مائة عام من الرفض.. “الگریلا” السلمية ليس "الانفجار
بدر اسماعیل شیروكي/ ظلت الشعوب التي عانت من الظلم عبر التاريخ أسيرة لقهر واضطهاد متواصلين، إذ إن من عاشوا تحت وطأة التاريخ الجائر سيظلون سجناء لماضيهم ما لم ينتزعوا مصيرهم بأنفسهم. ونحن كأمة لم نختبر بعد بريق التغيير التاريخي؛ فلا عبر قوة السلاح، ولا من خلال تضحيات الدم، ولا عبر تقديم القرابين تغير مسار الأحداث. فهل آن الأوان لإعادة النظر في أساليبنا ومفاهيمنا وتقاليدنا واستراتيجيات نضالنا القومي؟
ما كان يحدث خلف أبواب السجن المعزول في جزيرة “إمرالي”، لا يزال غامضًا، ومن المستبعد أن يكون كلّ شيء قد بدأ بمبادرة مفاجئة من السيد باغجلي والرئيس أردوغان. وبالمثل، لا يبدو أنّه سينتهي بمجرد ردّ حزب العمال الكوردستاني في قنديل على نداء السيد أوجلان، ذلك النداء الذي عبر أمواج بحر مرمرة الباردة وسط قنوات متعرّجة تحت سيطرة الدولة التركية.
ما الذي يجري على أرض الواقع اليوم؟ ما أبرز التحديات الكبيرة والتطورات الخطيرة؟ ما هي الاقتراحات الواعدة؟ من الذي ينبغي أن يتحمّل المسؤولية الأكبر؟ وما دور حزب العمال الكوردستاني بوصفه تنظيمًا، وأين يقف الشعب الكوردي في الشمال الذي دعم هذا الحزب على مدى أربعة عقودٍ كاملة، وقدّمه في مسرح السياسة والكفاح المسلّح؟
إن الأفق العام لهذه القضية غامض جدًا، والأمور أعقد وأربك من هدف “المجتمع الديمقراطي” المعلن. صحيح أنّ هذا الهدف أصبح جزءًا من نظرية حزب العمال الكوردستاني وشعاره النضالي، لكن من الواضح أنّ قضية السلام في تركيا لها أبعاد إقليمية وعالمية، وستؤثر على مصالح الدول الكبرى وتعاملها مع المنطقة. لذا لا يمكن النظر إليها بمعزلٍ عن التحولات السياسية وموازين القوى في العالم.
إذا كانت لدى الطرفين نيّة حقيقية لإنجاح السلام، فعلى الكورد أن يتجاوزوا مخاوفهم المشروعة، وعلى تركيا أن تتخلّى عن غطرستها في خطاباتها ومفاوضاتها. إذ إن التمسك بالخوف الكوردي وتشبث النظام بالتعالي يُفرِغُ السلام من معناه وروحه قبل أن يبدأ.
بعد دعوة زعيم حزب العمال الكوردستاني والرد شبه الإيجابي والمشروط من قنديل، أشارت تصريحات وسائل الإعلام والسياسيين الأتراك إلى أنّ الأرض ليست ممهدة بعد للخُطوة الأولى؛ بل هناك حاجة ماسّة للجهود والقوة والديناميكية لتجاوز العقبات وتفكيك المشاكل المتراكمة.
على الدولة القومية العميقة والعسكرتارية في تركيا أن تعي أن التاريخ لم يعد يدور حولها كما كان قبل مائة عام. لقد ولّى الزمان الذي كانت تُعَدّ فيه أية تغييرات جذرية بمثابة آرمغيدون (Armageddon) يُنهي كلّ شيء.
إنّ مطاردة الحركة الكوردية في الجبال والأنفاق والكهوف أدّت في الواقع إلى ازدهارها في أجزاء أخرى من كوردستان. وهذا يؤكد أنّ سياسة التدمير والإفناء وصلت إلى طريق مسدود. ففي عصر التنوير والنضج الاجتماعي، ما كان يُدفن في باطن الأرض عاد ليتحوّل إلى قوة مضاعفة.
ألم يُدرك الساسة الأتراك أنّ الإنفاق على مطاردة بضع مجموعات من (الكَريلا =المسلحون الثائرون) في جبالٍ نائية، أدّى إلى إهدار هائل في ميزانية الدولة، وتدمير للبيئة، وبناء للحواجز والمراكز الأمنية، وإثارة للحروب النفسية والثقافية والاجتماعية، وإرهاق للشوارع والبيوت؟ بينما تقدّم العالم الليبرالي بخطى ثابتة في الاعتراف بحقوق الإنسان الأساسية كاللغة والثقافة والتعليم في إطار الدولة الحديثة.
