرا في حياته، فعرف كل شيء وعاش كل شيء. عاش السجن فعرف معنى الحرية، عاش الحرب وتحدث عن السلام، عاش الغربة فقدر الوطن، عاش حياة الغرب فنادى بالعروبة.
قراءة في قصائد النواب
قد لا أتقن اللهجة الشعبية العراقية، إلا أنني تمعنت بجمال قصيدة “ليل البنفسج” وأحببت الولع الذي يحييها، وفي قصيدة ” روحي” وجدت المستحيل وانتظار المعدوم. وفي قصيدة ” مو حزن لاجن حزن” شممت الياسمين ورأيت وجه أحبتي في كل وجهة وسفر، وفي قصيدة ” حجام البريس” حاكت مشاعري كل الصعوبات ونادت على الجراح، آنست الليل والسواد، الموت وصعوبة الحياة. لأصل إلى قصيدة “زفة شناشيل” وتعانق مخيلتي الكثير من الصور، أتوه بين السماء والأرض وأطير بين الفرح والزعل. في محطتي التالية دخلت إلى قصائده الفصحى وتبدأ رحلتي مع قصيدة ” المساورة أمام البيت الثاني” وأضيع بين الحق والباطل، بين المعصية والتوبة، بين الحلو والمر، بين العتمة والنور لأشفق على نفسي وأسحبها من دهاليز الشك وأقنعها بأن الانسان مزيج من مكائد ويعجز اللسان عن تبرير أفعال الدول، وبأن السلطة موجبة إذا بنيت على القوة وعرفت قيمتها كل الأمم.
قصيدة “قراءة في دفتر المطر” صاحبت الليل وسألته لماذا يحييك كل مغترب؟ كأنه يسهر خوفا على وطنه؟ أم أنه يعرف ما يحاك لوطنه في ظلمتك؟ من باع ومن اشترى؟ من خان ؟ من طبّع؟ أيحزن ؟ أيكتفي بالغربة دون النظر إلى الموطن الأم ويأمل بالمستقبل؟
ثم يترجل الفارس عن فرسه بعد أن ضاع الأمل أو ضعف الجسد وقلت الهمم، عشق للوطن وصعوبة في ايجاد القيم…..هكذا هي في قصيدة ” المنفى كالحب” ثم يشتعل فيه الخوف على بلده ويحاول تفريغ اللوم وسحب الضحية من يدي الجلاد، ليضع المسؤول أمام محكمة الضمير الشخصية في قصيدة “وتريات ليلية”. وها هو يريد العراق حتى لو لم يكن في أبهى حلة في ليلة عيد، بل يكفي أن يكون موجودا مع ندبات مر عليها ألف عيد. أمنيات وضعها وتواضع في محتواها، هكذا هي قصيدة “ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة”.
إلى قصيدة ” عروس السفائن” يناديها ويناجيها ويسرد لها مكنونات صدره والآهات، لوم وعتب ووجع كطفل، كلاجئ، كمنفي، كعراقي، كناصري، كعربي، كلها أسباب للتمرد والنواح.
يحدّثك الدكتور عبدالحسين شعبان، الشخصية اللبقة والمثقفة، في كتاب “رحلة البنفسج” كما في كلّ كتبه بوضوح وبنبرة واثقة في تحليل السياسة والأحداث الجديدة، فلديه رؤية واضحة حول التطور والحداثة، كما حول الأصالة والعراقة. يحمل الهدوء والنضج في رؤيته وأطروحاته، وبقدر ما هو عراقي نجفي، فهو بيروتيّ. وإن سألته عن مدينة عاش فيها، فهو ذلك المكتشف الذي يفضي أسرارها ومقوماتها بحديث شيق من موصوفات ودلائل.
أين أنا؟
عشت بين سطور الكتاب، جلست معهم في المقاهي وطلبت قهوتي بدون سكر(مرة) لأتناول معها الحلوى كما أحب، وهكذا كان هذا الكتاب فيه المر من الأحداث، كما الحلو من إلهام وعظمة. كبرت في داخلي قضايا كثيرة كانت مزروعة في تربة خصبة، إلا أن اهتمامهم بها وقوة وجودها أعطتها غنى أعظم في نفسي كالحرية والنضال، وفلسطين والعروبة. قواسم مشتركة لدى هذه الشخصيات المبدعة؛ مثل مظفر النواب والجواهري وعبدالحسين شعبان وغيرهم من الشخصيات الثقافية الكبرى التي أغنت حياتنا، وكانت جسرا يربط الثقافة العراقية بالثقافة العربية، وهذه الأخيرة بثقافة المنطقة والثقافة العالمية.
هكذا كنت أغوص في أعماق كل قسم من أقسام هذا الكتاب القيّم، لأعرف أكثر عن الشعر والشاعر والكاتب والناقد، فتحية للعراق ومجدا للشعر.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.