إنّ مائة عام من الرفض والقمع تثبت أن القوّة المجردة لا تستطيع المحافظة إلى الأبد على حدود الهيمنة. لا بدّ من التفكير في تقاسم القوة الناعمة، والسماح للكورد بالاستفادة من خيرات الجغرافيا، خصوصًا وأنّ الحركة الكوردية، برغم إرثها الطويل من الثورات والانتفاضات، تسعى اليوم إلى مشروع “المجتمع الديمقراطي”. على الأتراك أن يفرحوا لأجل هذا النهج الذي ينطلق من خيار السلام، بدل وضع الشروط المُحبطة أو التضييق كعزل رؤساء البلديات وتعيين قيّمين.
تواجه القوتان المسلحتان؛ التركية والكوردية، فشلًا في استراتيجياتهما القديمة، ما دفعهما نحو الليونة والبحث عن آفاق أخرى. إذ لم يعد بمقدور جنرالات الجيش التركي ولا قادة الكريلا إقناع صانعي القرار السياسي بالاستمرار في دوامة الدمار والإنهاك الاقتصادي والمجتمعي بلا نهاية.
كما أنه رغم تعزيز الجيش التركي بأسلحة حديثة وتقنيات الليزر والطائرات المسيّرة، ورغم تطبيق قانون الار*ها*ب على نطاقٍ واسع، فإنّ هناك ضغوطًا متزايدةً من أجل الاعتراف باللغات والثقافات والحريات الإنسانية الأخرى ضمن النظام العالمي الجديد. وبذلك، يصبح بقاء سياسات التدمير المستمرّة منذ عقودٍ أمرًا عبثيًا يبدد الطاقات.
بعد كل ذلك. ثمة أصوات داخل السلطة تصرّح بما مفاده: “ما دام قانون مكافحة الار*ها*ب ساريًا والعالم يستفيد منه، فلا داعي للرحمة تجاه حزب العمال الكوردستاني”، وبالتالي يبقى الحزب في قوائم الار*ها*ب. هذا الأمر يسهل استخدامه سيفًا مسلطًا على رقبة أي مكسبٍ ديمقراطي للكورد، ليتكرر ذبح حقوقهم التي انتزعوها بالنضال السياسي والمدني. بيد أنّ المعادلات الإقليمية والدولية الحالية باتت تصطدم بهذه الرؤية الأحادية، وتضغط على الدولة التركية في ملف القضية الكوردية.
السلام بالنسبة للكورد حاجة مصيرية ومطلوبة مرة واحدة، لكنه بالنسبة للأتراك حاجة أشد إلحاحًا وتتكرّر مرّات. إذ يواجه الأتراك تحدياتٍ إقليمية وضغوطًا عالميةً تجعل ضرورة السلام حيويةً لبقاء الدولة نفسها وتطوّرها.
خلال المئة عام الماضية، أحرقت الدولة التركية الكثير من الموارد والإمكانات للمحافظة على شعار “العلم الواحد والقومية الواحدة والتراب الواحد”. لكنها اليوم بدأت تدرك أكثر حدود قوتها ومصلحتها، وأنّ استهداف الكورد بصورةٍ ممنهجةٍ لن يفتح لها أبواب الاتحاد الأوروبي التي تسعى إليها، ولن يجعل الشرق الأوسط والعالم الإسلامي يستقبل سياساتها بترحيبٍ أكبر. لذلك، إذا أرادت التقدم الحقيقي، فلا بدّ من منح الكورد الحريات والمساحة الكافية ليصبحوا شريكًا في المصير والمصالح بدل بقائهم خصومًا أبديين.
وما دامت الدولة التركية ترفض رسميًا الاعتراف بالكورد ومطالبهم وحقوقهم كقومية ذات حضارة ولغة وثقافة أصيلة، فلا يُتوقع من الكورد الاعتراف بتركيّة البلاد كقومية سيّدة ومختارة. ففي عصر العولمة والتنوير، سيظلّ الكورد يبحثون عن حقوقهم الإنسانية والقانونية بأي شكل متاح لهم.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن حقًا بلوغ الأهداف الكوردية في شمال كوردستان عبر العمل البرلماني وحده، مستندًا إلى ديمقراطية تركية ما زالت غير ناضجة وتعاني من الحساسية تجاه النزاع المسلح؟ هل تجاوز مرحلة الكفاح المسلح يكفي لإقناع الدولة بتلبية المطالب القومية؟
إن دعوات إلقاء السلاح من قِبل حزب العمال الكوردستاني والدخول في العملية السياسية، ليست “انفجارًا كبيرًا” يعيد كل شيء إلى نقطة الصفر. فمنذ قرابة عقدين، بدأت معالم العالم الجديد بالظهور في تركيا، عبر انفتاحات ديمقراطية جزئية وضيقة.
ليس السياسيون وحدهم المعنيين بهذه المهمة، بل هي عملية مجتمعية كبرى. تقع المسؤولية على وسائل الإعلام، والفلاسفة، وعلماء الاجتماع، والكتّاب، والمؤرخين، والشعراء، والمغنّين، والرياضيين، والعمال، والكسبة، ونشطاء شبكات التواصل الاجتماعي كفيس بوك وتيك توك وغيرهم. إنّها مسألة بناء وعيٍ جديدٍ لا يتشكل إلا بجهود الجميع.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.